الكنوز المدفونة فى الرمال السوداء!
النيات الصادقة تصنع المعجزات.. ويبدو أن النية لم تكن صادقة حين تم التفكير في استغلال الرمال السوداء الموجودة في نحو 11 موقعاً في مصر، لكن المشروع تعثر طوال هذه السنوات،
بالرغم من الأرباح الخيالية التي سيدرها المشروع على المستثمرين وعلى الدولة ، وفقاً لكافة دراسات الجدوى الاقتصادية المحلية والأجنبية الخاصة بالمشروع.
ويبقى السؤال: لماذا تعثر المشروع بالرغم من إعداد الكثير من دراسات الجدوى، وبالرغم من تشكيل العديد من اللجان الوزارية، وبالرغم أيضا من تعاقب العديد من وزراء الكهرباء بدءا من الدكتور حسن يونس ، وأحمد إمام ومحمد شاكر، وكذلك تعاقب رؤساء الوزراء بدءاً من د.عاطف عبيد مروراً بأحمد نظيف وانتهاءاً بالمهندس إبراهيم محلب؟.. وهل كانت هناك أيد خفية تحول دائماً دون تنفيذه؟
ولمن لا يعرف، فقد بدأت الدراسات والأبحاث المتعلقة بمشروع الرمال السوداء – كما يقول الدكتور حمدى سيف النصر صادق رئيس المشروع ورئيس هيئة المواد النووية الأسبق وخبير التعدين السابق بالمساحة الجيولوجية الأمريكية- فى هيئة الطاقة الذرية منذ بداية الستينات من القرن الماضى، واضطلع بها قسم الجيولوجيا والخامات الذرية بهيئة الطاقة الذرية ، ثم تولت هيئة المواد النووية إجراء تلك الدراسات والبحوث منذ انفصالها عن هيئة الطاقة الذرية فى سنة 1977، وكان أن استعانت هيئة المواد النووية المصرية، ببيوت الخبرة العالمية فى التعدين مثل روبرتسون ريسيرش الانجليزى فى سنة 1985 ، ومينرال ديبوزتس سنة 1997 لتقييم الدراسات المصرية التى أجريت منذ الستينات، لاستغلال رواسب الرمال السوداء على ساحل البحر المتوسط ، وجاء الرأى متطابقا بأن كافة هذه الدراسات التى أجريت من قبل كافة الجهات المصرية وعلى رأسها هيئة المواد النووية لم تتوصل بعد الى تأكيد الاحتياطيات ولا متوسط تركيز المعادن المطلوبين لإقامة مشروع اقتصادى لاستغلال رواسب الرمال السوداء، إذ أن المتوفر منها لا يتعدى حوالى 11 مليون طن بتركيز معادن يقدر بحوالى 2% ، فى حين أن الاستغلال الاقتصادى يتطلب توفر خامات لاستغلال سنوى لا يقل عن 10 ملايين طن سنويا لمدة استغلال لا تقل عن 15 سنة، أى أن المطلوب احتياطى لا يقل عن 150 مليون طن (احتياطى مؤكد) ، ولا تقل فيه نسبة تركيز المعادن عن 2% وذلك هو الحد الاقتصادى الأدنى لاستغلال تلك الخامات، وكانت توصية تلك الجهات الدولية هى إجراء مزيد من الاستكشاف على الساحل، لتوفير هذه الاحتياطيات، واجراء دراسات "مكودة" بطريقة احترافية حديثة وفق أصول الاستغلال الآمن للتعدين، وكان واضحا أمام الهيئة أن الخبرات المصرية لا تستطيع القيام بها ،ولذلك أبرمت هيئة المواد النووية عقدا مع هيئة المساحة الجيولوجية الفرنسية فى سنة 1999 ، لإجراء دراسة وفق الكود الأوروبى للتعدين، لتقييم الرواسب المستكشفة فى كثبان البرلس بمحافظة كفر الشيخ، ويتكلف الملايين بعملة اليورو ، ولكن هذا العقد لم ينفذ بسبب وجود عقبات فنية ومالية.
الجدوى الاقتصادية للمشروع
ونعود بالذاكرة إلى الوراء قليلاً ، وتحديداً خلال الفترة بين عام 2000وحتى عام 2003 ، حينما نفذت هيئة المواد النووية دراسة استكشاف شاملة لمناطق تواجد الرمال السوداء على طول ساحل البحر المتوسط ، كما نفذت الهيئة دراسة تقييم وجدوى اقتصادية لاستغلال أهم هذه الاستكشافات فى كثبان البرلس- بلطيم، ولأول مره بمصر– كما يقول الدكتور حمدي سيف النصر رئيس المشروع- تم اجراء الدراسات وفقا للكود الأمريكى للتعدين، وكذلك وفقا للشروط الدولية للاستغلال الآمن للتعدين، ولشروط التمويل من البنوك الممولة له بما فيها البنك الدولى، وتم ذلك كله لتلافى الخسائر الفادحة التى سببتها بعض مشروعات التعدين السابقة بمصر، وقد نفذ هذه الدراسة فريق بحثى من هيئة المواد النووية بديلاً عن عقد هيئة المساحة الجيولوجية الفرنسية السابق الإشارة إليه ، وأسفرت تلك الدراسة عن إثبات توفر احتياطى تعدينى مؤكد من خامات الكثبان الحاملة للرمال السوداء يقدر بحوالى 366 مليون طن ، بمتوسط تركيز يقدر بحوالى 3.4% ، وأن الاحتياطى التنجيمى القابل للاستغلال يقدر بحوالى 300 مليون طن يكفى لمشروع استغلال على مدى 20 سنة ، وبمتوسط استغلال سنوى قدره 15 مليون سنة، أى أن الرمال السوداء المصرية لم تصل دراسات استغلالها اقتصاديا إلا فى سنة 2003 برغم إجراء الدراسات منذ الستينات.
لجان وزارية.. والمحصلة صفر
وفى 2003 ، قام وزير الكهرباء والطاقة آن ذاك د. حسن يونس بعرض المشروع على رئيس مجلس الوزراء الدكتور عاطف عبيد ، والذى أشار بانشاء شركة وطنية (حدد المشاركين فيها) ورأس مالها، وشكلت لجنة وزارية لذلك، وتم عرض المشروع على اللجنة الوزارية مع التوضيح بأن المشروع سوف ينتج ستة معادن رئيسية منها مواد نووية وأن المعادن غير النووية وأهمها التيتانيوم والزركونيوم يمكن أن تكون أساسا لصناعات مستقبلية يبلغ رأسمالها أكثر من مليارى دولار بينما يفوق معدل عائدها المشروع الأصلى، وللتأكد من جدوى المشروع الاقتصادية ، قررت اللجنة إجراء دراسات جدوى دولية شاملة (للتحقق من نتائج هيئة المواد النووية واتمام الجدوى النهائية للمشروع) ، وقام بوضع كراسة شروطها بيت خبرة تعدين ألمانى، ونفذتها شركة دولية أسترالية (أكبر دولة منتجة لمعادن الرمال السوداء) متخصصة فى التعدين ، وخاصة الرمال السوداء. وتم تشكيل لجنة دائمة على مستوى رفيع من الجهات التى حددها رئيس الوزراء لمتابعة هذه الدراسة، وفى عام 2008 ، انتهت الدراسة إلى أن المشروع ذو جدوى اقتصادية جاذبة للاستثمار بالمقاييس الدولية، وقدر رأسماله بحوالى 125 مليون دولار وتكاليف التشغيل السنوية بحوالى 12.5 مليون دولار. بينما يبلغ العائد السنوى على الدولار بحوالى 22% فى حالة جمع رأس المال عن طريق الأسهم ، ولكن هذا العائد سوف يزداد فى حال التمويل من البنوك نظرا لانخفاض الفائدة على الدولار.
وفى عام 2009- والكلام ما زال للدكتور حمدي سيف النصر رئيس المشروع والاستشاري الدولي في مجال التعدين- أعيد عرض المشروع على لجنة وزارية برئاسة رئيس الوزراء الدكتور أحمد نظيف ، والتى قررت طرح المشروع للاستثمار بالمزاد لبيع المتر المكعب من الرمال الحاملة للمعادن بأعلى سعر ، على أن تقوم هيئة التنمية الصناعية وهيئة المواد النووية بإجراء المزايدة ، وتم الطرح ، وأسفر عن تقدم شركة كريستال العالمية وهى شركة أمريكية برأسمال سعودى- إماراتى، وكانت قد اشترت شركة أمريكية كبرى متخصصة فى استغلال وتصنيع معادن الرمال السوداء وهى شركة ""BeMax.
والحال كذلك، فإن شروط الطرح تتضمن تسليم المعادن المشعة إلى هيئة المواد النووية دون مقابل ولا يقتصر احتواؤها على المواد المشعة فقط ، وإنما تحتوى أيضا على العناصر الأرضية النادرة، مما يسمح للهيئة باستغلال تلك العناصر الاستراتيجية بعد أن نجحت الهيئة فى إنشاء وحدة تجريبية منتجة لها، وقبل إعادة العرض على مجلس الوزراء فى 2013 تم تحديث جدوى المشروع على أساس أسعار 2012 (لم تكن معدلات أسعار 2013 قد حسبت دوليا) ، واتضح ارتفاع الجدوى الإقتصادية للمشروع إلى مستويات لم تحدث منذ عام 2003.
فوائد عديدة
ولأن دراسة الجدوى الاقتصادية للمشروع ، قد أنجزت وفق الأصول والشروط الدولية للتعدين، فإن المستثمر سوف يسدد للدولة سنويا ومنذ السنة الأولى للإنتاج ضريبة الإتاوة، وضريبة المبيعات، وضريبة الأرباح، بالإضافة إلى فوائد تحصل عليها مصر، وتتمثل فى مليار جنيه سنويا قيمة أراض ممهده، فضلاً عما ستحصل عليه هيئة المواد النووية معادن دون مقابل، بخلاف ما يتم التعهد به فى المزايدة من حيث اقتسام الأرباح، كما أن شروط الطرح تتضمن أيضا تعهد المستثمر (ولأول مرة بمصر)بخدمات، وفوائد، وعائدات للمجنمع المدنى بالمنطقة (وهى شروط دولية) تتمثل فى استخدام فائض الرمال من المشروع فى ردم البرك والمستنقعات حول القرى المحيطة(خارج منطقة المشروع) وتسليم المرافق تباعا بعد التنجيم (كهرباء، ومياه-، وغاز، وطرق، وغيرها) ، بالإضافة إلى التزام المستثمر بتشغيل وتدريب العمالة من أبناء المنطقة بنسبة لا تقل عن 90% وتدريبهم وارسال بعضهم للخارج لهذا الغرض ان تطلب الأمر. واقامة حائط صخرى لحماية الساحل الجديد الممهد من أى تآكل (يبلغ التآكل حاليا فى الكثبان حوالى 5 متر فى السنة) ومنع زحف الكثبان على القرى والمزارع والطريق الدولى ومصيف بلطيم وازالة أخطار الاشعاع وكلها ليست ناجمة عن التنجيم وانما هى مخاطر بيئية موجودة حاليا وكل ذلك دون مقابل. ولما كان للمشروع حق استغلال معادن الكثبان فقط وليس حق الملكية فان الأراضى التى يتم تنجيمها سوف تسلم تباعا كل ستة شهور الى ملاكها سواء كانت الدولة أو الأهالى.
ويضيف الدكتور حمدي سيف النصر: عندما تولى الدكتور نجدى محمد فرج رئاسة هيئة المواد النووية فى أغسطس 2013 ، وضع فى مقدمة أولوياته أن يتم تنفيذ هذا المشروع الواعد ، والذى سوف يساهم فى خطة التنمية بالدولة، ويعتبر أول سابقة تدل على قدرة جهات البحث العلمى على المساهمة في قيادة قاطرة الانتاج بالدول المتقدمة، وأيضا فى الدول الناهضة كما هو الحال في مصر، ولذلك أعاد رئيس الهيئة د. نجدي فرج عرض المشروع على المستشار محمد عزت عجوة محافظ كفر الشيخ، الذى أبدى حماسة كبيرة للمشروع، وتم عرضه على وزيرى الكهرباء والطاقة (الذى تتبعه هيئة المواد النووية) ووزير التنمية المحلية ، وتكاتف الجميع لإعادة العرض على مجلس الوزراء، وبالفعل بادر رئيس مجلس الوزراء د. حازم الببلاوي بعقد اجتماع للجنة وزارية متخصصة برئاسهت فى نوفمبر 2013 ، وصدر عنها قرار بتشكيل لجنة من الجهات المعنية التى شاركت في الاجتماع لدراسة الجوانب الاقتصادية والقانونية والخبرات الدولية الخاصة باستخلاص المعادن من الرمال السوداء، وتصنيع تلك المعادن ، وإنشاء شركة وطنية لهذا الغرض، واعتبار المشروع اقتصاديا وتنمويا، وتنفيذا لهذه القرارات ، تم طرح مزايدة جديدة فعلا فى يناير 2014 ، وتم مد أجلها حتى يوليو 2014.، وقامت عدة شركات محلية بسحب كراسة الشروط ، وكما هو معلوم لم تكن الظروف التى مرت بها البلاد مواتية للشركات الأجنبية، ولكن اجراء الانتخابات وعودة الاستقرار جعل الشركات الأجنبية تقبل على سحب الكراسة تباعا.
أرباح مضمونة
وفبل العرض على مجلس الوزراء فى نهاية 2013 ، كان لزاما على هيئة المواد النووية تحديث دراسات الجدوى المالية ، فتم التحديث على أساس أسعار المعادن فى 2012 (بلغت فيها أسعار المعادن حدا قياسيا ووصل سعر بعضها حوالى 4 - 5 اضغاف مقارنة بالأسعار فى دراسة جدوى 2008)، فإذا كانت أسعار المعادن قد انخفضت فى عامي 2013 و 2014 ، ولكنها ما زالت أعلى بكثير من تلك التى حسبت على أساس دراسة الجدوى السابقة فى 2008 بأكثر من ضعفين على الأقل، مما يجعل جدوى المشروع الاقتصادية مرتفعة بكثير عنها فى الدراسة السابقة، كما تم فى تحديث الجدوى أيضا حساب الزيادة فى الأجور والحد الأدنى لها ، كما أن المشروع لن يتأثر بسبب رفع أسعار الوقود لأنه منذ البداية قد حسبت جدواه على أساس أسعار الوقود العالمية وتغيراتها دون أى دعم أى أن المشروع محصن من هذه الناحية.
ونظرا لاستمرار تآ كل الكثبان بفعل نحر البحر، فإن هيئة المواد النووية – كما يقول رئيسها د. نجدي محمد فرج- ترى أن سرعة استغلال رأس المال الوطنى للمشروع (كما كان مقررا) هو أفضل الحلول نظرا لاحتوائه على معادن استراتيجية، الا أن دخول خبرة أجنبية بهدف لنقل تكنولوجيا صناعات فصل المعادن، وإقامة الصناعات المستقبلية فى مجالات جديده على الصناعة المصرية ممكن، ولكن بنسبة محدودة إذا كان ذلك ضروريا، وإلى جانب ضمانات دراسة الجدوى فإن إصرار شركة كريستال (ذات الخبرة العالمية) على التمسك بالمشروع بعد دراستها الخاصة يقدم دليلا لا يقبل الشك على متانة جدواه الاقتصادية.
ومؤخراً ، عقد المهندس إبراهيم محلب رئيس مجلس الوزراء اجتماعاً لبحث الاستفادة من مشروع استغلال الرمال السوداء، بحضور وزراء التجارة والصناعة، والبترول، والاسكان، والانتاج الحربى، والكهرباء، والاستثمار، ومحافظ كفر الشيخ، لمتابعة ما تم تنفيذه من توصيات اللجنة المشكلة لدراسة المشروع من كافة جوانبه الاقتصادية والبيئية، والتى أوصت بضرورة الاستفادة من الرمال السوداء كثروة قومية لإحتوائهاعلى معادن عالية القيمة، تُعتبر مادة خام لعشرات الصناعات، بما يسهم فى إقامة استثمارات صناعية عديدة، وتوفير الكثير من فرص العمل.
معادن نفيسة
وتحتوي الرمال السوداء- كما يقول رئيس المشروع د. حمدي سيف النصر- على عدة معادن من أهمها معادن التيتانيوم التى تمثل نحو 80% من المعادن ، ويقدر عائدها بنحو 44% من المبيعات، وتحتوى على الروتيل، والمنيت، والمنيت خام ، وتستخدم فى العديد من الصناعات مثل البويات - الدهانات - البلاستيك - الورق - المطاط -بعض أنواع الحبر - المنسوجات - بلاط السيراميك - أسياخ اللحام - المسابك -مستحضرات التجميل - الجلود - الأدوية - الصابون - المواد الغذائية - الصلب الكربوني - الصلب المقاوم للحرارة - الطائرات - الغواصات - وتثبيت الأنابيب تحت البحر.. وهناك معادن أخرى (تمثل نحو 20% من المعادن ويقدرعائدها بنحو 46% من المبيعات) مثل الزركون الذى يدخل فى صناعة (السيراميك ، و الزجاج ، و التجهيزات الصناعية ، و العواكس ، ومحركات السيارات ، والصناعات النووية (قلوب المفاعلات)، و كذلك عنصر جارنيت المستخدم فى تلميع الأسطح المعدنية بضغط الهواء وضغط الماء ، وبضغط المياه - أحجار الجلخ ، وترشيح المياه ، وصناعة فلاتر المياه ، و أوراق الصنفرة والجرانيوليت (دهان الواجهات)، ومعدن الماجنيت اللازم لصناعة الحديد الاسفنجى ، والحديد الزهرعالى الجودة ، وصناعة الفيروتيتانيوم ، وتثبيت الأنابيب تحت مياه البحر ، وإزالة ملوحة التربة المستصلحة، إلى جانب المونازيت وهو (معدن مشع) ومصدر لإنتاج العناصر الأرضية النادرة ، ومركباتها والمواد المشعة.
المصدر الاهرام
تعليقات
إرسال تعليق