المصدر الاهرام - اخبار الفن
فى قلب تجليات المنعطف السردى على مسارح «طنجة المشهدية»
في فضاء المسرح الرحب، يمكنك أن تستشعر نبض الحياة العصرية، في تجلياتها الغرائبية المبكية المحزنة، المسكونة المبهجة تارة، والمرعبة تارات أخرى بفعل الأحداث الدامية التي تستلزم بالضرورة وجود أقنعة تخفي ابتسامة فطرية نقية، أو تحجب بشكل مؤقت ما تبقي من سوادية النفس البشرية في ذهابها نحو الشر المطلق بفعل جبروت السلطة المفرطة في غاياتها الكبرى، وفي فرض السيطرة والاستغلال للإنسان.
.............................................................
وعبر نصه السردي المقام على الخشبة تستطيع أيضا أن تلمس في ذلك الفضاء الرحب روح إنسان هذا العصر بمزاجه العام المتقلب، بين ما هو رمزي غارق في الخيال، وبين ما هو واقعي يكمن في الحركة والسكون والإضاءة، انسجاما مع الموسيقى الكاشفة لأعماق النفس الإنسانية التواقة للحرية عبر الزمان والمكان، وعلى جناح سنوغرافيا لونية تتداعى عن قرب في قلب أعقد التجارب الحياتية اليومية لتحيلها إلى مشاهد تنبض بالحيوية.
تلك الحالة وغيرها من حالات جمعت بين المتعة والنفور، لازمتني طوال أربعة أيام قضيتها في رحاب «مهرجان طنجة المشهدية» في دورته الثانية عشرة ( طنجة تطوان من 15 إلى 18 سبتمبر 2016) على شواطئ تلك المدينة المسكونة بسحر الطبيعة، والذي نظمه «المركز الدولي لدراسات الفرجة» تحت عنوان «المنعطف السردي في المسرح – عودة فنون الحكي»، ذلك المركز الذي ظل طوال سنواته الماضية يشيد جسورا قوية للحوار الجاد بين مختلف الثقافات والفنون ، ناهيك عن كونه خلق تقاليد علمية جديدة في المشهد الثقافي والعلمي الأكاديمي المغربي، تقوم على العمل المنظم والهادف المبني على استراتيجية محكمة، واضحة المعالم والقسمات، سواء على مستوى المشاريع الفكرية، أو على مستوى المنشورات، وذلك برؤية تشاركية حيوية وفعالة وجادة، تنعكس إيجابا على حضور المركز في الفضاء الثقافي والعلمي المغربي والمتوسطي والدولي، بفضل جهود رئيسه الأكاديمي والمبدع المسرحي المغربي الدكتور خالد أمين.
منذ اليوم الأول لانطلاق فعاليات مؤتمر «المنعطف السردي في المسرح – عودة فنون الحكي» والذي حاول اجتراح بعض الأسئلة المتعلقة بفنون الفرجة، وأنا ألحظ من خلال العروض المقدمة على خشبات مسارح باب القصبة، والجامعة الأمريكية، وغيرها من مسارح طنجاوية تحظى بجماهيرية كبيرة، أن الزمن الراهن يشهد ازدهارا لم يسبق له مثيل في مجال العروض السردية والمسرحيات المنولوجية في جميع أنحاء العالم، هكذا شاهدت عن قرب عودة السرد إلى المسرح حيث يأخذ المونولوج الأسبقية على الديالوج - بلغة الأكاديميين – ومن ثم يزلزل وهم «الدراما» ، ومع ذلك لا ينبغي النظر إلى هذه العودة، من حيث هى التفاف حول القصة، بل عرض لممكنات الفعل القصصي، إنها سعي واضح لتحقيق علاقة جديدة مع التمثيل المسرحي بعيدا عن العودة إلى «الدراما».
ومن خلال العروض التي تسابقت فيما بينها طوال الأربعة أيام في حلبة الصراع المنافسة على الخشبة بين دول الشرق والغرب المشاركة، لابد لك أن تدرك حقيقة الميل نحو تجسيد القصص الذاتية والوقائع في العديد من التجارب المسرحية المعاصرة عبر الإمكانات الهائلة للمسرح السردي، والذي يزحف نحو غزو الواقع المسرحي من جديد، ويستفزه انطلاقا من ردم الهوة بين السرد الذاتي والحكايات الجماعية، الخاص والعام، الجمالي والسياسي ... إلخ.
مهم جدا في هذا المقام، الإشارة إلى كون العودة إلى «المنولوج» و»الجوقة» في الدراماتورجيا المعاصرة تكتسي أيضا دلالات عميقة، بحيث يعود المونولوج إلى المسرح الكلاسيكي، وهى وسيلة الكاتب الدرامي للكشف عن اضطرابات وأحساسيس وحالات نفسية ونوايا الشخصية، وهى تفكر بصوت مرتفع مسموع لدى الجمهور، وفي هذا الصدد جاءت المونودراما المصرية «خط أحمر» كواحدة من التجارب المسرحية الناضجة في هذا المضمار، والتي قدمتها الفنانة المخضرمة «حنان شوقي» بعذوبة وقدرة فائقة على الأداء الصعب وبإمكانات محدودة للغاية.
تماهت «حنان» بأداء استثنائي وخاص جدا، إلى الحد الذي أذهل الجمهور الذي اكتظ به مسرح «الجامعة الأمريكية» عن آخره، لينخرط في حالات من التصفيق الهيستري من فرط براعة التمثيل، تضامنا مع عناصر الديكور والإضاءة التي صنعها المبدع مهندس الديكور «فادي فوكيه» برؤية بصرية عميقة وعالية الجودة - على قلة الإمكانات - صانعا «سنوغرافيا» من ثلاثة ألوان فقط، لكنها كانت قادرة على الإيحاء لحنان شوقي بفرصة التفاعل الحي مع مكونات فضاء مسرحي خلاق، تمكنت من خلال نص للكاتب الصحفي «يسري الفخراني» أن تعبر بقدرة تمثيلية فائقة عن المكنونات الداخلية لفتاة مصرية رومانسية حالمة بالحب الذي يبدو مستحيلا، جراء القيود الصارمة من جانب مجتمع لا يعترف بعواطف الأنثي في سني عمرها الأول «فترة المراهقة» ، حيث تظل طوال الوقت رهن سجن التقاليد الشرقية المخلوطة بمفاهيم دينية تبعد عن جوهر الإنسان بفطرته التي فطر الله الناس عليها، وعبثا لاترى فكاكا لها مهما تكن تطورات الزمان والمكان والأحداث الدراماتيكية المرعبة في تصاعد اضطراري نحو ذروتها، بفعل السياسة الجارفة جراء فوضى الحرية وأزمات الاقتصاد الضاغطة على العصب العاري في المجتمع.
تبدو «نسمة» أو حنان شوقي في حركاتها وسكناتها المصحوبة دوما بمونولوج داخلي هامس، معبرة عن الهواجس والتفاعلات الخفية، لتبدو كفراشة خفيفة على المسرح، وهى تناجي صورة جدها الراحل والذي اختارت له صورة الفنان الكبير «عبد الوراث عسر» - تحتل الجانب الأيمن من المسرح - في دلالة رمزية لجمال زمن الأبيض والأسود الذي يحفظ الأصالة والقيم، بينما يأتيها صوت قريب جدا من صوته من خلف ستائر الماضي البعيد، ليجيب عن أسئلة عفوية حالية تشغل بال حفيدته المصرية الشفافة في مشاعرها، الحائرة بين الحب الذي نبت بين جوانبها على هدي من أغاني عبد الحليم حافظ «ملك الرومانسية» العابرة للقارات والأزمنة - والذي تحتل صورته خلفية الجهة اليسرى من المسرح - وبين غياب الأب في بلاد بعيدة رافضا العودة لكنف أسرته التي تفتقد الدفء الذي يمكن أن يظلل أيامها بالبهجة والأمان، ووجود أم لاتحنو عليها بقدر ما تفرض سياجا جديدا من القيود، تحت مبررات الخوف عليها من لعبة الزمن والناس والأيام، وربما كان فعل الأم هذا لأنها واقعة تحت ظرف اجتماعي خاص.
استطاعت»حنان» عبر أشواط متعاقبة من الأداء السلس أن تعبر عن حال البنت المصرية في مراحل زمنية مختلفة، وهى تنتمي بحكم الضرورة لزمن النكسة بحسب وصف مجتمعها، وليس المقصود بالنكسة هنا تلك التي وقعت للجيش المصري في عام 1967، بل يقصد بها كل النكسات أو النكبات التي يراها المجتمع قد اجتمعت في تلك الفتاة وغيرها ممن يمثلون جيلا بكاملة تمرغ في مايسمى فوضى الحرية الجديدة، فرغم الفورات والثورات التي مرت على مصر منذ ثورات عام 1952 بإصلاحاتها الكبرى في زمن الزعيم جمال عبدالناصر ، و25 يناير في شفافيتها طوال 18 يوما انصهرت فيها كل طوائف المجتمع بشكل عفوي ودونما ترتيب لتقدم درسا مهما في الحرية على الطريقة المصرية التي علمت العالم مفهوم الثورة النقية، و30 يونيو بفرحتها الكبرى في كسر شوكة جماعة الشر والعبور نحو مستقبل أكثر أمانا بإرادة الجماهير التي زادت عن 35 مليون مصري اجتمعوا على قلب رجل واحد، وعلى قدر ما قدمته بعض هذه الأجيال من جهود تبدو نقية وعفوية خالصة لوجه الوطن، فمازال قطاع كبير من الكبار والمسنين يرون في هؤلاء الشباب مسحة «نكسجية»، جراء حالات النزق الثوري والتمرد الحياتي والعاطفي على العادات والتقاليد، وعلى منظومة الأسرة التي تشكل النواة الأولى للمجتمع، وهم في مثل تلك الحالة ربما يرون فيها قيدا أكثر مما يرون فيها جوهر الأصالة التي لابد أن تقترن بالمعاصرة حفاظا على الهوية المصرية، تلك التي صنعت الحضارة وأضاءت صفحات التاريخ بحروف من نور، ودعونا نعترف ضمنيا بأنها حقيقة غائبة عن وعي كثير من الشباب ليس من وجهة نظري فقط بل كثيرين من الكبار الذي يرون المستقبل عن بعد.
تتخلل مونودراما «خط أحمر» في فتنتها الإبداعية تمثيلا وإخراجا وديكور، لمسات شعرية من جانب «جمال فرح» معزوفة على العود في بهاء شرقي يقوى على إثارة الشغف والشعور بحنو بالغ الأثر في لفت انتباه الجمهور، ولقد تمكنت «حنان شوقي» مع جهد المخرج «أسامة فوزي» من توظيفها بحرفية في خلق حالات من الشجن المحبب، وفي تواز غير مخل مع حركات «نسمة» وهى تعلو بصوتها في محاولة لكسر جمود الصمت المطبق عليها، وهى تستعرض من صفحات الجرائد بسخرية لاذعة مشاهد من قلب الأحداث السياسية الدامية، والاقتصادية العاصفة بحياتنا المصرية والعربية بفعل سياسات حكوماتنا تارة، وبفعل مؤامرات الغرب تارات كثيرة في حلبة الصراع الدولي المحتدم، وسرعان ما تعود نسمة إلى طبيعتها كفتاة مصرية حالمة لاتفقد الأمل في الحب والحصول على الحرية في غاياتها الكبرى، وهى تتهادي على المسرح بصوت خفيض يظل ينخفض حتى الوصول إلى قرار القرار، لكنه في نفس الوقت يفجر حالة إبداعية ملهمة تقوي على زلزلة الخشبة في فعلها الدرامي الأكبر.
تتناغم الموسيقى التي وظفها المخرج مع لقطات الفيديو في خلفية المسرح لحظة فتح الستار، ومختتمة في نهاية العرض أيضا ، لتكشف عن وجوه مصرية تعبر عن حالات من الكد والعرق والكفاح في ميادين مختلفة، تلك المشاهد العفوية التي تسكن لوحة الحياة المصرية المشغولة بلقمة العيش والشمس مسلطة على رقاب العباد في نهار عدائي من فرط الحرارة والرطوبة أو تحت برد شتاء قارس يحنى الرؤوس المتعبة، ومعهم نسمة كجزء من بانوراما المسرح تجوب الخشبة يمينا ويسار في حركة دائبة بتوظيف ذكي للديكور من جانب «فوكيه» كي تعبر عن مكنوناتها الداخلية بحرفية غير معهودة، بينما الظلال تتداعي على خلفية الشاشة، وهى تهمس وتتمتم بكلمات مصحوبة بإشارات رمزية نجحت من خلالها أن تعبر بصدق وواقعية عن أجمل ما في تلك المعيشة الصعبة في حياة المصريين، على قسوتها وعذاباتها التي تنكل عادة بالإنسان مسلوب الإرادة، قليل الحيلة، ومع ذلك لا يكل ولا يمل حتى ولو كلفه هذا التحدي أن يضحى من أجل وطنه بفلذات أكباده من عرسان السماء الذي ذهبوا إلى جنات السموات العلى في حرب التصدي للإرهاب الأعمى.
بصراحة شديدة غلبت حنان شوقي توقعاتي في تلك الليلة المشحونة بالإبداع الخلاق، وأزالت كثيرا من هواجسي التي انتبابتي خوفا على سمعة مصر - لو لا قدر الله كانت أخفقت - في ظل غياب موقت من جانبها عن اعتلاء خشبة المسرح لفترة غير قصيرة، لكن سرعان ما تبدل الحال بعدما شاهدتها «غولا مسرحيا» رشيقا على الخشبة، يدرك فنون المونودراما - على صعوبتها في هذا الزمان المسكون ببهرجة الفرجة كما نعلم- فقد جاء التمثيل بحرفية وخبرة وحنكة لايدركها كثيرون ممن نراهم الآن على خشبات المسارح المدجنة بفعل الشاشة، والتي تهتز فقط بفعل حركات بهلونية لاتنتمي للفكاهة بقدر ما تنتمي للبلاهة في ثوب الكوميديا، بينما نحن غارقون في وهم خادع مؤداه عودة المسرح على جناح السخرية، وأن مصر الآن تعيش انتعاشة كبرى في مجال أبو الفنون الذي يغتال يوميا على الشاشة في حلبة منافسة للفعل الدرامي الرجيم.
على جانب آخر من متعة «المنعطف السردي في المسرح – عودة فنون الحكي»، تفتح عقلي ووعى أكثر على كثير من أمور السرد المحكي من خلال جلسات النقاش من جانب المشاركين في المؤتمر من أكاديمين وأصحاب تجارب مسرحية مرموقين في عالمنا العربي في مناظرتهم مع تجارب الغرب في حداثتها المفرطة وولعها بالتقنيات- والمقام لايتسع لعرضعها كلملة للأسف جراء ضيق المساحة - حيث أشارت كثير من المداخلات التي تستند لدراسات عميقة إلى كيفية تحول السرد المحكي في العديد من الأعمال المعاصرة إلى حكي موغل في استعمال الصورة، وهى حائل قد يبدو سهل الاستيعاب، إذ يغازل النظر من حيث هو أسهل أداة تواصلية، كما عبر عنه «ريجيس دوبريه» في كتاب «حياة الصورة وموتها» والذي استقى مادته الحية من حرب الجزائر في كفاحها ضد موطنه الأصلي فرنسا، حيث شكل مشاهد وصورا تعبر بشكل دقيق عن كيفية موت الصورة أو بقائها على قيد الحياة.
تعليقات
إرسال تعليق