تلخص أحداث العريش كثيرا مما يجرى على أرض مصر فى وقت لا نرى فيه سوى بطولات رجال الجيش والشرطة وتضحياتهم فى مواجهة الإرهاب بينما نعانى من ارتباك وسوء إدارة فى قطاعات مدنية بالدولة.
فالارتباك فى التعامل مع ملفات بعينها لم يقتصر فقط على طريقة التعامل مع أزمة خروج المسيحيين فى العريش والأمثلة كثيرة على الأهواء التى تحكم إدارة ملفات مهمة فى مؤسسات بالدولة وتغول المعرقلين لعملية الإصلاح بدعاوى شتى سواء منهم من يريد مصلحة شخصية أو من يريد توسيع نفوذه على حساب آخرين أو من يخدم توجهات بعينها لا تتوافق مع ما تعلن عنه السلطة السياسية فى البلاد ويعطى الانطباع بوجود صراعات... والانطباعات أحيانا أقوى من الحقيقة.
كنا (وفد من صحيفة الأهرام) فى زيارة لمصابى عمليات سيناء الأسبوع الماضى بمستشفى المعادى العسكرى .. الجنود والضباط قالوا لنا «أنتم ترفعون روحنا المعنوية»، وعقدت روحهم المعنوية العظيمة لسانى من فرط صفاء النفس الذى يتمتعون به.. قلت لهم «على العكس تماما أنتم من ترفعون من روحنا المعنوية بتضحياتكم.. نحن نشعر بالخجل منكم ونتضاءل أمامكم»... البعض منا مشغول بالسعى وراء مكاسب محدودة أو تصفية حسابات... أنتم ضباط وجنود مصر أصدق ما فى مصر.
يقابل هذا الصدق والإخلاص والتجرد مشكلة فى تناول الشأن المصرى العام مستمرة منذ سنوات حيث تجاوز الضجيج والصخب منتهاه ولم يعد يجدى نفعا الدعوة إلى تغليب الحوار العاقل أو محاولة النقاش الهادئ. فما يحدث مع كل واقعة جديدة تصيب الرأى العام بالقلق والحيرة هو صورة طبق الأصل من وقائع كثيرة سبقتها دون أن نتعلم كيف نطرح الأمر على الشعب ودون أن نمهل أنفسنا فرصة للفهم .. ومن ثم يطرح المواطنون أسئلة كثيرة منها متعجل وكثير منها بدافع الانفعال والتأثر وتسهم بعض وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعى فى تأجيج تلك الانفعالات.
تحتاج واقعة التعامل الإعلامى والمجتمعى مع توابع خروج مجموعة من المواطنين المصريين، مسيحيى الديانة، من مدينة العريش إلى مدينة الإسماعيلية بعد استهداف عناصر تكفيرية إرهابية لهم وقتل مواطنين أبرياء دون جريرة، إلى وقفة صادقة مع انفسنا، مسئولين ومواطنين، وتلك بعض الملاحظات على طريقة النقاش العام، خاصة فى أوساط النخب:
> بدا من بعض ردود الفعل الغاضبة عن الأحداث وكأن أصحابها قد فوجئوا بأن مصر تواجه الإرهاب!
> وكأنه لم توصل نخب سياسية وناخبون فى انتخابات الرئاسة فى 2012 جماعة إرهابية لسدة الحكم!
> وكأنها لا تعلم بأن الإخوان فتحوا الأبواب أمام عناصر إرهابية من جنسيات مختلفة، وأن حركة حماس فى قطاع غزة قد حفرت أنفاقا تسرب منها إرهابيون إلى سيناء!
> وكأنها لم تعلم بتهديد خيرت الشاطر بقيام جماعته الإرهابية بحرق مصر إذا لم يعلن مرشحها محمد مرسى رئيسا!
> وكأنها لم تسمع خطاب المتشددين فوق المنابر!
> وكأنها لم تسمع عن تهديد الشاطر لعبد الفتاح السيسى وزير الدفاع، إذا أنفذ الجيش إرادة الشعب المصرى عندما خرج فى 30 يونيو!
> وكأنها لم تسمع كلام الرئيس عن حرب استنزاف جديدة!
نعم حادث قتل المواطنين الأبرياء بشع..
والقتل على الهوية الدينية جريمة ضد الإنسانية..
والجيش يخوض حربا شرسة ضد الإرهاب..
ولكن هل هذا من صنعنا أم من صنع الإرهاب؟!
توقفت أمام كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسى أمام طلبة المجموعة الثانية من البرنامج الرئاسى لتأهيل الشباب للقيادة يوم الثلاثاء الماضى، عندما أبدى دهشته ممن يقولون إن الدولة لا تدافع عن أهلنا فى العريش، وقال إن ذلك يؤلم كل أهالى الشهداء والمصابين من رجال الجيش والشرطة... وإن هدف الإرهابيين هو ترويع الشعب المصرى... وإنهم يستخدمون فى سبيل ذلك وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعى من أجل إشاعة الرعب والفزع فى نفوس المصريين... وأشار الرئيس إلى أنه سبق وأن البعض عرض عليه خطة تتضمن إجلاء جميع أهالى العريش منذ 40 شهرا، حتى يتسنى التعامل مع التنظيمات الإرهابية، التى تعمل على إشاعة الخوف والرعب والفزع والتشكيك فى دور الدولة وحماية المواطنين، ولكنه قال وقتها إنه من الأفضل أن يعيش الناس فى أماكنهم، وتقوم الدولة بالتعامل الحذر حتى لا نؤذى الأبرياء الموجودين هناك... وفى كلمته، قال السيسى إن إجلاء القرى والمدن ليس بالأمر الصعب، ولكننا لم ولن نفعل ذلك، وأن التعامل يتم الآن مثل «الجراح الذى يزيل الخطر دون أن يؤذى بقية المواطنين».
رؤية الرئيس واضحة وتعتمد على المعلومات، ولكن أين الخطأ فى التعامل مع ملف شائك من جانب مؤسسات أخري..؟
مسئولية المواجهة تقع على عاتق الدولة وأجهزتها الأمنية، وعلى عاتق الدعاة فى وزارة الأوقاف، وعلى عاتق مشيخة الأزهر، وعلى عاتق الصحف والفضائيات... هناك موجات من التكفير والتحريض على القتل تنطلق من حناجر معدومة الضمير، وتعيش بيننا دون رادع، والسكوت عن تلك الفئة هو تواطؤ فى حد ذاته، فى جريمة يدفع ثمنها جنود وضباط ومدنيون أبرياء... وفى أكثر من مناسبة وجه الرئيس بإجراءات حاسمة فى جرائم الإرهاب .. حدث ذلك فى جنازة النائب العام الشهيد هشام بركات، وبعد حادث الكنيسة البطرسية.. ولم نسمع عن الانتهاء من تعديل البرلمان قانون الإجراءات الجنائية، ولم نرسل الإرهابيين إلى المحاكمات العسكرية العاجلة، حتى يمكن ردع تلك الجماعات والأفراد عن أفعالهم الدامية.
وفى ظل التقاعس عن المواجهة الحاسمة على مستوى التشريع، جاء الأداء العام فى مواجهة حادث العريش لا يتناسب مع أداء الجيش فى المواجهة... بالفعل توجد فجوة فى تقديم المعلومات فى موعدها المناسب، حتى لا يقع الرأى العام فى حيرة من أمره. ورغم أنه ليس كل ما يعرف يقال فإننى أجد نفسى أسأل أجهزة الدولة: كيف تتحقق دعوة الرئيس للاصطفاف الوطنى فى غياب المعلومات؟!
أحسنت القوات المسلحة عندما أعلنت فى الأيام الأخيرة عن تطورات حملات التطهير فى «جبل الحلال» والتى تستهدف أوكار الإرهابيين فى مناطق وعرة، لا تصلح معها المعدات العسكرية التقليدية، وهى العمليات التى تفتح الطريق أمام نصر كبير فى الفترة المقبلة. وقد كان وقع تلك الأخبار جيدا على أوساط الرأى العام حيث يساعد ذلك فى تحقيق الاصطفاف الوطني.. وبالفعل تفهمت الأغلبية طبيعة ما يجرى فى العريش من هجمات جبانة ضد المسيحيين، بعد أن سجلت القوات المسلحة انتصارات مهمة ضد جماعات الإرهاب، التى تقف وراءها جهات مشبوهة كثيرة. ونتمنى أن يكون الاتجاه العام هو المكاشفة فى شئون كثيرة تهم الرأى العام، وتؤثر على الروح المعنوية للمواطنين، مثلما يحدث اليوم فى العملية العسكرية بجبل الحلال.
.... فإلى متى سنترك الرئيس والجيش يعملان وحدهما لحماية البلاد من الإرهاب ومن أهل الشر فى الخارج... وفى الداخل؟!
اقرأ أيضاً :
=======
تعليقات
إرسال تعليق