"الوطن" تكشف أخطر عمليات الصاعقة فى سيناء وتفاصيل 7 أشهر من المطاردات
من النسخة الورقية لـ جريدة لوطن
صالح خلال تكريمه
صالح مع محرر «الوطن»
لم يكن صالح بيومى الرقيب بالصاعقة المصرية يتوقع وهو ينزل إلى شط القناة لدخول سيناء مساء يوم 6 أكتوبر 73 أنه سيمر بأكبر مغامرة بحياته، مغامرة سيظل يتذكر تفاصيلها بالكامل حتى بعد مرور 42 عاماً كاملة على تفاصيلها التى استمرت 7 أشهر كاملة. فقد سبق لبيومى دخول سيناء 3 مرات من قبل فى مهام استطلاع خلف خطوط العدو، وهذه المرة سبقته قبل ساعات الطائرات المصرية التى عبرت فوق رؤوس الجنود إلى شمال سيناء فى معركة استعادة الكرامة، إلا أنه بعد بدء الحرب بـ6 ساعات وصلت تعليمات لفرقة الكوماندوز المصرية بدخول سيناء لرصد تحركات الجيش الإسرائيلى ورصد نوعية الأسلحة والقوات التى يتم نقلها من جنوب سيناء إلى منطقة العمليات وسط سيناء.
«لم أكن ضمن فريق العملية، كان هناك ثلاثة زملاء آخرون هم المكلفون بالعملية، وكنت معهم على شط القناة مساء يوم 6 أكتوبر للمساعدة، إلا أنه فجأة قرر المقدم عمرو فاروق وكان وقتها قائد العملية أن أحل محل زميلى صلاح درويش نظراً لأنى دخلت سيناء من قبل ولخطورة العملية».. بهذه العبارة بدأ «بيومى» سرد قصته مع أهم عملية استطلاع خلال حرب أكتوبر، والتى استغرقت 7 أشهر من المطاردات فى جنوب سيناء، مضيفاً: «ساعتها دخل صلاح الله يرحمه فى نوبة بكاء وحزن حزناً كبيراً.. وهكذا بدأت المهمة الأصعب فى حياتى، والتى كانت تضم الملازم أول وقتها سامى بركات قائد المهمة، والرقيب صالح بيومى، والعريف إبراهيم الخشان».
وأضاف بيومى: كانت المهمة تهدف فى الأساس لرصد تحركات القوات الإسرائيلية من الجنوب نحو الشمال عبر عدة ممرات كانت القيادة تريد معرفة نوعية المركبات والقوات التى يتم نقلها، وأعدادها، لذلك كان مطلوباً منا أن نرصد الحركة فى مطار أبورديس العسكرى، وبالفعل تحركنا ليلاً نحو جنوب سيناء فى لنش بحرى، لكننا لم نستطع النزول فى نقطة الإنزال المتفق عليها وكانت عند النقطة 35، نظراً للتشديدات الإسرائيلية، فقد كانت الحرب بدأت قبل عدة ساعات، والإسرائيليون مستنفرون للغاية لمنع أية عملية تسلل، وهو ما اضطرنا لتغيير نقطة الإنزال ونتجه إلى نقطة أخرى أبعد كثيراً عند جبل «أبو ضلبة».
صالح خلال تكريمه
وتابع: بالفعل اتجهنا إلى هناك وكان هذا القرار يعنى أننا سنمشى مسافة يومين لنصل إلى هدفنا حسب الخطة الموضوعة، وحينما وصلنا إلى النقطة الثانية ونزلنا وجدنا مانعاً مائياً، وتخطيناه، وبعد مرورنا وجدنا طريق جبل أبوضلبة، فاعتلينا الجبل منذ الساعة الواحدة والنصف وحتى السادسة صباحاً. اضطررنا للاختباء حتى المساء، وواصلنا المشى لنصل إلى جبل المزادات، وواجهنا عقبات كثيرة جداً وصعدنا وهبطنا جبالاً متعددة، ونفد الأكل والشرب منا بعد يومين من المشى، فاضطررنا إلى شرب بولنا، وأكل الأعشاب التى تقابلنا. وبعد مناورات للاختباء من قوات الاستطلاع الإسرائيلية التى كانت تمشط المنطقة بشكل مكثف، وصلنا إلى نقطة الرصد، وبدأنا مهمتنا وصورنا المطار وما يجرى فيه، ثم أخذنا طريق العودة إلى نقطة الإنزال الأولى، لنمر بنفس الطريق الشاق الذى مررنا به فى رحلة الوصول.
وأوضح «بيومى»: كانت المدة المحددة لإنجاز المهمة 7 أيام، وبعد يومين من المشى فى طريق العودة، وصلنا للنقطة التى ستتسلمنا منها اللنشات المصرية بالقرب من جبل أبوضلبة، إلا أننا تفاجأنا بنصب اليهود كمائن عند سفح الجبل، إضافة لنقطة استطلاع أعلاه، وهو ما دفعنا للعودة والاختباء فى مغارة حتى المساء.
فى موعدها المحدد جاءت اللنشات المصرية لنقطة التسلم، إلا أنها فوجئت بكمين فى عرض المياه، وبمجرد اقترابهم من الشاطئ لالتقاطنا وجه الإسرائيليون الـ«كشافات» عليهم، ما اضطرهم للرجوع بعد اشتباكهم مع القوات الإسرائيلية، وعندها علمنا أن مهمتنا لن تنتهى فى موعدها، وأننا لن نعود بسهولة، خصوصاً أن جهاز اللاسلكى الذى كنا نحمله تعطل هو الآخر لنفقد الاتصال بالقيادة فى مصر، فقررنا التحرك من المنطقة لأنها كانت شديدة الخطورة.
■ وماذا فعلتم بعد ذلك؟
- تحركنا فى طريق وادى عربة حتى وصلنا عند قبيلة الحويطات، وهناك وجدنا بدواً يرعون الغنم فقال عتيق الدليل البدوى المرافق لنا «هاروح آخد منهم شوية ميّه»، وجاب منهم ميّه واستأذن مشايخ القبيلة فى اختبائنا فى أراضيهم ووافقوا فوراً.
وبعدها فوجئنا بطائرة تمشط المنطقة كلها، ووجد الإسرائيليون آثار أقدامنا على الرمال فتتبعوها، ولكن حظنا كان جيداً، لأننا كنا دخلنا لمنطقة صخرية شديدة النعومة، فاختفت آثار أقدامنا، لكنهم كانوا قد عرفوا أن هناك غرباء فى نطاق قبيلة الحويطات، فداهموا زمام القبيلة وحرقوا الخيام واعتدوا عليهم حتى يشوا بنا، لكنهم لم ينطقوا. وفى المساء جاءنا الرجل الذى منحنا المياه، واحضر لنا رغيفى خبز ومياه، وحكى لنا عما حدث، وطالبنا بترك المكان لأن الإسرائيليين كانوا يستعدون لإطلاق عملية موسعة للبحث عنا، وبالفعل تحركنا سيراً طوال الليل، حتى وصلنا «جبل حدران»، مع أول ضوء للصباح، ونادى الدليل على شخص يدعى عم «مرضى»، الذى تسلمنا، وطالبنا بخلع ملابس الصاعقة وأحضر لكل منا جلباباً بدوياً.
■ وماذا فعلتم فى السلاح الذى كنتم تحملونه؟
- أخفيناه فى مكان ما، ولم نأخذ معنا غير الطبنجات والقنابل، واختبأنا عنده فى مغارة داخل الجبل، تبعد مسيرة 6 ساعات عن منزله، وكان يحضر لنا الأكل كل يومين، وكان عبارة عن رغيفين خبز أو علبتين خضار مجففتين، وفى أحد الأيام وصلت دورية إسرائيلية للمكان الذى كنا نختبئ فيه وجلسوا فوقنا مباشرة ثم انصرفوا، دون أن يكتشفوا أمرنا.
■ وما موقف قيادات الجيش هل فقدوا الأمل فى عودتكم بعد فقدان الاتصال بكم.. وهل تركوكم تواجهون مصيركم وحدكم؟
- لا طبعاً.. بعدما تعطل جهاز الاتصال، وفقدنا التواصل مع القيادة، حاولوا البحث عنا بكل الوسائل، ومع نهاية شهر رمضان بدأت التحركات بحثاً عنا، وفى أول يوم العيد، جاء دليل عربى اسمه سالم- لعم «مرضى» الذى نختبئ عنده، وسأله عن عتيق الجبالى الدليل الذى كان يرافقنا فى بداية العملية، وعندما قال له «لم أره»، أخبره أن هناك مجموعة من الصاعقة فى المنطقة وأنه يبحث عنهم لإعادتهم، إلا أن «مرضى» خاف لأنه لم يكن يعلم أن سالم يعمل مع المخابرات، ونفى تماماً علمه بوجودنا.
وبعدها عاد سالم لقبيلته، ووشت به زوجة شيخ القبيلة للإسرائيليين، لأن الاحتلال كان قد أصدر قراراً بمنعه من دخول سيناء نظراً لتعاونه مع الجيش المصرى، وقبض عليه اليهود، واعترف تحت الضغط والتعذيب أنه جاء للبحث عن فرقة من الصاعقة، وفى هذه اللحظة تأكد الإسرائيليون من وجود جنود مصريين بسيناء.
■ ماذا حدث بعد ذلك؟
وصلت أخبار ما حدث لقبيلة الحويطات، التى بقينا عندهم شهرين كاملين، وأصبح وجودنا عندهم خطراً كبيراً، فتم نقلنا إلى منطقة الروضة بدير سانت كاترين، وتسلمنا الشيخ إبراهيم مطر أحد مشايخ قبيلة الجبلية، ووضعنا فى مغارة فى الجبل، وبقينا بها شهراً، نختفى تماماً فى النهار لأن الدوريات الإسرائيلية كانت تمشط كل شبر بحثنا عنا. وكان الشيخ إبراهيم يرسل فتاة ترعى الغنم تدعى كريمة حول المغارة لإخفاء أى آثار لنا، وفى هذه الأثناء كان الإسرائيليون يبحثون عنا، وفتشوا كل مغارة وكل جبل وكل بيت بحثاً عنا، وفى ليلة جاء لنا ابن الشيخ إبراهيم مساءً وطلب أن نغادر سريعاً بلا أى صوت وأخذنا فى الظلام لمكان غريب، وفتح باباً صغيراً جداً، وقال ادخلوا، فدخلنا ليغلق الباب علينا دون أن ينطق بكلمة واحدة.
حاولنا اكتشاف المكان بعد انصرافه، فعلمنا أننا داخل مقبرة، وتعثرت فى عظام أحد الموتى، وعندها أصبنا بحالة إحباط وغضب، وظللنا فى المقبرة 3 أيام، لم يكن معنا خلالها سوى قليل من الخبز والماء فقط، والحقيقة أن «محدش جاله نفس ياكل، فدفننا أحياء أصابنا بحالة نفسية سيئة جداً لكننا فى النهاية تماسكنا وسلمنا قدرنا لله». وتوقف «بيومى» عن الحديث قليلاً، وظل للحظات ساهماً قبل أن يضيف: «دفننا أحياء غير كثيراً من قناعتنا، أصبح الموت بالنسبة لنا بلا قيمة، لم نعد نهابه أو نخافه، لكنها تجربة قاسية جداً.. تخيل أنت فى مقبرة مظلمة والعظام والجماجم حولك فى كل مكان، والصمت لغة القبر الوحيدة».
وعندما جاءوا لنا بعد 3 أيام ليخرجونا كان الغضب يتملكنا، وكانت وجوهنا بلا لون تقريباً، لكن للحقيقة الشيخ إبراهيم نجح فى امتصاص غضبنا بهدوء، وشرح لنا الوضع الذى لم نكن نعرفه، مشيراً إلى أن اليهود كانوا يعلمون أننا موجودون فى المنطقة، وفتشوها بشكل مكثف طيلة الثلاثة أيام، وقال «فعلنا كل شىء لنخفيكم عن أعينهم، لكنهم فتشوا كل حبة رمل، ولم نجد أى مكان غير هذه المقبرة نضعكم فيه»، وحكى لنا كيف وصل جنود الاحتلال إلى المغارة التى كنا نختبئ بها بعد مغادرتنا مباشرة.
بعد ذلك انتقلنا إلى جبل «السبع بنات»، وتسلقناه رغم أنه عالٍ جداً، ودخلنا فى مغارة فيه، وكان البدو يأتون لنا كل أسبوع مرة، وفى يوم شعرت بمغص كلوى، فجلست خارج المغارة حتى لا يشعر زميلاى بما أعانيه من ألم، وفى النور فوجئت بـ«قمل» وحشرات من كل الأنواع على جسدى، وعندها تذكرت أننا لم نستحم طوال تلك الفترة، فبالكاد كنا نحصل على مياه الشرب.
■ وهل استمر بقاؤكم هناك فترة طويلة؟
- لا.. تم نقلنا مرة أخرى إلى جبل آخر، حفروا فيه مغارة أشبه بالقبر تحت صخرة كبيرة، وشددوا علينا ألا نتنفس، وعلمنا وقتها أن مدير المخابرات الحربية الإسرائيلية اجتمع مع مشايخ الجبالية ومنهم الشيخ إبراهيم وقال لهم نعرف أن هناك «كوماندوز» مصريين هنا، وعرض عليهم حقيبة كبيرة مليئة بالأموال مقابل تسليمنا أو أى معلومة عنا، لذا بدأت إجراءات نقلنا وتأميننا تزيد وتتعقد، لدرجة أن الشيخ إبراهيم نفسه كان مراقباً ولم يتمكن من أن يزورنا لفترة طويلة وكان ابنه هو همزة الوصل بيننا، ومر علينا فى تلك المغارة نحو شهرين.
أختفينا فى مقبرة لـ3 أيام.. واضطررنا لشرب البول وأكل الأعشاب.. وتسلقنا جبل «السبع بنات»
وفى إحدى الليالى دخل علينا ياسين ابن الشيخ إبراهيم، ومعه والدته، التى قدمت لتوديعنا لأن زوجها كان مراقباً، وأعطونا مطواة وعصا تشبه عصا سيدنا موسى، وسلمانا إلى اثنين من الأدلاء هما خضر وعواد، لبدء رحلة العودة إلى السويس، وسرنا معهما من جنوب لوسط سيناء لتبدأ رحلة طويلة للعودة استغرقت 11 يوماً مشياً على الأقدام حتى وصلت معسكر للجيش المصرى، الذى عبر للضفة الأخرى، فقد كانت قد مرت 7 أشهر، ذهبنا فى أكتوبر، وعدنا فى أبريل، ونادى الشيخ صالح الدليل على الضابط النوبتجى، الذى سارع لاستقبالنا ووصل بعدها قيادات ورئيس أركان الجيش الثانى، واتصلوا بمكتب مخابرات السويس، ونقلونا فى سيارة لمكتب السويس. وفى صباح اليوم التانى نقلونا لمكتب وزير الدفاع وقتها المشير أحمد إسماعيل، الذى لم يستطع التعرف علينا من بين الأدلاء البدو، لأننا أصررنا على البقاء بملابسنا وحالتنا كما هى حتى مقابلته، وعندما عرّفناه بأنفسنا، أخذنا بالحضن وشكرنا، وأمر الملازم سامى بكتابة تقرير عما حدث معنا لمكافأتنا. كلمة أخيرة، أريد أن أقولها لكل المصريين، البدو ليسوا خونة كما يدعى البعض، ولو كانوا سيئين كانوا قبلوا شنطة الفلوس، وبلّغوا عنا.
المصدر الوطن
تعليقات
إرسال تعليق