المصدر بوابة الوطن - اخبار الاقتصاد - من النسخة الورقية - كتب: عبدالفتاح فرج
عانت مصر فى الشهور الأخيرة من أزمة سكر طاحنة، حيث اختفت السلعة الاستراتيجية تماماً من محلات البقالة والتموين والمجمعات الاستهلاكية والسلاسل التجارية الكبيرة، ووصل سعر الكيلو، إن وجد، فى بعض المحال إلى 15 جنيهاً، كما تسبب نقص السكر فى ارتفاع أسعار الكثير من السلع المرتبطة به، مما اضطر الحكومة إلى استيراد آلاف الأطنان من الخارج، لتلبية الطلب المحلى المتزايد عليه وسد الفجوة الكبيرة بين العرض والطلب، ورغم ذلك فإن أعين المصريين والجهات الحكومية توجهت صوب مصانع السكر العملاقة، مع بداية موسم الإنتاج الذى يستمر لمدة 70 يوماً فقط، أملاً فى انتهاء الأشهر العجاف التى أثرت بشدة على المواطنين، وعلى الحكومة أيضاً، بعد قيام مزارعى الوجه القبلى بتوريد القصب بسعر 620 جنيهاً للطن لأول مرة. عايشت «الوطن» عمال مصنع أبوقرقاص للسكر فى محافظة المنيا، لمدة يوم كامل، فى بداية موسم توريد المحصول، للتعرف على طريقة تصنيع السكر من القصب، ومتابعة جميع مراحل الإنتاج، بدايةً من وزن الشحنات قبل التسليم، ودخول القصب إلى مرحلة التكسير والعصر، وحتى تعبئته فى أجولة كبيرة، وشحنه فى سيارات الشركات العامة، التابعة لوزارة التموين، والتقت عدداً من المسئولين والعمال بالمصنع، الذى ينتج نحو 660 طن سكر لحساب وزارة التموين يومياً.
على يمين الطريق الزراعى بمدينة «أبوقرقاص»، فى محافظة المنيا، يقع مصنع السكر الذى يحمل اسم المدينة فى زاوية متسعة تمتد لنحو 84 فداناً جنوب مدينة المنيا (عاصمة المحافظة) بنحو 15 كيلومتراً.. لافتة المصنع الزرقاء الكبيرة تزين البوابة الرئيسية، التى يتم فتحها للشاحنات واللوارى الكبيرة بشكل غير منتظم، على يمين البوابة يقع مبنى الإدارة القديم المكون من طابقين، فى الجهة المقابلة له يوجد خط إنتاج السكر من البنجر، وهو خط حديث تم إدخاله بالمصنع منذ أواخر تسعينات القرن الماضى، ويعطى هذا الخط ميزة نوعية للمصنع العملاق.
ويضم المصنع مجموعة من الكوادر البشرية، التى تمتلك خبرات كبيرة فى مجال صناعة السكر، ساهمت فى بناء العديد من مصانع السكر خارج مصر، خاصة فى السودان وإيران، ويحصل مصنع أبوقرقاص على بعض احتياجاته من قطع الغيار من مصنع «الحوامدية» فى الجيزة، فكلا المصنعين يتبعان الشركة القابضة للصناعات، وكما جرت العادة كل عام، فقد استهل عمال المصنع الموسم الحالى بذبح «عجل»، تبركاً بهذه العادة السنوية.
المصنع يضم كوادر بشرية ساهمت فى بناء مصانع للسكر فى السودان وإيران.. و100 موظف يراقبون جودة المنتجات 24 ساعة خلال موسم الإنتاج
وعلى شمال مصنع أبوقرقاص توجد منطقة فسيحة تتراص فيها مقطورات الجرارات الزراعية مع الشاحنات الكبيرة المحملة بأطنان القصب، وينتظر كل سائق دوره فى الدخول إلى بوابة تسلم محصول القصب، والعبور من مرحلة الوزن الإلكترونية، قبل أن يسمح له بالدخول إلى مرحلة التفريغ، حيث يتم رفع حمولة القصب مرة واحدة، بواسطة ونش ضخم يرفع أطنان القصب بسلاسل حديدية إلى أعلى، ثم يعيد وضعها فى صندوق حديدى كبير، وتعد هذه المرحلة أول خطوة من خطوات إنتاج السكر من القصب.
عقب تفريغ حمولة القصب فى الصندوق، يتم نقل القصب إلى الكسارة الأولى ثم الكسارة الثانية، لضمان تفتيت القصب قبل دخوله إلى مرحلة العصر، وعصّارة القصب بداخل مصنع أبوقرقاص آلة كبيرة جداً، وبها عشرات القطع وصوتها مرتفع، بالطابق الأرضى يسهل جداً رؤية عصير القصب وهو يجرى فى المجرى المخصص له، قبل أن يتم تصفيته ليدخل فى مراحل الإنتاج التالية، وتصفية العصير من «المصاص» تتم على أكثر من مرحلة، لضمان نقاء العصير، كما يتم عصر الفتات مرة أخرى، بعد إضافة المياه إليه، عبر مرحلة تسمى مرحلة الانتشار، لتحقيق أكبر استفادة ممكنة من القصب، ويتم عصر 60% من العصير فى المرة الأولى، ويسمى «عصير رئيسى»، فيما يتم الحصول على نسبة الـ40% المتبقية فى مرحلة الانتشار، وفق ما أكد أحد المسئولين فى إدارة المصنع، فى بداية الجولة.
بالقرب من كسارة القصب والعصارة، يوجد مبنى إدارة الرقابة الصناعية والجودة، ويضم المبنى معملين مجهزين بمعدات كثيرة لتحليل عينات القصب والعصير وقياس نسبة السكر فيهما، ويعمل فيهما عدد كبير من الكيميائيين من مختلف الأعمار، أحدهم «عادل أحمد الدكرورى»، قضى ما يقرب من 23 عاماً من عمره، البالغ 50 سنة، داخل أروقة هذا المصنع القديم، تدرج فى الوظائف حتى أصبح مديراً للرقابة الصناعية والجودة، حيث تحدث لـ«الوطن» بنبرة مملوءة بالثقة: «مهمتنا هى الرقابة على جميع مراحل الصناعة المختلفة، بداية من مزارع القصب وحتى إنتاج السكر منه، للتأكد من سلامة المنتج وقياس جودته ونسبة الحلاوة به، ونتابع الموازين الإلكترونية، ثم نتابع نسبة الشوائب فى القصب»، وأوضح أن «نسبة الشوائب المسموح بها فى القصب نحو 2%، ولو زادت هذه النسبة فى القصب المورد إلينا، يتم خصم نسبة الشوائب من الفلاحين حسب درجتها، ويتم ذلك عبر أخذ عينة من المحصول قبل العصر، لأن الشوائب، وهى عبارة عن الأوراق الجافة، تؤثر على عملية العصر والتخلص من المصاصات»، ولفت إلى أن عصير القصب يوجد به مياه بنسبة 75%، بينما تبلغ نسبة «السكروز» نحو 11%، وأكد أن إدارة الرقابة والمراجعة تعتبر جهة رقابية، يحق لها مراقبة كل المراحل، لضمان مستوى جودة السكر حسب المواصفات العالمية.
«الدكرورى»: «نراقب جودة الإنتاج بداية من الحقول وحتى التعبئة».. و«عبدالملك»: معالجة حرارية وكيميائية للتخلص من المواد غير السكرية
وأضاف «الدكرورى» قائلاً: «يصل عدد موظفى إدارة رقابة الجودة إلى 100 موظف، ما بين فنى وكيميائى وعامل، ويقسم هؤلاء العمال على 3 ورديات فى مواسم الإنتاج، لأن العمل بالمصنع يستمر على مدار 24 ساعة فى موسم إنتاج القصب وموسم إنتاج البنجر».
وفى مقدمة المصنع، يتم معالجة العصير حرارياً، ثم كيميائياً، فى المعالجة الحرارية يتم رفع درجة حرارة العصير من 25 إلى 103 درجات، أما فى المعالجة الكيميائية، فيتم إضافة «حمض الفوسفوريك» و«هيدروكسيد الكالسيوم» على العصير، وعقب ذلك تتم مرحلة الترويق، وتتم فى خزانات كبيرة، لفصل العسل الرائق عن جميع المعادن والأملاح الأخرى، للحصول على الرحيق والشربات، ويتم إضافة الرحيق على الطبخات التالية، للحصول على منتج قياسى، ليدخل فيما بعد إلى مرحلة البلورة، ثم يتم تجفيفه وتبريده قبل تعبئته ووزنه بالشكل النهائى، وكل هذه المراحل يتم الانتهاء منها خلال ساعات فقط، تصل فى بداية الموسم إلى 72 ساعة، لكن فى منتصف الموسم يتم قصر هذه المدة، لأن دورة الإنتاج تكون مكتملة وأسرع.
وعن استغلال كل جرام من عود القصب، قال «الدكرورى» إن «المصاص» يتم استخدامه فى حرق المراجل البخارية، تحت شبكة مواسير غلايات البخار، حيث يساعد على الاحتراق مثل الغاز الطبيعى، لذلك فهو يوفر فى استهلاك الطاقة طوال موسم إنتاج القصب، ويساهم أيضاً فى تشغيل توربينات الكهرباء، التى تغذى المصنع بالكامل، بالإضافة إلى المدينة السكنية والنادى الاجتماعى، حيث يوفر 30% من الطاقة المستخدمة طوال موسم الإنتاج، ولفت إلى أنه قبل إدخال الغاز الطبيعى للمصنع، كان يتم حرق المصاص مع «المازوت».
وفى الطابق الثانى من المصنع، توجد 4 صناديق صفراء اللون من الخارج، تقابل بعضها بعضاً، وبينها طرقة قصيرة، ويصدر من العسل الذى تم رفع درجة حرارته بخار كثيف يطغى على المكان.
ورغم أن أعمار عمال مصنع أبوقرقاص متفاونة، فإنهم يشتركون فى عدم التزامهم بارتداء زى موحد، أو ارتداء أى معدات وقاية، وداخل العنبر كان يقف الكيميائى «بهاء عبدالملك على»، مدير الدراسات والتخطيط، يرتدى «جاكيت» شتوياً بنى اللون، وقال: «نحن فى مقدمة المصنع الآن، وهنا يتم معالجة العصير حرارياً وكيميائياً، بهدف التخلص من المواد غير السكرية، وتعرف هذه المرحلة باسم الترويق، ثم نقوم بعملية التبخير، لزيادة تركيزه، ثم نقوم بإدخاله لمرحلة البلورة فى مؤخرة المصنع، وفيها يتم استخلاص السكر بعد تبخير العصير، ونوصل تركيزه إلى 64% مواد صلبة، وهنا بالتحديد يجرى ترويقه من السوائل».
عقب ذلك توجه «عبدالملك» إلى خزانات التبخير لتركيز العصير، بهدف زيادة نسبة المواد الصلبة به من 12 إلى 64%، ومن عنبر التبخير، توجه رئيس قسم التخطيط والدراسات إلى عنبر الطبخ، وهو الذى تتم فيه عملية البلورة للسكر الموجود فى الشربات، وأمسك بيده قطعة زجاج عليها عينة من السكر، وفحصها أمام لمبة حمراء، لقياس مدى تماسكها وصلابتها، بعد أن كانت مجرد سائل فقط، وقال: «هذه المرحلة تمهد لفصل السكر عن الرحيق الموجود به، حيث يتم الاستفادة من الرحيق من جديد فى عمليات التصنيع اللاحقة».
«ناصر سلمان»، عامل فى قسم الإنتاج، يعمل فى المصنع منذ 16 عاماً، مهمته الأساسية الإشراف على عملية طبخ السكر، قال عن طبيعة عمله: «مهمتى اليومية هى متابعة إناءين (قيزانين) من خزانات الطبخ، ومرحلة الطبخ تتم بعد خروج العصير من المعالجة الحرارية والكيميائية، وتتلخص فى تهيئة العصير لمرحلة البلورة»، وأضاف أن كل فرد من العمال يتابع 3 دورات من دورات الطبخ، لأن الدورة الواحدة تستغرق ساعتين ونصف الساعة، بعد تفريغ الخزان بشكل كامل قبل أن تتم تعبئته من جديد.
فى آخر مرحلة من مراحل إنتاج السكر، كان يقف «على محمد حامد»، مدير عام إنتاج مصانع سكر أبوقرقاص بين باقى العمال ليتابع سير العمل، يقول بنبرة مرتفعة ممزوجة بالفخر: «بعد تكوين بلورة السكر وسط محيط سائل يسمى المسكويت، يتم نفض هذا المسكويت لفصل السكر الصلب عن الرحيق، ويتم الاستفادة من الرحيق فى مراحل إنتاج لاحقة، ويتم ذلك بالتوازى مع إنتاج المولاس الذى يصنع منه الخميرة الجافة والكحول، وينتج مصنع أبوقرقاص 660 طن سكر يومياً، بواقع 220 طناً فى كل وردية، بالإضافة إلى إنتاج 250 طن مولاس يومياً».
بعد بلورة السكر وتجفيفه يتم نقله آلياً إلى خزانات كبيرة تمهيداً لتعبئته فى أجولة سكر بيضاء مكتوب عليها اسم شركة السكر والصناعات التكاملية التى يتبعها المصنع، بوزن 50 كيلوجراماً، بعد ختم كل شيكارة بخاتم المصنع والشركة والتاريخ، ويتم تعبئة الأجولة آلياً ويشرف على التعبئة عدة عمال بجانب بعض الإداريين الذين يراقبون وزن الشكائر على ميزان صغير إلكترونى، من خلال سحب بعض العينات بشكل عشوائى، قبل أن يتم إخراج الأجولة البيضاء عبر سير خارجى يتجه لأعلى، وخلف السير خارج عنابر الشركة يقف عمال الشحن على مربع خرسانى يرتفع عن الأرض مسافة متر ونصف المتر، وينقلون تباعاً الأجولة على شاحنات شركات التجارة العامة التابعة لوزارة التموين. وفى مخازن هذه الشركات يجرى تعبئة السكر فى أكياس صغيرة من جديد حيث يبلغ وزن كل كيس «واحد كيلو» فقط، كما يجرى تعبئة جزء من الأكياس زنة الكيلو داخل المصنع نفسه.
اقرأ أيضاً :
======
تعليقات
إرسال تعليق