أيام وليال في بغداد بعد هزيمة داعش
المصدر الأهرام . ahram.org.eg . بقلم عبد المحسن سلامة . قضايا و آراء
جورج بوش فتح الطريق امام الفوضى فى المنطقة بغزو العراق و ظهور داعش التى استطاع حيدر العبادى هزيمتها و تحرير العراق منها
صادف وجودي فى بغداد إعلان ذكري النصر علي «داعش» وهزيمته فى معركتها الأخيرة، وسيطرة قوات الجيش العراقي علي آخر معاقلهم وبسط نفوذه علي الشريط الحدودي بين العراق وسوريا.
ذهبت إلي هناك لحضور اجتماعات اتحاد الصحفيين العرب، والحق أنني كنت ذاهبا إلي بغداد مترددا بسبب الأحداث هناك، وتعقيداتها الداخلية والخارجية، فالعراق واقع بين سندان الداخل ومطرقة الخارج، وتلك هي قمة المأساة.
أزمات الداخل كثيرة ومتعددة نتيجة الخلافات العرقية والمذهبية، حيث نجحت قوات الغزو الأمريكي فى إشعال فتيل الطائفية هناك، وبدأت دعوات الانفصال تدب فى الجسد العراقي الواحد فور قدوم الغزو عام 2003 الذي أشعل نيران الفتنة بين أبناء الشعب العراقي الواحد حتي انتهت بإعلان إقليم كردستان الرغبة فى الانفصال، وترجم ذلك إلي استفتاء شعبي نتج عنه تأكيد الانفصال، ثم تدخلت الحكومة المركزية، ومنعت الطيران، واتخذت العديد من الإجراءات العقابية ضد سلطات الانفصال، ومنها دخول قوات الجيش العراقي كركوك، معقل النفط والطاقة ،لتهدأ نيران الانفصال إلي حين.
علي الجانب الآخر هناك أزمة مكتومة بين السنة والشيعة تظهر وتختفي من حين إلي آخر، حيث أسهمت الحكومات المتعاقبة منذ الغزو الأمريكي فى إشعال نيران الطائفية، وقد نجحت فى ذلك إلي حد كبير، وباتت التفجيرات والاغتيالات لغة يومية فى العراق حتي جاء رئيس الوزراء الحالي د.حيدر العبادي واستطاع إعادة الهدوء والاستقرار بدرجة كبيرة، وأخمد نيران الطائفية بعد أن انتهج لغة محايدة فى خطابه السياسي، وفي الطريق نفسه سارت سياسته وقراراته، ونجح إلي درجة معقولة فى تهدئة مخاوف السنة، وإعادة العراق إلي محيطه العربي بعيدا عن الاستقطاب الإيراني الحاد، وإن كان النفوذ الإيراني لايزال مصدر قلق شديد حتي الآن هناك، والمشكلة الأساسية التى تواجهه تكمن فى التشكيلات المسلحة التي تم تشكيلها وتعتمد كلها علي علاقاتها بإيران، من حيث توفير التمويل والتدريب والتسليح.
منذ نحو 37عاما بدأت أزمات العراق حينما اندلعت الحرب العراقية ـ الإيرانية فى سبتمبر1980، واستمرت حتي أغسطس 1988 مما جعلها من أطول الحروب التقليدية فى القرن العشرين، وأدت إلي مقتل ما يقرب من المليون شخص من الجانبين، وبلغت خسائرها المالية أكثر من 1.19 تريليون دولار أمريكي.
استخدم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين هذه الحرب لابتزاز دول الخليج فى مواجهة النفوذ الإيراني، إلا أنه بعد أن وضعت تلك الحرب أوزارها لم يهدأ صدام حسين ويتجه إلى إعمار بلاده وتعويض خسائرها، لكنه صوب نيرانه إلى الحلفاء الذين كانوا معه فى حربه ضد إيران، وكانت البداية والنهاية هي دولة الكويت حينما قام بغزوها فى أغسطس 1990 تحت مزاعم أن الكويت تقوم بالتنقيب غير المرخص عن النفط فى الجانب العراقي من حقل الرميلة المشترك بين الدولتين.
قام صدام بفعلته المجنونة وقامت الدنيا ولم تقعد طوال فترة الاحتلال العراقي للكويت التي استمرت حوالي 7 شهور حتي انتهت بالتدخل الدولي وتحرير الكويت فى فبراير.1991
كانت خطة القضاء علي العراق جاهزة ومعدة سلفا، وبدأ التحرش الأمريكي بالعراق تحت ادعاءات ومسميات عديدة أبرزها وجود الأسلحة النووية العراقية، ورغم سماح العراق لوكالة الطاقة النووية بالتفتيش، وفتح المفاعلات العراقية أمامها، والسماح لها بالتحرك والتفتيش بحرية مطلقة، إلا أن خطة التخلص من العراق كانت جاهزة، وصدرت الأوامر بغزو العراق فى مارس عام 2003، وتسببت هذه الحرب فى أكبر خسائر بشرية فى المدنيين فى تاريخ العراق، واستمر الاحتلال الأمريكي للعراق رسميا حتي تم إنزال العلم الأمريكي فى بغدادفي 18 ديسمبر فى عام 2011 بعد اشتعال ثورات الربيع العربي والمثير أن غدا الاثنين تحل ذكري رحيل القوات الأمريكية عن العراق.
ربما تكون مصادفة أن يشهد شهر ديسمبر منذ 6 سنوات رحيل القوات الأمريكية، وفي الشهر نفسه هذا العام يشهد شهر ديسمبر أيضا سقوط آخر معاقل داعش وتحرير كامل أراضي العراق منه.
الأمر المؤكد أن هناك علاقة وثيقة بين الغزو الأمريكي للعراق وظهور النزعات القبلية والعشائرية والمذهبية، وكذا ظهور داعش الذي ظهر تحت حماية من الغطاء الطائفي والمذهبي والديني علي غرار كتائب المجاهدين فى أفغانستان والتي تحولت إلى قنابل متفجرة هناك وفي باقى بلدان العالم الإسلامي.
ساهمت قوات الغزو الأمريكى فى تأجيج المشاعر الطائفية والمذهبية والدينية باعتبار أن ذلك يدخل ضمن سياسة «فرق تسد» من أجل أن تستطيع القوات الأمريكية الغازية بسط سيطرتها ونفوذها علي العراق بواسطة العراقيين أنفسهم، وفوق أشلاء جثثهم التي تمزقت بالاقتتال الداخلى والتفجيرات والأعمال الإرهابية.
استمر هذا الوضع المأساوي فى العراق حتي جاءت حكومة د.حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي الحالي الذي انتهج سياسة متوازنة، وتمسك بالعراق الموحد لكل العراقيين، وبدأ فى دمج قوات الحشد الشعبي والميليشيات الأخري فى القوات المسلحة العراقية لتكون تحت سيطرة الدولة بعد أن كانت خارج السيطرة وتكاد تكون دويلات مستقلة داخل الدولة.
سياسة العبادي الداخلية أعادت هيبة الدولة، كما أنه حاول إعادة وجه العراق العربي بعيدا عن هيمنة واستقطاب إيران، وقام بالعديد من الزيارات للدول العربية فى محاولة لتأكيد عروبة العراق والالتزام بالثوابت العربية.
هذه السياسة أعطت الطمأنينة للسنة من العراقيين، وبعيدا عن شيوخ الفتنة والتطرف من الجانبين فإن هناك حالة من الارتياح تسود العلاقة بين السنة والشيعة الآن فى العراق، وهي حالة أفضل مما كانت عليه وقت حكم رئيس الوزراء العراقي السابق نور المالكي الذي كان ينتهج لغة طائفية غير مريحة.
رغم ذلك لاتزال بغداد مقسمة إلى منطقتين تسمي الأولي المنطقة الخضراء وفيها مقار الحكم من رئاسة الجمهورية، ورئاسة الوزراء، والوزارات، والبرلمان، والسفارات، وهي منطقة محصنة أمنيا بشكل كامل تحيطها أسوار عالية من كل جانب، والدخول والخروج إليها بتصاريح ثابتة، أو بعد تفتيش دقيق حسب ظروف الزيارة ونوعها والشخص الذي يقوم بها، ودون ذلك غير مسموح بالاقتراب من تلك المنطقة.
في الطريق إلى المنطقة الخضراء كانت قوات التأمين تسبق الوفد الذاهب إلى فندق الرشيد حيث حضرنا الاحتفال الذي أعلن فيه رئيس الوزراء حيدر العبادي نهاية داعش فى العراق، وانتصار الجيش العراقي عليه فى آخر معاقله واسترداد كامل الأراضي العراقية.
العبادي أكد علي ضرورة توحيد السلاح فى يد الجيش العراقي وحده بعيدا عن الميليشيات وضم قوات الحشد الشعبي إلى صفوف القوات المسلحة لتعمل ضمن منظومة الجيش العراقي.
أعتقد أن انتصار الجيش العراقي علي داعش هو بداية عودة العراق الموحد القوي لكن يبقي التحدي الأكبر الذي يواجه رئيس الوزراء حيدر العبادي، وهو قدرته علي نزع سلاح الميليشيات والسيطرة علي قوات الحشد الشعبي بعيدا عن تمويل ودعم طهران، والأهم هو مدي التزام هذه القوات بالمهام الوطنية علي أرض العراق بعيدا عن الصراعات الإقليمية فى اليمن ولبنان وسوريا.
بعيدا عن المنطقة الخضراء كنا نقيم فى وسط العاصمة العراقية بغداد حيث منطقة تضم بعض الفنادق التي تأثرت بالحروب لكنها لاتزال باقية.
في الفندق الذي كنا نقيم فيه حضر إلينا حسام عبدالواحد المستشار السياسي للسفارة وهو دينامو لا يهدأ ويتحرك بكل قوة بين المصريين، ويبذل جهدا ضخما للقيام بدوره وحل مشكلات المصريين هناك، وخلال اللقاء ألقي مفاجأة من العيار الثقيل حينما أخبرنا بأن الفندق الذي نقيم فيه قد تعرض للتفجير مرتين من الجماعات الإرهابية، لكنه أردف قائلا وبسرعة: لا داعي للقلق فقد كان هذا منذ فترة، والآن انتهي عصر التفجيرات العشوائية والمستمرة فى كل الأماكن فى بغداد، وعادت بغداد أكثر أمانا، ولم نعد نسمع التفجيرات إلا بشكل استثنائي وكما يحدث فى الكثير من دول العالم التي تتعرض للهجمات الإرهابية.
في محاولة لمعايشة واقع الحياة علي الطبيعة تدخل فى الحوار أحمد السيد محمود وجه مصر للطيران المضيء فى بغداد ومديرها هناك ليدعونا إلى زيارة بغداد بمناطقها المختلفة حتي تتضح الصورة بشكل طبيعي.
ذهبنا إلى منطقة شعبية فى بغداد تشبه العتبة والموسكي فى القاهرة، وهي منطقة «الشورجة» حيث كانت الحياة طبيعية وتسير فيها حركة البيع والشراء بشكل هادئ وطبيعي.
بعد ذلك قمنا بزيارة مسجد ومقام الشيخ عبدالقادر الجيلاني وهو من أشهر المساجد السنية فى العراق، وباستثناء الإجراءات الأمنية المشددة حوله، كانت الحياة طبيعية، وشاهدنا بعض الأسر التي ذهبت إلى هناك للزيارة والصلاة كما يحدث فى مساجد الحسين والسيد البدوي والسيدة زينب وغيرها، فقط كانت الأعداد محدودة، وداخل مقام الشيخ عبدالقادر استقبلنا أحد المصريين المقيمين هناك والعاملين فى المسجد بوجه بشوش مرحبا بالمصريين فى العراق مؤكدا أنه مقيم فى العراق ولا ينوي مغادرته ولا يتعرض لأي مضايقات حاليا.
المشهد نفسه تقريبا شاهدناه فى مسجد الإمام الأعظم كما يطلقون عليه فى بغداد وهو الإمام أبي حنيفة النعمان، وهو أكبر المساجد السنية ويواجه أكبر المساجد الشيعية وهو مسجد الإمام الكاظم، ويرقد الإمام أبي حنيفة النعمان فى منطقة الأعظمية المواجهة لمنطقة الكاظمية حيث الإمام الكاظم ويفصل بينهما الكوبري الواقع علي نهر دجلة، وممنوع سير السيارات إلا بتصاريح أمنية مسبقة، والوسيلة الوحيدة المسموح بها هي السير علي الأقدام بعد استيفاء كل مراحل التفتيش الدقيق للدخول والخروج.
المحطة الثالثة كانت فى شارع المنصور وهو أحد الشوارع المشهورة ويقع به مول المنصور وهو مول متوسط بحجم المولات المصرية لكنه هناك هو الأكبر، وفيه جلسنا علي »كافيه« لتناول الشاي العراقي بعد تلك الجولة وصادف وجودنا إذاعة مباراة ليفربول وإيفرتون والتي برع فيها الفرعون المصري محمد صلاح وسجل الهدف الأول ليتحول »الكافيه« إلى مقهي مصري بالتمام والكمال ويبدأ الهتاف للفرعون المصري محمد صلاح كما لو كنا فى مصر تماما.
هي روح العروبة المدفونة داخل كل عربي وروح الشعوب العربية الموحدة التي لا تعترف بالحواجز ولا الحدود ولا الطائفية أو المذهبية والتي يحاول تجار الدين ومشعلو الحرائق غرسها فى النفوس العربية، لكن وقت اللزوم يظهر المعدن الأصيل للشعوب العربية المحبة للسلام والحياة والتعايش.
أعتقد أن العراق يسير فى الطريق الصحيح نحو استعادة عافيته وقوته مرة أخري لكن تبقي بعض المحاذير الأساسية التي يمكن أن تعترض ذلك:
أولها: الخوف من التدخل الأمريكي فى القرار العراقي حيث تمتلك أمريكا أكبر سفارة لها فى العالم هناك، كما أن لها نفوذا عسكريا قويا تحتفظ به وتحافظ عليه، وتبقي قدرة القيادة العراقية علي التعامل مع هذا الملف هى الفيصل بشكل يؤدي إلى تحجيم النفوذ الأمريكي دون صدام معه.
ثانيها :أزمة النفوذ الإيراني وهو الأخطر من النفوذ الأمريكي حيث تمتلك إيران نفوذا قويا لدي قوات الحشد الشعبي والمرجعيات الدينية الشيعية والكتل السياسية المرتبطة معها بصلات قوية، فهل تستطيع القيادة العراقية إحداث التوازن بين المحيط العربي للعراق والعلاقة مع إيران.
إلى حد كبير يسير العبادي فى الطريق الصحيح فى ذلك الاتجاه، لكن المشوار مازال طويلا ويحتاج إلى نفس طويل واصرار حتى يستطيع العراق أن يعود كما كان قوة عربية اقتصادية وسياسية وعسكرية، والمهم أن يستفيد من أخطاء الماضي القريب والبعيد.
◙ اتحاد الصحفيين العرب ومواجهة تحديات الأمة
خلال انعقاد اجتماعاته فى بغداد فى الأسبوع الماضي عاد اتحاد الصحفيين العرب لمواجهة التحديات التي تواجه الأمة العربية داخليا وخارجيا بعيدا عن لغة التشرذم والانقسام.
خارجيا تصدي الاتحاد للموقف الأمريكي «الشائن» بنقل السفارة الأمريكية إلي القدس، واعتبرها خطوة خطيرة تقوض مساعي السلام فى المنطقة، داعيا إلي ضرورة مقاطعة الكيان الصهيوني والإصرار علي عدم التطبيع معه حتي يتحقق السلام وتقوم الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس علي حدود .1967
داخليا تطرق الاتحاد بمبادرة من نقابة الصحفيين المصريين إلي التصدي لقضية الإرهاب واعتبرها من أخطر القضايا التي تواجه الأمة العربية الآن مطالبا الصحفيين بالقيام بدورهم فى التصدي لتلك الظاهرة الخطيرة ومحاربتها حتي يتم استئصالها من كل الجسد العربي من المحيط إلي الخليج. ولخطورة القضية تم تخصيص ندوة فكرية علي هامش المؤتمر لمناقشة دور الصحافة فى مواجهة الإرهاب، واشتركت فيها رموز عربية وأجنبية.
اتحاد الصحفيين العرب هو أداة عربية لتوحيد الصحفيين العرب حول قضاياهم المصيرية، بعيدا عن «التلاسن «والدخول فى معارك وهمية كما كان سابقا، وكما يحاول البعض حاليا، لكن التوجه العام للوفود الصحفية العربية استطاع محاصرة هؤلاء من أجل التركيز علي القضايا العربية الراهنة التي تحتاج إلي الوحدة والتكاتف بعيدا عن المزايدات والمهاترات.
المهم أن مصر عادت بقوة إلي الاتحاد، وكان الوفد المصري من أكبر الوفود هناك، والأهم أن كل الوفود العربية كانت تلتف حول الوفد المصري وتسانده فى مختلف المواقف والقضايا.
تعليقات
إرسال تعليق