عبد الناصر يرد على اتهامات خروشوف
كانت اجواء العلاقات المصرية السوفيتية قد التهبت لأكثر مما ينبغي، بل بلغت الحد الذى لم تكن لتتحمله علاقة وليدة لم يكن عمرها تجاوز خمسة أعوام، وهو ما تناوله عبد الناصر فى خطابه الذى القاه فى دمشق فى 22 مارس 1959 ردا على انتقادات نيكيتا خروشوف:
«إننا حينما نعبر عن قوتنا فنحن نستمد هذه القوة من بلدنا لا من بلد أجنبي، وفى جميع أطوار كفاحنا كنا نعتمد على أنفسنا أولاً بعد الله.. كنا نعتمد على أنفسنا ولم نكن بأى حال نعتمد على قوة أجنبية .. وقد كافحتم فى الماضى الطويل ضد السيطرة الأجنبية وضد الاستعمار، ولم نكن فى هذا - أيها الإخوة - نعتمد على دولة تساندنا أو قوة تشد من أزرنا، ولكنا كنا نعتمد اعتماداً كلياً على الله وعلى أنفسنا » .
يواصل الأهرام اليوم نشر الوقائق المتبادلة بين عبد الناصر وخروشوف ويرد الرئيس المصرى الراحل فى هذه الحلقة على اتهامات المسئول السوفيتى له.. فى وقت التهبت فيه أجواء العلاقات بين البلدين..
و«إننا - أيها الإخوة - لم نكن بهذا نعبر عن صغر السن أو الحماس أو الاندفاع -كما يقول «خروشوف» - ولكننا نعبر عن إيماننا بوطننا ، وإن «خروشوف» - رئيس وزراء الاتحاد السوفيتى - تكلم منذ أيام وعلق على غضبتنا من أجل حريتنا ومن أجل بلدنا، من أجل قوميتنا ومن أجل عروبتنا .. علق ببساطة، وقال: إن عبد الناصر رجل صغير السن متحمس ومندفع !! ......... وأنا أحب أن اقول اليوم - أيها الإخوة - إن عبد الناصر ليس وحده المتحمس المندفع، ولكن الشعب العربى كله متحمس ومندفع، ولولا هذا الاندفاع لما استطعنا - أيها الإخوة - أن نحقق هذه المعجزات الكبار» .
..........
ولهذا - أيها الإخوة - وأنا أقول للسيد «خروشوف»: إن هذا الحماس وهذا الاندفاع الذى أشرت إليه إنما كان هو الوحيد الذى مكن بلادنا من أن تبقى مستقلة، وأن تقضى على العدوان الثلاثى، وألا نكون قاعدة للاستعمار الغربى أو قاعدة ذرية أو قاعدة صاروخية. فإذا قمنا اليوم - أيها الإخوة - لنجابه الخطر الجديد بنفس الحماس ونفس الإيمان، ونجابه الخطر الجديد بنفس الحماس ونفس الاندفاع، فإننا نعتمد أيضاً على الله ونعتمد على أنفسنا كما اعتمدنا على الله وعلى أنفسنا فى الماضي، وسننتصر بعون الله فى هذه المعارك كما انتصرنا بعون الله فى المعارك الماضية».
..........
وتمضى الايام تباعا ، فيما تصاعدت الحملات الكلامية التى باتت تهدد اكثر من ذى قبل تطور العلاقات المصرية السوفيتية، وهو ما دفع الزعيم السوفييتى نيكيتا خروشوف على ما يبدو الى معاودة الكتابة الى عبد الناصر على نحو اكثر تفصيلا، وبلغة تعكس ما يعتمل فى النفوس من مرارة واسف شديدين تجاه تدهور العلاقات بين البلدين، وهو ما قال عنه خروشوف «انه يحدث عن غير مسئولية من جانبهم».
رسالة ن. س. خروشوف الأمين الاول للجنة المركزية للحزب الشيوعى ورئيس مجلس وزراء الاتحاد السوفيتى الى جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة.
12 ابريل 1959
السيد الرئيس المحترم !
انتهز فرصة ان السفير يغادر الى القاهرة لارسل اليكم معه هذا الخطاب .. ويطيب لى مستذكرا تلك اللقاءات والاحاديث الحميمية التى جرت بيننا خلال زيارتكم لبلادنا ، ان اشاطركم وعلى نحو يتسم بالصراحة، ما راودنى من افكار خاصة ما يتعلق منها بخطاباتكم الاخيرة ، ولن اخفى عليكم اننا هنا فى موسكو نعرب عن اسف شديد تجاه تعكر صفو العلاقات بين بلدينا، وليس بمبادرة من جانبنا.
لقد اوجزت فى رسالتى السابقة بعض الافكار التى تصورتها لقيت تفهما من جانبكم ، غير انه وسرعان ما كان توتر العلاقات بين ج ع م والجمهورية العراقية سببا فى صدور مثل تلك التصريحات بحق الاتحاد السوفيتى والتى يصعب علينا اغفالها لما فى ذلك من اهمية تعنيها علاقات الصداقة بين بلدينا لدعم السلام فى الشرق الاوسط ، بل ليس فى الشرق الاوسط وحده.
..........
اننا ايضا لم نكن لنخفى ابدا مدى ارتياحنا للحقبة الطويلة من علاقات الصداقة القائمة على الثقة الوطيدة معكم ومع قيادات مصر الجديدة ثم الجمهورية العربية المتحدة.
..........
ومضى خروشوف ليتوقف عند الخلافات التى نشبت بين الجمهورية العربية المتحدة والجمهورية العراقية معربا عن اسفه تجاه ان ذلك لا يساعد على توطيد التضامن بين البلدان العربية، بينما اكد ان ذلك لن يفيد سوى قوى الاستعمار والامبريالية، وان ما شهدته المنطقة من عدوان ثلاثى انجليزى فرنسى اسرائيلي، ومغامرات عسكرية امريكية انجليزية، وانجليزية فرنسية ضد سوريا ولبنان والاردن خير دليل على ذلك.
..........
«انكم قلتم سيادة الرئيس فى خطاباتكم اكثر من مرة ان الاتحاد السوفيتى لم يكن يعتزم بشكل جدى تقديم المساعدة اليكم سواء خلال العدوان الثلاثى الانجلو فرنسى اسرائيلى ضد مصر، او حينما ظهرت الاخطار التى كانت تهدد سوريا. لكنكم سيادة الرئيس تعلمون جيدا ان ذلك يجافى الحقيقة ، لقد كانت افعالنا وخططنا التى حددناه فى بلادنا بمناسبة هجوم المعتدين على مصر، وكذلك لحظة ظهور الاخطار ضد سوريا من جانب الامبرياليين، تستهدف تقديم الدعم الفعال سواء لمصر او لسوريا ، ولعلكم تذكرون جيدا اننا كنا على استعداد للسير الى ما هو ابعد كثيرا لوقف اعمال المعتدين التى كانت تستهدف النيل من استقلال الشعوب العربية.
وانتم تعلمون يا سيادة الرئيس انه وحين اندلعت الثورة فى العراق وناقشنا معكم فى موسكو القضايا المتعلقة باحتمالات ما يمكن ان يقوم به المعتدون ضد الشعوب العربية، اننى قلت لكم آنذاك اننا سنتخذ من جانبنا كل الاجراءات الممكنة فى حال تعرض الجمهورية العراقية للعدوان، لكننى ومع ذلك افصحت لكم عن تصوراتى تجاه ضرورة اتخاذ كل ما من شأنه تقرير القضايا التى يمكن ان تظهر بالطرق السلمية وبدون اشعال الحرب ، ولما كنا نعلم مدى اندفاعكم (سرعة انفعالكم) فقد كنا نخشى ان يكون دعمنا اللامحدود لميولكم المفعمة بروح القتال يمكن ان تدفعكم الى اشعال الاعمال القتالية التى كنا ومازلنا نعتبرها غير لازمة ويمكن ان تفهموها وكأنها موافقة من جانبنا على الاعمال الحربية.
انكم سيادة الرئيس وعلى ما يبدو يجب ان تذكروا عندما تقدمتم الى بطلب امدادكم بالقاذفات المتوسطة والصواريخ متوسطة المدى ، اننى قلت لكم ان مساحة اراضيكم صغيرة الى الحد الذى يصعب معه استخدام هذه الوسائل.
لقد سألتكم آنذاك عما تعتبرونه صواريخ متوسطة المدى وانكم قلتم لى انكم فى حاجة الى صواريخ يبلغ مداها 50-70 كيلومترا ، وقد قلت لكم ان صواريخنا متوسطة المدى مخصصة لمسافات 2000-4000 كم ، وانها بطبيعة الحال لا تناسبكم . واذا ظهرت الحاجة لاستخدام مثل هذه الصواريخ فإنه على ما يبدو يكون من الافضل اطلاقها من اراضينا، بما يعنى انكم لستم فى حاجة الى مثل هذه الصواريخ ، لكنكم تستطيعون الاعتماد على اننا سوف نساعدكم بهذه الصواريخ من اراضينا فى حال شن اى معتد الحرب ضدكم .
ولا اريد ان اخفى عليكم واقع اننا وحين لم نوافق على اقتراحكم بامدادكم بالقاذفات والصواريخ متوسطة المدى ، كنا نعنى انه فى حمية الغضب التى يمكن ان تنجم عن الوضع القائم، الحيلولة دون ان تقدموا على ما من شأنه اشعال نيران الحرب.
انكم تعلمون جيد العلم ايضا، اننا كنا على استعداد لتقديم الدعم لكم ، وللجمهورية العراقية بعد قيام الثورة هناك فى يوليو 1958 ، حين كانت تركيا وايران وباكستان تستعد للقيام بأعمال عسكرية ضدها».
..........
ومضى خروشوف ليؤكد ان ما جرى من احداث لاحقة أكد صدق توقعات القيادة السوفيتية بما فى ذلك امكان الحيلولة دون اندلاع الحرب من خلال السبل السلمية ، واشار الزعيم السوفيتى الى ما دفع به الاتحاد السوفيتى من حشود عسكرية الى الحدود المتاخمة لتركيا وايران فضلا عما قامت به بلغاريا فى اطار نفس التوجهات تأكيدا لما قاله حول استعداد بلاده لمساعدة الاخوة العرب على حد وصفه، مؤكدا عدم صدق ما قاله عبد الناصر حول ان العرب كانوا وحدهم فى مواجهة العدو.
عاد مرة اخرى ليؤكد بكل الصراحة ان الاتحاد السوفيتى ولأنه يعلم مدى اندفاع وحمية انفعال عبد الناصر، لم يكن يريد له ان يفهم المساعدة الفورية، كدافع نحو القيام باعمال قتالية، فيما اعاد الى الاذهان ما قام به ابان العدوان الثلاثى ضد مصر ، وما جرى بشأن سوريا».
..........
«اود هنا التوقف عند مثل هذا الموضوع .. لعلكم تذكرون جيدا انكم وفى معرض احاديثنا خلال زيارتكم الاخيرة لموسكو انكم اعربتم عن عدم ارتياحكم تجاه حكومات بعض الدول العربية المجاورة لكم وسألتمونى عما يجب عمله من اجل تغيير الاوضاع الداخلية فى هذه البلدان المعادية للجمهورية العربية المتحدة و المساعدة التى يمكن ان يقدمها الاتحاد السوفيتى فى هذا الشأن ، وانتم تذكرون اننى ردا على ذلك قلت لكم بضرورة التحلى بالصبر وانه يجب عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول الاخرى ، و قلت انه يجب التأثير على هذه البلدان من خلال النموذج الجيد للجمهورية العربية المتحدة، اى عن طريق رفع مستوى اقتصاد وثقافة ورفاهية شعوب جمهوريتكم وعن طريق بناء النظام الذى يمكن ان يوفر لكل القوى القومية التى تقطن بلادكم فرصة وامكان المبادرة ، لقد نصحتكم بالعمل من اجل ان يكون الاقتصاد والنظام فى الجمهورية العربية المتحدة جاذبين للبلدان العربية الاخري، وان تستقطبوا الشعوب من خلال هذه النماذج الايجابية، كى تقوم هذه الشعوب بالضغط على حكوماتها ، و من اللازم العمل من اجل توفير الظروف المناسبة لتوحيد الدول العربية والوقوف صفا واحدا ضد الاخطار التى تتهددها من جانب الامبرياليين والمستعمرين.
واذكر انكم ابتسمتم آنذاك وقلتم اننى لا اراعى بشكل واقعى الاوضاع فى البلدان العربية، وقلتم انه يستحيل دون التدخل العسكرى تغيير اى شيء ، وان الامر يتطلب اجراءات اكثر حسما.
وقد اجبتك عندئذ ان التدخل العسكرى او غير العسكرى فى الشئون الداخلية للبلدان العربية قضية بالغة الخطورة وان ذلك لن يسفر عن توحيد الصف بل على العكس سوف يفرق جهود البلدان العربية ، ويبدو اننى آنذاك لم أستطع اقناعك، وان كلا منا ظل عند رأيه ».
..........
وخلص خروشوف الى ان الاحداث اللاحقة فى العراق اكدت ما قاله لعبد الناصر، حول انها تخدم مصالح المستعمرين وليس الشعوب العربية ، واعاد الى الاذهان ان عبد الناصر كان يود بما قاله حول التدخل فى الشئون الداخلية للبلدان العربية الحصول على دعم الاتحاد السوفيتى وهو ما تداركه خروشوف فى حينه حسب قوله ، وقال أن بلاده سوف تمضى قدما نحو دعم البلدان العربية فى مواجهة المستعمرين، لكنها لن تفرض صداقتها على احد ، انطلاقا من المبادئ اللينينية للتعايش السلمى وعدم التدخل فى الشئون الداخلية.
..........
«اننا ندرك أنكم تواجهون صعوبات جدية ونحن نرى هذه الصعوبات ، غير اننا نعتقد من جانبنا بعدم صحة الاعتماد على امكان تجاوزها من خلال اعلان الحرب على الشيوعيين و«الشيوعية العالمية» ، فالطريق الذى اخترتموه لذلك طريق خاطئ ولن يفضى بكم، لا الى المجد ولا الى الصواب«.
..........
لقد اكدتم فى خطاباتكم الاخيرة، وكأنما تعرضتم لتدخل من جانب الاتحاد السوفييتى فى شئونكم الداخلية ، واستندتم فى ذلك الى حديث جرى بيننا خلال زيارتكم الرسمية للاتحاد السوفيتى فى ابريل-مايو 1958 وبعد عودتكم من زيارة يوجوسلافيا بعد اندلاع الثورة فى العراق ، فلقد اعلنتم على سبيل المثال اننى وكانما قلت خلال احد هذه الاحاديث اننى قلت قد يكون من الافضل اذا جرى السماح للحزب الشيوعى السورى بمواصلة العمل.
لقد قضينا معكم وقتا طويلا فى احاديث اتسمت بالصراحة ، وتحدثنا كثيرا وقضينا وقتا طويلا حين قمتم بزيارتكم الاخيرة لنا ، فإننى اذكر جيد هذه الاحاديث ومن الواجب ان اقول انكم لا تلتزمون دائما بالدقة لدى إعادة سرد مضمونها ، و يبدو ان ذلك يعود الى انكم لم تسجلوا شيئا عنها وتعتمدون فقط على الذاكرة ، و اننى ايضا اعتمد على الذاكرة ، لكننى والى جانب ذلك استخدم للمزيد من الدقة ما يسجله المترجم لدى ممارسة عمله ، وذلك يعنى ان ما اقوله يعتبر الاكثر دقة«.
..........
واستطرد خروشوف ليقول انه لم يكن ليسمح له لنفسه بطلب شىء بخصوص الشيوعيين السوريين نظرا لانه كان يعلم وجهات نظر عبد الناصر المعادية للشيوعية فضلا عن سياساته تجاه ملاحقة الشيوعيين فى مصر ، واضاف ان اصول اللياقة ايضا لم تكن تسمح بذلك لاسباب ليس اقلها ان عبد الناصر كان ضيفه.
وانتقل خروشوف الى ما قال انه سبق وتطرق اليه فى حديثه مع عبد الناصر حين قال له ان السوريين هم الذين تعجلوا اتمام الوحدة مع مصر وان الاحزاب السياسية السورية لا تمثل الشعب ولذا فان التعاون مع مثل هذه الشخصيات يثير شكوك الشعب تجاهه ، وضربتم مثلا بنائبكم اكرم الحورانى الذى قلتم انكم تنوون التخلص منه وعزله ، واكد انه نصحه آنذاك بعدم اتخاذ مثل هذا القرار نظرا لانه يمثل احد الاحزاب السورية فضلا عن انه يشغل منصب نائب عبد الناصر مما لابد ان يؤلب عليه انصار الحورانى فى الحزب الذى يمثله ، واعاد تذكير عبد الناصر الذى وافقه الرأى بهذا الصدد.
..........
» وخلال حديثنا وبمبادرة منكم تطرق الحديث الى الشيوعيين المصريين ، وقلت ان الامر يتعلق بكم على الرغم من انني، ولا اخفى ذلك، اتعاطف مع الحركة الشيوعية ومع الشيوعيين ، واذكر انكم اجبتمونى بان شيوعيكم ليسوا كما الشيوعيين الذين عندنا، وان الحزب الشيوعى فى مصر يضم اناسا غير بارزين، اناسا من الدرجة الثانية كما وصفتموهم فى ازدراء«.
..........
ومضى خروشوف فى رحلة الذاكرة ليكشف عن انه وما دام السيد الرئيس هو الذى طرح هذه القضية فانه يجد لزاما عليه ان يقول ان كل شيء.
المصدر الاهرام
تعليقات
إرسال تعليق