أمريكا وثورة 1919.. ويلسون خان مبادئه ورفض حق مصر فى تقرير مصيرها

المصدر الأهرام اليومي .  ahram.org.eg . أخبار تحقيقات و ملفات

حول نضال المصريين لتحقيق الاستقلال والتخلص من الاستعمار البريطانى عقب الحرب العالمية الأولي، نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالا يتناول الفترة ما بين نوفمبر 1918 ويونيو 1919، حين تعلقت آمال المصريين بالوعود البراقة التى ساقها الرئيس الأمريكى حينذاك وودرو ويلسون، حول ولادة عهد جديد تنعم فيه الشعوب حول العالم بالحرية والديمقراطية وحق تقرير المصير. وبسبب تلك الوعود وخطبه البليغة المفعمة بالحماس، أصبح ويلسون المنقذ ورمزا للنظام العالمى الجديد، وانتفض المصريون بزعامة سعد زغلول من أجل تحقيق حلمهم بالاستقلال، حيث آمنوا بأن الولايات المتحدة ستكون أكبر ضامن له.

ويشير المقال، الذى كتبه ايريز مانلا أستاذ التاريخ بجامعة هارفارد الأمريكية، إلى أنه سرعان ما تحطمت أحلام المصريين على صخرة الواقع المرير، إذ تراجع ويلسون عن مبادئه ونقاطه الأربع عشرة، وسارع بالاعتراف بسيادة بريطانيا على مصر بعد تحذيرات آرثر بلفور وزير الخارجية البريطاني، بأن ثورة 1919 يقوم بها متطرفون وعملاء مـأجورون للحزب الثورى التركى والبلاشفة. وقد وصف المفكر البارز محمد حسين هيكل(1888-1956) تخاذل ويلسون وقراره الصادم بأنه أقبح الخيانات. وقد اختار ايريز مانيلا ، ومؤلف كتاب اللحظة الويلسونية :تقرير المصير وأصول الحركة القومية المضادة للاستعمار، ذلك الوصف عنوانا لمقاله الذى نشر ضمن سلسلة من مقالات الرأي، لكبار المؤرخين والخبراء والمحللين وأساتذة التاريخ، تنشرها صحيفة نيويورك تايمز على مدى العالم الحالي، احتفالا بمرور مائة عام على 1919لرصد الأحداث المهمة والتحولات الكبرى التى شهدها عام 1919 والتى أعادت تشكيل العالم عقب الحرب العالمية الأولي.
وفيما يلى نص المقال:
فى نوفمبر 1918،ومع توافد الأخبار حول الهدنة فى أوروبا على القاهرة، اقترب صديق من المفكر البارز محمد حسين هيكل وقال له هذه هى اللحظة، من حقنا تقرير مصيرنا وبالتالى سيرحل الإنجليز عن مصر. وأوضح الصديق عندما سأله هيكل عن السر وراء هذه الفورة بأن الولايات المتحدة هى التى انتصرت فى الحرب، وهى ليست دولة إمبريالية، وبالتالى ستفرض حق تقرير المصير وستجبر الإنجليز على الانسحاب.
فقد كانت نهاية الحرب العالمية الأولى فترة للتوقعات الكبرى وكان الرئيس الأمريكى الأسبق وودرو ويلسون فى قلب تلك الفترة. ولمدة قصيرة بدا ويلسون للملايين حول العالم وكأنه إعلان عن عالم جديد يتشكل ستمنح فيه الشعوب حق تقرير مستقبلهاولقد أطلقت على تلك الفترة ، التى تمتد من خطاب ويلسون ذى الأربع عشرة نقطة فى يناير 1918 وحتى توقيع معاهدة فرساى فى يونيو1919،اللحظة الويلسونية لأنه أكثر من أى شخص آخر كان رمزا لوعود تلك الفترة.
فى مصر تحديدا كانت اللحظة الويلسونية مثيرة للمشاعر بصورة أكبر. فعندما بدأت الحرب العالمية الأولى فى عام 1914 أعلنت بريطانيا الحماية على مصر، التى كانت فى ذلك الوقت تابعة للحكم العثماني، مما منح الهيمنة البريطانية على مصر ، والوجود منذ 1882، شكلا رسميا، ولكن السلطات البريطانية روجت لتلك الحماية على أنها إجراء مؤقت بسبب الحرب، وهو ما سيعتمد عليه زعماء الحركة الوطنية فيما بعد. ولكن فرض الحماية البريطانية لم يجنب مصر أيا من ويلات الحرب، حيث أصبحت مصر قاعدة عسكرية ضخمة، واحتشد الآلاف من قوات الحلفاء على آراضيها، وزاد التضخم والتجنيد ومتطلبات الحرب الأخرى الحياة صعوبة.
وفى ذلك الوقت ظهرت الولايات المتحدة ورئيسها كبطل للأفكارالجديدة حول النظام العالمي، الذى قد يتبع انتصار الحلفاء. فقد أقنعت بلاغة خطب ويلسون وخاصة دفاعه القوى عن مبدأ تقرير المصيركثيرين فى مصر وفى مناطق أخرى من العالم بأن قواعد اللعبة فى طريقها للتغيير.
وحتى قبل أن تشارك الولايات المتحدة فى الحرب فى أبريل 1917، أعلن ويلسون أن السلام يجب أن يقبل بمبدأ أن الحكومات تستمد كل قواها من موافقة شعوبها. وبعد دخول الولايات المتحدة إلى الحرب، كان ويلسون أكثر اصرارا وأكد فى مايو 1917 أن الولايات المتحدة وحلفائها يقاتلون من أجل الحرية والحكم الذاتى وتنمية الشعوب دون املاءات.
وفى 8 يناير 1918 وجه ويلسون خطابا للكونجرس حدد فيه الرؤية الأمريكية للعالم عقب الحرب العالمية الأولي، وهو الخطاب الذى اشتهر عالميا باسم النقاط الأربع عشرة. ورغم أن الخطاب لم يتضمن بوضوح مصطلح تقرير المصير، إلا أن ويلسون استخدم المصطلح الشهر التالي، عندما وصفه بأنه مبدأ عمل ضروري، وشدد على أن كل تسوية اقليمية يجب أن تكون ولمصلحة الشعوب المعنية.
وبالتالى لم يكن مفاجئا أنه عندما انتهت الحرب فى نوفمبر 1918 توقع المصريون أن يعكس نظام ما بعد الحرب وعود ويلسون إبان الحرب، أو أنهم تحركوا بسرعة للمشاركة فى النظام الجديد الذى يوشك على الولادة. وفى 13 نوفمبر 1918 وبعد يومين فقط من الهدنة، طالبت مجموعة من الزعماء المصريين، سير رجينالد وينجيت المندوب البريطانى السامي، بالابلاغ عن رغبة مصر فى الاستقلال السياسي. كما طالبوا بالسماح لهم بالسفر إلى باريس لعرض قضية مصر من أجل الحصول على حق تقرير المصير أمام مؤتمر السلام . وقاد مجموعة زعماء مصر التى خاطبت وينجيت سعد زغلول، الذى اشتهر فى مصر بـ »أبو الأمة« .
وكان زغلول ليبراليا يمقت دعم الامبراطورية البريطانية للملكية المصرية المستبدة، واستقال من منصبه الوزارى احتجاجا على ذلك. ومع انتخابه فى المجلس التشريعي، أصبح زغلول بحلول عام 1918 زعيما للمعارضة.
وفى محاولة لكسب الوقت، طالب وينجيت الزعماء المصريين بالصبر نظرا لانشغال حكومة جلالة الملك بأمور أكثر الحاحا.
فبريطانيا طالما اعتبرت مصر، وبالأخص قناة السويس، خط حياة استراتيجى بالنسبة للامبراطورية البريطانية. وانطلاقا من إصرارها على الاحتفاط بسيادتها على مصر ، كان آخر ما تريده بريطانيا أن تطرح المطالب المصرية أمام مؤتمر السلام فى فرساي. ولذا سرعان ما رفضت لندن منح زغلول ووفده التصريح بالسفر.
وردا على ذلك، تحرك زغلول ورفاقه لحشد دعم الرأى العام وتنظيم المسيرات، وتوزيع العرائض، وبدء حملة اعلامية. وفى الوقت نفسه قدموا التماسا للرئيس ويلسون مباشرة. وفى برقية مؤثرة، أكد زغلول لويلسون أن المصريين يشعرون بالفرح ازاء ولادة عهد جديد سوف يفرض نفسه على الكون، بفضل أعمالك القوية ، مضيفا هذا العهد الجديد لن تعكر صفوه اطماح النفاق او سياسة السيطرة وتقديم المصالح الذاتية الباليةيجب أن يسمح للمصريين بفرصة الذهاب إلى باريس، حيث أن هذا ليس أكثر من حقهم الطبيعى والمقدس.
ومع بدء مؤتمر السلام فى يناير 1919 تظاهر المصريون دعما لزغلول، مما آثار غضب السلطات البريطانية وقررت اتخاذ اجراءات ضده. وبموجب قانون الطوارئ المعمول به منذ اندلاع الحرب العالمية الأولي، اعتقلت السلطات البريطانية زغلول وعددا كبيرا من مؤيديه، ثم تم نفيه فى 9 مارس 1919 إلى مالطا. ووفقا لمؤلف سيرة زغلول، لم تجد السلطات مع زغلول عند اعتقاله سوى مقصوصة من جريدة تضم نقاط ويلسون الأربع عشرة.
فجر اعتقال زغلول موجة من الاضرابات والمظاهرات فى جميع أنحاء مصر، مما أدى إلى اندلاع اشتباكات عنيفة سجلت فى التاريخ المصرى ك ثورة 1919 . شارك المصريون من مختلف الفئات: طلبة وعمالا وموظفين وفلاحين فى الثورة، كما خرجت النساء إلى الشوارع للمشاركة فى المظاهرات فى سابقة هى الأولى من نوعها. وردت السلطات البريطانية بتشديد اجراءات قانون الطوارئ. وخلال الأشهر التالية قتل نحو 800 مصرى وأصيب الآلاف.
وفى تلك الفترة انهالت البرقيات والخطابات والالتماسات والعرائض على مقر القنصلية الأمريكية فى القاهرة، معربة عن أملها فى ويلسون ومطالبة الولايات المتحدة بمساندة قضية الحق والحرية فى مصر. واشتكت رسالة موقعة من قبل سيدات مصر من وحشية بريطانيا حتى تجاه النساء. كما عرض منشور يسجل الوحشية البريطانية صورا لرجال مصريين وفوق صدورهم جروح غائرة من جراء استخدام السوط.
ورغم كل ذلك، لم تتحرك الإدارة الأمريكية، ورأى آلان دالاس، الذى كان وقتها دبلوماسيا شابا فى وحدة علاقات الشرق الأدنى ثم ترأس فيما بعد وكالة المخابرات المركزية سى أى إيه، أنه لا يجب الاعتراف بالنداءات المصرية ،واتفق معه آخرون.
وعندما كتب آرثر بلفور وزير الخارجية البريطاني، فى ابريل أن الوطنيين المتطرفين فى مصر، والذين وصفهم بأنهم عملاء مأجورون للحزب الثورى فى تركيا وبلاشفة، يستغلون كلمات ويلسون لإثارة حرب مقدسة ضد الخونة، سارع ويلسون بالموافقة على الاعتراف بسيادة بريطانيا على مصر.
جاءت اخبار قرار ويلسون ، الذى صدم المصريين ، فى الوقت الذى كان يعبر فيه زغلول ووفده، بعد اطلاق سراحهم من المنفى فى مالطا، البحر المتوسط فى طريقهم إلى باريس. وقد وصف هيكل قرار ويلسون بأنه ضرب المصريين كالصاعقة، فكيف يمكن لويلسون أن يحرم المصريين من حقهم فى تقرير المصير حتى قبل أن يصل الوفد إلى باريس؟ كان ذلك أقبح الخياناتكما كتب وأعمق تراجع عن المبادئ.
بقى زغلول فى باريس لعدة أشهر فى محاولة للدفاع عن قضيته وأرسل لويلسون سلسلة من الخطابات، وطلب مرارا مقابلته. وفى المقابل لم يحصل زغلول سوى على رسائل مقتضبة من سكرتير ويلسون يؤكد وصول خطابات زغلول وانشغال الرئيس بأمور أخري. ومع ذلك استمرت النداءات المصرية لعدة أشهر وعكس كثير منها، اقتناعا بأن ويلسون لا يمكن أن يقدم عن طيب خاطر على خيانة القضية المصرية، وبالتالى لابد وأنه خدع من قبل البريطانيين. وسعت إحدى الرسائل الموقعة من قبل مجموعة من الطلبة إلى تصحيح مفاهيم الرئيس ويلسون، وأكدت له أن الثورة المصرية ليست دينية ولا ضد الأجانب، وبالتأكيد ليست بلشفية.
وبحلول صيف 1919 ، وبعد يأسه من لقاء ويلسون، فكر زغلول فى الحصول على الدعم من الكونجرس الأمريكي. وفى يونيو أبلغ الصحافة المصرية أن لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، توصلت إلى أن مصر ليست تحت سيادة تركيا ولا بريطانيا، ولكنها ذات حكم ذاتي. وقد أثار ذلك فورة من المناقشات فى وسائل الاعلام المصرية وليس أكثر من ذلك.
وفى نوفمبر 1919،أرسل زغلول ، والذى كان مازال فى أوروبا ، برقية أخرى لويلسون يتوسل إليه أن يدعم المطالب المصرية. وعكست البرقية خيبة أمله المتنامية. وكتب فى البرقية أن الشعب المصرى يشيد بويلسون بصفته قائد العقيدة الجديدة التى ستضمن السلام والتقدم للعالم، والآن ولأنه وثق فى مبادئك فانه يعانى المعاملة الأكثر وحشية على يد البريطانيين.
وبحلول نهاية عام 1919 ورغم الفشل فى الحصول على الدعم الأمريكى ، أصبح الزعماء الوطنيون بمساندة الرأى العام المصري، أكثر اصرارا على مقاومة السيطرة البريطانية. ورفضا لجهود لندن للتفاوض ، كتب زغلول لوزير الخارجية البريطانى بلفور، أن روح العصر الجديدة تتطلب أن يكون لكل شعب الحق فى تقرير مصيره كاشفا عن اعتقاد بانه على الرغم من خيانة ويلسون، فقد طرأ تحول راديكالى على العالم مما جعل المبررات القديمة للاستعمار بالية.
ولا تعد التجربة المصرية مع اللحظة الويلسونية نادرة ، فمع انعقاد مؤتمر السلام فى فرساي، اندفع الوطنيون من مختلف أنحاء العالم من صينيين وكوريين وعربا ويهودا وأرمن وأكرادا، لعرض قضاياهم . وبالنسبة لممثلى الطموحات القومية، عادة ما بدا الرئيس ويلسون رمزا للعهد القادم، الذى يكفل حق تفرير المصير للجميع. تبنوا بلاغته فى تشكيل وتبرير أهدافهم واعتمدوا على دعم الرئيس ويلسون لتحقيقها. ومع ذلك انتهت معظم تلك التطلعات إلى خيبة الأمل. ومع اجتياح ثورة 1919 لمصر، اندلعت احتجاجات ومظاهرات مشابهة فى الصين والهند وكوريا. وفى باريس قدم الشاب نجوين تات ثانه، من منطقة الهند الصينية التى تستعمرها فرنسا، التماسا يطالب فيه بمزيد من الحرية لبلاده، وأعرب عن أمله لقاء الرئيس ويلسون لتقديم الالتماس له، ولكن اللقاء لم يتم أبدا والالتماس تم تجاهله. وسرعان ما سيتخذ ذلك الشاب اسما حركيا هو شى مين ويتخذ الشيوعية طريقا لتحرير شعبه.

تعليقات

المشاركات الشائعة