أكرم القصاص يكتب: محمود السعدنى.. الولد الشقى الصعلوك الضاحك "الحمقرى" وزعيم تنظيم"زمش".. الذكرى الرابعة لرحيل الكاتب الساخر الظريف الذى سجن بلا تهمة فاخترع "أظرف تنظيم سياسى"زمش"
- حكاياته تأريخ اجتماعى للصحافة والسياسة وقصص الملوك والصعاليك والانتهازيين والشرفاء
- يقول: "كنت أظن أن كل رجل ضاحك رجل هلّاس.. وبعد فترة طويلة من الزمان اكتشفت أن العكس هو الصحيح"
"الفُكهى الحق ينبغى أن يكون ممرورًا غاية المرارة، وإلا فإن فكاهته تصبح ضربًا من اللهو".. هكذا تحدث الكاتب الساخر الكبير محمود السعدنى، أحد أهم وأظرف كتاب السخرية العميقة المصريين والعرب، تاركا خلفه تراثا من الكتب التى تجمع بين الحكى الممتد والقص الشائق، لغة بسيطة مستحيلة، وقدرة على تقديم السخرية والنقد الاجتماعى والسياسى وضعته ضمن سلسال الساخرين العظام عبد الله النديم وبيرم التونسى وأيضا مع كتاب عصره الساخرين الكبار مثل الأستاذ أحمد رجب، أعطاه الله الصحة.
محمود السعدنى المولود فى 20 نوفمبر 1928، من رواد الكتابة الساخرة، له رحلة طويلة فى عالم الصحافة، تنقل فيها بين الكثير من الصحف والمجلات، فى مصر وخارجها، ترأس تحرير مجلة صباح الخير فى الستينات، كما شارك فى الحياة السياسية فى عهد الرئيس جمال عبد الناصر وسجن فى عهد أنور السادات بعد إدانته بتهمة الاشتراك فى قلب نظام الحكم، وهو الذى لم يكن إلا كاتبا على باب الله، لم يسع لمنصب، ولم يرض أحدا، وبعد الخروج من مصر فى عهد السادات تنقل للعمل فى صحف ومجلات عربية، ترك الواحدة تلو الأخرى، لأنه لم يتوقف عن كتابة ما يراه وما يقتنع به، فقد غادر الإمارات للكويت، ليغادرها إلى ليبيا، ثم العراق، واستقر فى لندن قبل أن يعود لمصر بعد رحيل الرئيس السادات، ويكتب أهم وأروع كتبه التى تجسد فيها الحكاء الساخر، ويقدم فيها تاريخا اجتماعيا وثقافيا لمصر وكتابها وشوارعها وحكايات لا تنفد عن السياسيين والنصابين والانتهازيين، لكنه أيضا حرص على أن يكتب تاريخ الكثير من الكتاب الكبار الذين لم تكتب لهم الشهرة.
وهو من أكثر من أرّخ لأبناء جيله من الفنانين والكتاب والمفكرين، المجهولين أو كبار المثقفين الذين لم يتسن للقارئ العادى أن يتعرف عليهم، وفى كتابه "مسافر على الرصيف" تكتشف مع السعدنى شخصيات مثل زكريا الحجاوى وعبد القادر القط ومحمد عودة وعبد الحميد الديب وعبد الحميد قطامش، منهم من اشتهر وعرف ومنهم من لم يبق عنه سوى القليل.
"مسافر على الرصيف"
السعدنى فى مسافر على الرصيف كان يؤرخ لنفسه وذاكرته ومقهى عبد الله فى الجيزة، حيث يجتمع المثقفون قبل أن يكتملوا أو أثناء التكوين، ويلتقط الكثير من التفاصيل المهمة عن حياة هؤلاء المثقفين من كل الألوان، والذين يمثلون جيلا يتكرر مع أجيال سابقة أو لاحقة، ويقول عن القهوة (كانت سياحتى فى قهوة عبد الله هى أهم سياحة فى العمر، وكانت رحلتى خلالها هى أطول رحلاتى فقد امتدت ١٠ سنوات كاملة).
محمود السعدنى لم يضع نفسه مركزا للكون ولا حرص على أن يصنع من نفسه أهم شخصية، وقدم رواية تتشابك أطرافها وتلتقى من حيث تفترق وتعود إلى نقطة المركز.. والمدهش أن ثلاثة أرباع كتب السعدنى صدرت فى سنواته العشرين الأخيرة، بعد عودته واستقراره فى مصر.
ولد السعدنى فى الجيزة، عمل فى بدايات حياته الصحفية فى عدد من الجرائد والمجلات الصغيرة، وعمل بالقطعة ببعض الجرائد مثل "المصرى" لسان حال حزب الوفد ودار الهلال وأصدر مع الرسام طوغان مجلة هزلية أغلقت بعد أعداد قليلة.
وفى "مذكرات الولد الشقى" قدم السعدنى حكاياته بأسلوب يقطر مرارة، لكنه يقطر سخرية مرة، ويروى فيه قصة اشتغاله بالصحافة, "وبداياته كانت تصدر فى إسطبلات حمير، وأخرى كان يديرها نصابون، وثالثة كان يفتحها صحفيون جادون لكنها تغلق، وكيف كان السعدنى يكتب ويحمل تصوره عن الصحافة كمهنة حرة تصنع المستحيل، وتنقل بين اليأس والأمل، والفلس، ويتنقل بين العمل لأيام بدون أجر، والبطالة لأسابيع.
فى مذكرات الولد الشقى هناك أسماء حقيقية وأخرى وهمية، وأحداث واقعية، مئات الأشخاص، بعضهم اختفى، والبعض الآخر استمر واشتهر، والبعض الثالث ظل فى منطقة وسطى.
يرصد السعدنى فى مذكرات الولد الشقى، نقاطا مظلمة، وأخرى مضيئة وباهرة، عن صحفيين كانوا مطاردين من الأنظمة، وكتابا أكفاء, تحولت الأقلام فى أيديهم إلى مدافع, والجرائد إلى ساحات قتال"، من عبد الله النديم إلى مصطفى كامل إلى الشيخ على المؤيد إلى لطفى السيد إلى طه حسين إلى عباس العقاد.
"الولد الشقى فى الضباب"
وفى "مذكرات الود الشقى" يقدم السعدنى كفاحه لأن يصبح صحفيًا، منذ خرج فى يوم من أيام 1946 من الجيزة يسعى وراء طوغان صديقه الذى كان قد سبقه وجرب حظه فى صحف ومجلات كثيرة أغلقت كلها أبوابها، خرج يسعى خلفه وكانت كل عدته قلم حبر رخيص وكشكول فيه بعض الأزجال، وفى "دكان فى بيت كان يوما ما إسطبلًا لحمير أحد المماليك البحرية, بدأ أول عمل صحفى"، فى مجلة اسمها الضباب, وكان صاحبها عامل طباعة استطاع استخراج رخصة صحفية, وكانت الصحيفة معروضة دائمًا للإيجار، استأجروا مجلة الضباب من كامل خليفة, وأصدروا منها عدة أعداد رافعين عليها شعار "مجلة الشباب والطلبة والجيل الجديد"، وسرعان ما اكتشف أن الضباب مأوى لعشرات من النصابين والمحتالين، وهجر السعدنى صحيفة الضباب، وخرج من تجربته الأولى فى الصحافة بحسرة، ولم يمر وقت طويل حتى صدرت صحيفة نداء الوطن، أصدرها مختار وهو نائب مدرسته القديمة, أصبح نائبًا على مبادئ الهيئة السعدية، رأى مختار أن السعدنى صغير السن لدرجة أنه لا يصلح للكتابة، وعندما اصطدم به فصله صاحب الجريدة، خرج الكاتب من نداء الوطن وعاد يسرح خلف طوغان من جديد، وفى مجلة الكشكول التقى برجل عظيم اسمه محمد حمدى, اكتفى خلال رحلة حياته بإصدار الأعداد الأولى من الصحف الجديدة, ثم الاستقالة لإصدار مشاريع جديدة، واستمر الكاتب فى الكشكول ثلاثة شهور نشر خلالها أزجالًا ومقالات ثم أغلقت أبوابها، وعاد من جديد يسعى وراء طوغان, وفى هذه المرة إلى مجلة الوادى.
وكان صديقهم القديم زكريا الحجاوى قد سبقهم إلى مجلة الوادى والتقى بكثيرين، ولم يلبث أن أصابه يأس قاتل، دفعه للتفكير فى الانتحار, "ذهب إلى شاطئ النهر" وكان يحمل فى يده كراسة قديمة كتب على الجلدة "مسافر بلا وداع، مجموعة قصص مصرية تأليف الكاتب المشهور محمود السعدنى، حقوق الطبع محفوظة للمؤلف"، ولكن فى اللحظة الأخيرة خانته شجاعته, وعاد من جديد إلى قهوة السروجى ليلعب الكومى كما اعتاد كل مساء، ولم يلبث أن انتقل إلى مجلة جديدة اسمها "واحدة ونص" وكانت ضاحكة وساخرة وجذابة، كان مأمون الشناوى وصلاح عبد الجيد هما رئيسى التحرير. فذهب إلى المجلة, واستقبله مأمون الشناوى بعدم مبالاة وبدون ترحيب "وقال له عاوز تكتب؟ ولما أجاب بالإيجاب, قال له وبتعرف تكتب؟ قال نعم، فأشار إلى مكتبه وقال أقعد كده ورينى، (و صدر العدد الثانى من "كلمة ونص" وجد كل حرف كتبه منشورًا فى المجلة وكاد قلبه يتوقف من شدة الفرحة، وأصبح محررا بالمجلة وبمرتب شهرى ستة جنيهات، لكنه حصل على المرتب مرة واحدة رغم عمله خمسة شهور كاملة.
ويتنقل محمود السعدنى بين صحف ومجلات أغلبها فاشل أو مجهول وبعضها محترم لكنه كان يصر على الاستمرار، ويروى قصصا تعرفه على الكاتب الكبير الراحل محمد عودة الذى أدخله عالم المثقفين كما تعرف على رسامين مثل رخا وزهدى، ويتابع رحلته التى تمتد فى عالم الكتابة ما يقارب الستين عاما.
"الحمقرى العبقرى والمرارة".
يلخص السعدنى فلسفته فى السخرية والحزن (ولأنى حمقرى.. مزيج من الحمار والعبقرى) فقد كنت أظن أن كل رجل ضاحك رجل هلّاس.. ولأنى حمقرى كنت أرفع شعارًا حمقريًّا "أنا أضحك إذن أنا سعيد"، وبعد فترة طويلة من الزمان اكتشفت أن العكس هو الصحيح، واكتشفت أن كل رجل ضاحك رجل بائس، وأنه مقابل كل ضحكة تقرقع على لسانه تقرقع مأساة داخل أحشائه، وأنه مقابل كل ضحكة ترتسم على شفتيه تنحدر دمعة داخل قلبه.. ولكن هناك حزن هلفوت، وهناك أيضًا حزن مقدس.. وصاحب الحزن الهلفوت يحمله على رأسه ويدور به على الناس.. التقطيبة على الجبين، والرعشة فى أرنبة الأنف، والدمعة على الخدين.. يالاللى! وهو يدور بها على خلق الله يبيع لهم أحزانه، وهو بعد فترة يكون قد باع رصيده من الأحزان وتخفف، ويفارقه الحزن وتبقى آثاره على الوجه، اكسسوارًا يرتديه الحزين الهلفوت ويسترزق.
لكن الحزن المقدس حزن عظيم، والحزن العظيم نتيجة هموم عظيمة، والهموم العظيمة لا تسكن إلا نفوسًا أعظم.
عندما بلغ محمود السعدنى الستين من عمره، كتب مقالا فى أخبار اليوم عن الستين، قال فيه إنه عندما كان شابا لم يكن يتصور الوصول إلى الستين، أما وقد وصل إلى الستين فسوف ينظر له الشباب مثلما كان ينظر إلى من بلغوا الستين، ثم كتب فى السبعين كتابه الذى يودع فيه الطواجن، والأطعمة الدسمة التى كان يحبها.
وبالرغم من سخريته التى تصنع إطارا، فقد كان يقدم داخل السخرية فلسفة عميقة، ربما لم يكن الكثيرون يهتمون بها، خاصة هؤلاء الذين اكتفوا باعتباره كاتبا ساخرا وكفى، مع أنه كان مشغولا بالكثير من الأسئلة الكبرى اختفت خلف كتابته الساخرة التى جمعت دائما بين العمق وخفة الدم دون أن يقع فى فخ الإفيهات.
كل من يتذكر السعدنى يتذكر الكثير من قفشاته وحكاياته التى كان يحول فيها النقد إلى سخرية، بالرغم من كتاباته الأدبية المبكرة التى لم تخل من سخرية عميقة وإن كانت لا تثير الضحك الكثيف مثلما تفعل حكاياته المتأخرة، فقصته جنة رضوان كانت تقدم أحلام البسطاء عن الجنة، الفران الفقير الذى لا يتصور الجنة أكثر من طبق فول وماء بارد من القلة وحياة على ضفاف الحياة.
محمود السعدنى كان كاتبا فى الأساس لديه دائما أحلام أن يسجل الكثير من الروايات والقصص والكتابات المنوعة التى ملأت كتبه وفاضت على من حوله، كان يمتلك كالكثير من الموهوبين أسلوبا يبدو سهلا فى الشكل لكنه ممتنع عند محاولة تقليده، لهذا فقد فشل الذين حاولوا الحياة فى جلباب السعدنى، لكن نجح من تلاميذه من اختط لنفسه طريقها الخاص.
"الطريق إلى زمش"
السعدنى الساخر ليس الذى يضحك أو يزغزغ لكنه كاتب فى الأساس له قضيته وأفكاره والسخرية قالب يضع فيه ما يلائم الفكرة، لا يتعامل مع الكتابة الساخرة على أنها إلقاء النكت والمونولوجات، السعدنى ليس مجرد كاتب ساخر لكنه فى الحقيقة أديب ظل طوال عمره يحمل أفكاره وأحلامه.
كان السعدنى ناقدا اجتماعيا يستخدم السخرية فى نقده ولهذا دخل فى جدل مع كثيرين قالوا أو طالبوا بالنقد البناء، فقال فى مقال ساخر من مقالاته إنه لا يوجد حاجة اسمها النقد البناء فالنقد عامة هو نقد يهدف للهدم من أجل البناء. لهذا فهو امتداد لكبار النقاد الاجتماعيين عبد الله النديم وبيرم التونسى وغيرهما، ربما لهذا فإن رحيل السعدنى لا يعنى اختفاءه، لأنه ترك تراثا من الكتابة الكثير منها يخلد ويستمر، ومعه السعدنى الذى لا يغيب ظرفه ولا تغيب أفكاره.
أما كتاب "الطريق إلى زمش" ويروى فيه تجربته فى فترة ما بعد الثورة بعد الوحدة بين مصر وسوريا، وسلمه أعضاء الحزب الشيوعى السورى رسالة حينما كان فى سوريا وأخبروه أنها مطالب منهم إلى الرئيس وطلبوا منه تسليمها إليه حين الرجوع إلى القاهرة، وبحسن نية سلمها السعدنى لأنور السادات ليسلمها إلى الرئيس، ويتضح أنها تحمل تهديدات لعبد الناصر، وتم اعتقال السعدنى، وفى "الطريق إلى زمش" يروى قصته بمزيج من السخرية والحى، ومنها أنه وجد الكثير من الشيوعيين وكل مجموعة منهم تمثل تنظيما له اسم، واختصار، مثل حدتو وغيرها، تلفت حوله فوجد الشيوعيين والوفديين والماركسيين، فاستغرب أن كل السجناء ينتمون لأحزاب سياسية وهو وحيد دون حزب.
فقرر إنشاء وإشهار حزب (زمش) وهو فى السجن.. وحين كُثر الحديث فى أوساط السجناء عن (زمش) استدعى مأمور السجن السعدنى، فذهب إليه محمود السعدنى وهو منكوش الشعر مجعد اللحية وثيابه متسخة وممزقة ويرتدى حذاء بسيطا..
ما أن دخل عليه، حتى سأله المأمور:
يعنى إيه حزب (زمش) يا روح أمك
فرد عليه السعدنى مع ابتسامة:
زمش تعنى اختصار لـ: زى منت شايف
ضحك مأمور السجن وتركه يذهب
تجربة السعدنى نقد ظريف للشيوعيين ترصد أسباب عدم جماهيريتهم، وقابلية أكثر تنظيماتهم للمزايدة والانشقاق والتشرذم، ويفعل ذلك بأسلوب ساخر.
مذكرات السعدنى -الولد الشقى من أهم ما كتب فى أدب السيرة الذاتية وهى سلسلة يروى فيها رحلته من بداياته فى الصحافة حتى التسعينات ومنها الولد الشقى والتى يروى فى جزئها الأول قصة طفولته وصباه فى الجيزة، وفى الجزء الثانى، قصة بداياته مع الصحافة، وبعدها الولد الشقى فى السجن وفيها صور متنوعة عن شخصيات عرفها فى السجن، ثم الولد الشقى فى المنفى ويقدم فيها قصة منفاه بالكامل، والطريق إلى زمش عن ذكرياته عن اول فترة قضاها فى السجن، وكان دائما حكاء صاحب تجربة واسعة طولا وعرضا وعمقا، ومن كتبه مسافر على الرصيف، وملاعيب الولد الشقى، والسعلوكى فى بلاد الإفريكى عن رحلاته لإفريقيا، والموكوس فى بلد الفلوس عن رحلة إلى لندن، ووداعا للطواجن، ورحلات ابن عطوطة، وأمريكا يا ويكا، ومصر من تانى، ومسرحيات وقصص فى بداياته، ومنها مسرحية "عزبة بنايوتى" ورواية "قهوة كتكوت" وله كتاب فى السبعينات عن "المضحكون" تنبأ فيه بنجوم الكوميديا ومنهم عادل إمام وشقيقه صلاح السعدنى، وله أيضا حمار من الشرق، وعودة الحمار، وبالطول والعرض رحلة إلى بلاد الخواجات.
توفى السعدنى فى 4 مايو 2010 عن 82، تاركا تراثا مهما من الكتابة المبهجة والساخرة المرة.
- يقول: "كنت أظن أن كل رجل ضاحك رجل هلّاس.. وبعد فترة طويلة من الزمان اكتشفت أن العكس هو الصحيح"
"الفُكهى الحق ينبغى أن يكون ممرورًا غاية المرارة، وإلا فإن فكاهته تصبح ضربًا من اللهو".. هكذا تحدث الكاتب الساخر الكبير محمود السعدنى، أحد أهم وأظرف كتاب السخرية العميقة المصريين والعرب، تاركا خلفه تراثا من الكتب التى تجمع بين الحكى الممتد والقص الشائق، لغة بسيطة مستحيلة، وقدرة على تقديم السخرية والنقد الاجتماعى والسياسى وضعته ضمن سلسال الساخرين العظام عبد الله النديم وبيرم التونسى وأيضا مع كتاب عصره الساخرين الكبار مثل الأستاذ أحمد رجب، أعطاه الله الصحة.
محمود السعدنى المولود فى 20 نوفمبر 1928، من رواد الكتابة الساخرة، له رحلة طويلة فى عالم الصحافة، تنقل فيها بين الكثير من الصحف والمجلات، فى مصر وخارجها، ترأس تحرير مجلة صباح الخير فى الستينات، كما شارك فى الحياة السياسية فى عهد الرئيس جمال عبد الناصر وسجن فى عهد أنور السادات بعد إدانته بتهمة الاشتراك فى قلب نظام الحكم، وهو الذى لم يكن إلا كاتبا على باب الله، لم يسع لمنصب، ولم يرض أحدا، وبعد الخروج من مصر فى عهد السادات تنقل للعمل فى صحف ومجلات عربية، ترك الواحدة تلو الأخرى، لأنه لم يتوقف عن كتابة ما يراه وما يقتنع به، فقد غادر الإمارات للكويت، ليغادرها إلى ليبيا، ثم العراق، واستقر فى لندن قبل أن يعود لمصر بعد رحيل الرئيس السادات، ويكتب أهم وأروع كتبه التى تجسد فيها الحكاء الساخر، ويقدم فيها تاريخا اجتماعيا وثقافيا لمصر وكتابها وشوارعها وحكايات لا تنفد عن السياسيين والنصابين والانتهازيين، لكنه أيضا حرص على أن يكتب تاريخ الكثير من الكتاب الكبار الذين لم تكتب لهم الشهرة.
وهو من أكثر من أرّخ لأبناء جيله من الفنانين والكتاب والمفكرين، المجهولين أو كبار المثقفين الذين لم يتسن للقارئ العادى أن يتعرف عليهم، وفى كتابه "مسافر على الرصيف" تكتشف مع السعدنى شخصيات مثل زكريا الحجاوى وعبد القادر القط ومحمد عودة وعبد الحميد الديب وعبد الحميد قطامش، منهم من اشتهر وعرف ومنهم من لم يبق عنه سوى القليل.
"مسافر على الرصيف"
السعدنى فى مسافر على الرصيف كان يؤرخ لنفسه وذاكرته ومقهى عبد الله فى الجيزة، حيث يجتمع المثقفون قبل أن يكتملوا أو أثناء التكوين، ويلتقط الكثير من التفاصيل المهمة عن حياة هؤلاء المثقفين من كل الألوان، والذين يمثلون جيلا يتكرر مع أجيال سابقة أو لاحقة، ويقول عن القهوة (كانت سياحتى فى قهوة عبد الله هى أهم سياحة فى العمر، وكانت رحلتى خلالها هى أطول رحلاتى فقد امتدت ١٠ سنوات كاملة).
محمود السعدنى لم يضع نفسه مركزا للكون ولا حرص على أن يصنع من نفسه أهم شخصية، وقدم رواية تتشابك أطرافها وتلتقى من حيث تفترق وتعود إلى نقطة المركز.. والمدهش أن ثلاثة أرباع كتب السعدنى صدرت فى سنواته العشرين الأخيرة، بعد عودته واستقراره فى مصر.
ولد السعدنى فى الجيزة، عمل فى بدايات حياته الصحفية فى عدد من الجرائد والمجلات الصغيرة، وعمل بالقطعة ببعض الجرائد مثل "المصرى" لسان حال حزب الوفد ودار الهلال وأصدر مع الرسام طوغان مجلة هزلية أغلقت بعد أعداد قليلة.
وفى "مذكرات الولد الشقى" قدم السعدنى حكاياته بأسلوب يقطر مرارة، لكنه يقطر سخرية مرة، ويروى فيه قصة اشتغاله بالصحافة, "وبداياته كانت تصدر فى إسطبلات حمير، وأخرى كان يديرها نصابون، وثالثة كان يفتحها صحفيون جادون لكنها تغلق، وكيف كان السعدنى يكتب ويحمل تصوره عن الصحافة كمهنة حرة تصنع المستحيل، وتنقل بين اليأس والأمل، والفلس، ويتنقل بين العمل لأيام بدون أجر، والبطالة لأسابيع.
فى مذكرات الولد الشقى هناك أسماء حقيقية وأخرى وهمية، وأحداث واقعية، مئات الأشخاص، بعضهم اختفى، والبعض الآخر استمر واشتهر، والبعض الثالث ظل فى منطقة وسطى.
يرصد السعدنى فى مذكرات الولد الشقى، نقاطا مظلمة، وأخرى مضيئة وباهرة، عن صحفيين كانوا مطاردين من الأنظمة، وكتابا أكفاء, تحولت الأقلام فى أيديهم إلى مدافع, والجرائد إلى ساحات قتال"، من عبد الله النديم إلى مصطفى كامل إلى الشيخ على المؤيد إلى لطفى السيد إلى طه حسين إلى عباس العقاد.
"الولد الشقى فى الضباب"
وفى "مذكرات الود الشقى" يقدم السعدنى كفاحه لأن يصبح صحفيًا، منذ خرج فى يوم من أيام 1946 من الجيزة يسعى وراء طوغان صديقه الذى كان قد سبقه وجرب حظه فى صحف ومجلات كثيرة أغلقت كلها أبوابها، خرج يسعى خلفه وكانت كل عدته قلم حبر رخيص وكشكول فيه بعض الأزجال، وفى "دكان فى بيت كان يوما ما إسطبلًا لحمير أحد المماليك البحرية, بدأ أول عمل صحفى"، فى مجلة اسمها الضباب, وكان صاحبها عامل طباعة استطاع استخراج رخصة صحفية, وكانت الصحيفة معروضة دائمًا للإيجار، استأجروا مجلة الضباب من كامل خليفة, وأصدروا منها عدة أعداد رافعين عليها شعار "مجلة الشباب والطلبة والجيل الجديد"، وسرعان ما اكتشف أن الضباب مأوى لعشرات من النصابين والمحتالين، وهجر السعدنى صحيفة الضباب، وخرج من تجربته الأولى فى الصحافة بحسرة، ولم يمر وقت طويل حتى صدرت صحيفة نداء الوطن، أصدرها مختار وهو نائب مدرسته القديمة, أصبح نائبًا على مبادئ الهيئة السعدية، رأى مختار أن السعدنى صغير السن لدرجة أنه لا يصلح للكتابة، وعندما اصطدم به فصله صاحب الجريدة، خرج الكاتب من نداء الوطن وعاد يسرح خلف طوغان من جديد، وفى مجلة الكشكول التقى برجل عظيم اسمه محمد حمدى, اكتفى خلال رحلة حياته بإصدار الأعداد الأولى من الصحف الجديدة, ثم الاستقالة لإصدار مشاريع جديدة، واستمر الكاتب فى الكشكول ثلاثة شهور نشر خلالها أزجالًا ومقالات ثم أغلقت أبوابها، وعاد من جديد يسعى وراء طوغان, وفى هذه المرة إلى مجلة الوادى.
وكان صديقهم القديم زكريا الحجاوى قد سبقهم إلى مجلة الوادى والتقى بكثيرين، ولم يلبث أن أصابه يأس قاتل، دفعه للتفكير فى الانتحار, "ذهب إلى شاطئ النهر" وكان يحمل فى يده كراسة قديمة كتب على الجلدة "مسافر بلا وداع، مجموعة قصص مصرية تأليف الكاتب المشهور محمود السعدنى، حقوق الطبع محفوظة للمؤلف"، ولكن فى اللحظة الأخيرة خانته شجاعته, وعاد من جديد إلى قهوة السروجى ليلعب الكومى كما اعتاد كل مساء، ولم يلبث أن انتقل إلى مجلة جديدة اسمها "واحدة ونص" وكانت ضاحكة وساخرة وجذابة، كان مأمون الشناوى وصلاح عبد الجيد هما رئيسى التحرير. فذهب إلى المجلة, واستقبله مأمون الشناوى بعدم مبالاة وبدون ترحيب "وقال له عاوز تكتب؟ ولما أجاب بالإيجاب, قال له وبتعرف تكتب؟ قال نعم، فأشار إلى مكتبه وقال أقعد كده ورينى، (و صدر العدد الثانى من "كلمة ونص" وجد كل حرف كتبه منشورًا فى المجلة وكاد قلبه يتوقف من شدة الفرحة، وأصبح محررا بالمجلة وبمرتب شهرى ستة جنيهات، لكنه حصل على المرتب مرة واحدة رغم عمله خمسة شهور كاملة.
ويتنقل محمود السعدنى بين صحف ومجلات أغلبها فاشل أو مجهول وبعضها محترم لكنه كان يصر على الاستمرار، ويروى قصصا تعرفه على الكاتب الكبير الراحل محمد عودة الذى أدخله عالم المثقفين كما تعرف على رسامين مثل رخا وزهدى، ويتابع رحلته التى تمتد فى عالم الكتابة ما يقارب الستين عاما.
"الحمقرى العبقرى والمرارة".
يلخص السعدنى فلسفته فى السخرية والحزن (ولأنى حمقرى.. مزيج من الحمار والعبقرى) فقد كنت أظن أن كل رجل ضاحك رجل هلّاس.. ولأنى حمقرى كنت أرفع شعارًا حمقريًّا "أنا أضحك إذن أنا سعيد"، وبعد فترة طويلة من الزمان اكتشفت أن العكس هو الصحيح، واكتشفت أن كل رجل ضاحك رجل بائس، وأنه مقابل كل ضحكة تقرقع على لسانه تقرقع مأساة داخل أحشائه، وأنه مقابل كل ضحكة ترتسم على شفتيه تنحدر دمعة داخل قلبه.. ولكن هناك حزن هلفوت، وهناك أيضًا حزن مقدس.. وصاحب الحزن الهلفوت يحمله على رأسه ويدور به على الناس.. التقطيبة على الجبين، والرعشة فى أرنبة الأنف، والدمعة على الخدين.. يالاللى! وهو يدور بها على خلق الله يبيع لهم أحزانه، وهو بعد فترة يكون قد باع رصيده من الأحزان وتخفف، ويفارقه الحزن وتبقى آثاره على الوجه، اكسسوارًا يرتديه الحزين الهلفوت ويسترزق.
لكن الحزن المقدس حزن عظيم، والحزن العظيم نتيجة هموم عظيمة، والهموم العظيمة لا تسكن إلا نفوسًا أعظم.
عندما بلغ محمود السعدنى الستين من عمره، كتب مقالا فى أخبار اليوم عن الستين، قال فيه إنه عندما كان شابا لم يكن يتصور الوصول إلى الستين، أما وقد وصل إلى الستين فسوف ينظر له الشباب مثلما كان ينظر إلى من بلغوا الستين، ثم كتب فى السبعين كتابه الذى يودع فيه الطواجن، والأطعمة الدسمة التى كان يحبها.
وبالرغم من سخريته التى تصنع إطارا، فقد كان يقدم داخل السخرية فلسفة عميقة، ربما لم يكن الكثيرون يهتمون بها، خاصة هؤلاء الذين اكتفوا باعتباره كاتبا ساخرا وكفى، مع أنه كان مشغولا بالكثير من الأسئلة الكبرى اختفت خلف كتابته الساخرة التى جمعت دائما بين العمق وخفة الدم دون أن يقع فى فخ الإفيهات.
كل من يتذكر السعدنى يتذكر الكثير من قفشاته وحكاياته التى كان يحول فيها النقد إلى سخرية، بالرغم من كتاباته الأدبية المبكرة التى لم تخل من سخرية عميقة وإن كانت لا تثير الضحك الكثيف مثلما تفعل حكاياته المتأخرة، فقصته جنة رضوان كانت تقدم أحلام البسطاء عن الجنة، الفران الفقير الذى لا يتصور الجنة أكثر من طبق فول وماء بارد من القلة وحياة على ضفاف الحياة.
محمود السعدنى كان كاتبا فى الأساس لديه دائما أحلام أن يسجل الكثير من الروايات والقصص والكتابات المنوعة التى ملأت كتبه وفاضت على من حوله، كان يمتلك كالكثير من الموهوبين أسلوبا يبدو سهلا فى الشكل لكنه ممتنع عند محاولة تقليده، لهذا فقد فشل الذين حاولوا الحياة فى جلباب السعدنى، لكن نجح من تلاميذه من اختط لنفسه طريقها الخاص.
"الطريق إلى زمش"
السعدنى الساخر ليس الذى يضحك أو يزغزغ لكنه كاتب فى الأساس له قضيته وأفكاره والسخرية قالب يضع فيه ما يلائم الفكرة، لا يتعامل مع الكتابة الساخرة على أنها إلقاء النكت والمونولوجات، السعدنى ليس مجرد كاتب ساخر لكنه فى الحقيقة أديب ظل طوال عمره يحمل أفكاره وأحلامه.
كان السعدنى ناقدا اجتماعيا يستخدم السخرية فى نقده ولهذا دخل فى جدل مع كثيرين قالوا أو طالبوا بالنقد البناء، فقال فى مقال ساخر من مقالاته إنه لا يوجد حاجة اسمها النقد البناء فالنقد عامة هو نقد يهدف للهدم من أجل البناء. لهذا فهو امتداد لكبار النقاد الاجتماعيين عبد الله النديم وبيرم التونسى وغيرهما، ربما لهذا فإن رحيل السعدنى لا يعنى اختفاءه، لأنه ترك تراثا من الكتابة الكثير منها يخلد ويستمر، ومعه السعدنى الذى لا يغيب ظرفه ولا تغيب أفكاره.
أما كتاب "الطريق إلى زمش" ويروى فيه تجربته فى فترة ما بعد الثورة بعد الوحدة بين مصر وسوريا، وسلمه أعضاء الحزب الشيوعى السورى رسالة حينما كان فى سوريا وأخبروه أنها مطالب منهم إلى الرئيس وطلبوا منه تسليمها إليه حين الرجوع إلى القاهرة، وبحسن نية سلمها السعدنى لأنور السادات ليسلمها إلى الرئيس، ويتضح أنها تحمل تهديدات لعبد الناصر، وتم اعتقال السعدنى، وفى "الطريق إلى زمش" يروى قصته بمزيج من السخرية والحى، ومنها أنه وجد الكثير من الشيوعيين وكل مجموعة منهم تمثل تنظيما له اسم، واختصار، مثل حدتو وغيرها، تلفت حوله فوجد الشيوعيين والوفديين والماركسيين، فاستغرب أن كل السجناء ينتمون لأحزاب سياسية وهو وحيد دون حزب.
فقرر إنشاء وإشهار حزب (زمش) وهو فى السجن.. وحين كُثر الحديث فى أوساط السجناء عن (زمش) استدعى مأمور السجن السعدنى، فذهب إليه محمود السعدنى وهو منكوش الشعر مجعد اللحية وثيابه متسخة وممزقة ويرتدى حذاء بسيطا..
ما أن دخل عليه، حتى سأله المأمور:
يعنى إيه حزب (زمش) يا روح أمك
فرد عليه السعدنى مع ابتسامة:
زمش تعنى اختصار لـ: زى منت شايف
ضحك مأمور السجن وتركه يذهب
تجربة السعدنى نقد ظريف للشيوعيين ترصد أسباب عدم جماهيريتهم، وقابلية أكثر تنظيماتهم للمزايدة والانشقاق والتشرذم، ويفعل ذلك بأسلوب ساخر.
مذكرات السعدنى -الولد الشقى من أهم ما كتب فى أدب السيرة الذاتية وهى سلسلة يروى فيها رحلته من بداياته فى الصحافة حتى التسعينات ومنها الولد الشقى والتى يروى فى جزئها الأول قصة طفولته وصباه فى الجيزة، وفى الجزء الثانى، قصة بداياته مع الصحافة، وبعدها الولد الشقى فى السجن وفيها صور متنوعة عن شخصيات عرفها فى السجن، ثم الولد الشقى فى المنفى ويقدم فيها قصة منفاه بالكامل، والطريق إلى زمش عن ذكرياته عن اول فترة قضاها فى السجن، وكان دائما حكاء صاحب تجربة واسعة طولا وعرضا وعمقا، ومن كتبه مسافر على الرصيف، وملاعيب الولد الشقى، والسعلوكى فى بلاد الإفريكى عن رحلاته لإفريقيا، والموكوس فى بلد الفلوس عن رحلة إلى لندن، ووداعا للطواجن، ورحلات ابن عطوطة، وأمريكا يا ويكا، ومصر من تانى، ومسرحيات وقصص فى بداياته، ومنها مسرحية "عزبة بنايوتى" ورواية "قهوة كتكوت" وله كتاب فى السبعينات عن "المضحكون" تنبأ فيه بنجوم الكوميديا ومنهم عادل إمام وشقيقه صلاح السعدنى، وله أيضا حمار من الشرق، وعودة الحمار، وبالطول والعرض رحلة إلى بلاد الخواجات.
توفى السعدنى فى 4 مايو 2010 عن 82، تاركا تراثا مهما من الكتابة المبهجة والساخرة المرة.
المصدر اليوم السابع
تعليقات
إرسال تعليق