عبد الرحمن الأبنودي


الاهرام المسائي - أحمد أبوالمعاطي  - الرأى والرأى الآخر

كان كل شيء في منزله الجميل القابع في أحضان حدائق المانجو بمنطقة الضبعية لايزال علي حاله‏,‏ قبل أن ينقلب كل شيء في لحظات‏,‏ احتفاء بقدوم جمال عبدالناصر‏!.‏
كان الابنودي قد فعلها, عندما أطلق في العام2009 قصيدته المدوية تناتيش للذكري, والتي اعتبرها كثير من المتابعين لمسيرة شاعر العامية الأكبر, بمثابة مراجعة فكرية وسياسية مفاجئة وصادمة, لموقفه من تحولات ثورة يوليو وزعيمها الخالد, وكنت قد استأذنت في الزيارة, وفي غرفة مكتبه التي اطلق عليها فيما بعد الكتبخانة امتد الحوار بيننا لساعات, لم تخل من جس نبض واختبارات عدة, لصحفي شاءت الاقدار ان تحمله بمهمتين احداهما في غاية الصعوبة, بعدما تورطت العربي الصحيفة الناطقة بلسان الناصريين, في معركة مجانية مع الشاعر الكبير الراحل, سرعان ما تحولت الي خصومة مع صعيدي ناشف الرأس شديد المراس, وهكذا ألقت بي يد الله في التجربة.لم يكن الخال عبد الرحمن الابنودي, ذلك الشخص الذي يمكن أن يحمل في قلبه ضغينة لأحد, ولعل تلك الميزة هي التي أهلته لأن يحتضن الوطن علي اتساعه وتحولاته السياسية والاجتماعية في قلبه, علي امتداد سنوات عمره التي قاربت الثمانين, والتي لم يتوقف خلالها عن الابداع, بل انه كان يفاخر دائما بأن الشعر لم يهجره, وانه لم يتحول الي واحد ممن كان يصفهم بـجنرالات الحركة الثقافية المصرية.كان الابنودي يكتب حتي آخر لحظة من حياته, وكأنما يراهن نفسه علي أن الشعر لم يهجره بعد, بل أنه قال لي ذات مرة إنه يتمني أن يموت وهو يقول الشعر, الذي كان يصفه بـالرجل الصعيدي الذي إذا خنته مرة, خانك إلي الأبد.كان الأبنودي يعتبر قصيدته الأخيرة عن الزعيم جمال عبدالناصر, بمثابة واحدة من ديون ظلت معلقة في رقبته, لبعض الذين مروا في حياته, يجب أن تسدد من بينهم صلاح جاهين, وفؤاد حداد, ويحيي الطاهر عبدالله, وأمل دنقل الذي لم يتمكن حتي رحيله من الكتابة عنه, فكلما احتشد للكتابة عنه, يجده يجلس أمامه, ليشاغبه مثلما كان يحدث في الأيام الخوالي.ظل عبد الرحمن الابنودي ينظر الي فترة السجن التي قضاها في عصر الزعيم جمال عبد الناصر, باعتبارها أعظم وأنبل تجربة مرت في حياته, بل أنه كان يعتبرها منحة تماما مثل تجربته في السويس إبان حرب الاستنزاف, ومن قبلها تجربته في السد العالي, اذ كان يري ان الأديب الذي لا يعيش تجربتي السجن والحرب يخرج من الدنيا كما دخلها, ويقول انه عاش طوال عمره علي خط المواجهة.لم يكن الابنودي نخبويا, وكانت عظمته أنه عاش بين الناس وكتب عنهم ولهم, لذا لم يكن غريبا أن تشهد جنازته, هذا الطوفان الهادر من البسطاء الذين حملوا جثمانه الي مثواه الأخير في الاسماعيلية, البلدة التي أحبها وعاش فيها سنواته الأخيرة, وأوصي بأن يدفن في ترابها الي جوار شقيقته, وحسنا أن النخبة كانت غائبة عن الجنازة, وحضرت فقط وقت التصوير أمام عدسات الفضائيات, وكأنما كان هذا الغياب يحقق نبوءته التي كتبها ذات يوم بعيد, عندما قال في أحزانه العادية: وأنا كنت موصي لا تحملني الا كتوف اخوان.. اكلوا علي خوان.. وما بينهمش خيانه ولا خوان.. والا نعشي ما حينفدش من الباب.. ما اجمل نومه علي كتوف اصحابك.. تنظر صادقك من كدابك.. تبحث عن صاحب أنبل وش.. في الزمن الغش.رحم الله عبد الرحمن الابنودي, وعوض مصر عنه خيرا.





المصدر الاهرام المسائي

تعليقات

المشاركات الشائعة