الخبراء يصرخون:الكتاب المدرسى .. يتهـــاوى

لا أحد في العالم يمكنه أن يتحدث عن التغيير أو التطوير أو يطلق خياله لأى حلم صغير أو كبير دون أن ينظر أولا لحال منظومة التعليم ، لأننا لا يمكن أن نختلف على طردية العلاقة بين مستوى العلم والتعلم فى أى دولة وبين مستوى الرقى والتقدم .. كما لايمكننا أن ننكر أن تدهورا شديدا أصاب التعليم المصرى فى العقود الأخيرة، لم تقتصر سلبياته على محدودية المستوى العلمى للتلاميذ بل امتدت لتجميد مهاراتهم من القدرة على الفهم والابتكار والتحصيل ..ماذا حدث للتعليم المصرى الذى كان رائدا وقائدا لنهضة تعليمية كبرى في دول عربية في الستينيات والسبعينيات؟ القصة تبدأ ولا تنتهى بحكاية كتاب مدرسى ومناهج يخضع اختيار واضعيها للتجارب التى تصيب أحيانا وتخطئ أحيانا كثيرة .. في هذه السطور نناقش مشكلات الطباعة والإخراج والتأليف لكتاب يصنع أساسا لحلم التقدم للمصريين.
يقول الدكتور حسن شحاته أستاذ المناهج بكلية التربية بجامعة عين شمس وعضو المجالس القومية المتخصصة إن مسألة تأليف الكتب المدرسية أشبه بالحدوتة، وتتم بعدة مراحل فقبل التسعينيات كان يتم تأليف الكتب عن طريق التكليف،حيث يكلف وزير التربية والتعليم مستشار المادة الدراسية سواء كانت »لغة عربية أو رياضيات أو علوم وغيرها« باختيار 3 من الخبراء العاملين في الجامعة أو في التوجيه،لتأليف الكتاب ،ويتم تأليفه فى حدود عام واحد أو أقل بقليل، وفقا لمواصفات تضعها وزارة التربية والتعليم، وتكون المكافأة نحو 8 آلاف جنيه ،ثم تتم عملية المراجعة عن طريق أحد الخبراء خلافا لمؤلفى الكتاب،وتكون مكافأته ألفي جنيه.
وأضاف شحاته انه بعد الانتهاء من عملية التأليف تأتي عملية الطباعة،وكانت تتم في دور النشر الحكومية ومنها،المؤسسات الصحفية كالأهرام وأخبار اليوم ودار التحرير،ودار الهلال وغيرها.
أما المرحلة الثانية عام 1993 فتبدأ عندما تم عقد مؤتمر دولى للتعليم الأساسي،وفي هذا المؤتمر تم الاتفاق علي أن يتم تأليف الكتاب المدرسي في دور النشر المصرية علي هيئة مسابقة،ويتم تحكيم هذا الكتاب من 5 متخصصين من الخبراء غير المؤلفين،وهذه المسابقة تقدم أفضل الكتب من حيث المضمون والإخراج والصور والكتابة والألوان وغيرها،وكانت هذه الدور تحصل علي 300 ألف جنيه للكتاب،أو تقوم بطبع مايقرب من نصف مليون نسخة فى مطابعها، وكانت تمتاز هذه المسابقة بأنها تقدم أفضل الكتب للطلاب مضمونا وإخراجا،واستمرت هذه المرحلة من عهد الدكتور حسين كامل بهاء الدين وزير التعليم الأسبق فى ذلك الوقت، واستمر هذا الإجراء حتي عام 2000.
وكانت هذه المسابقة تعلن في الصحف اليومية بشروط ومواصفات وكراسة شروط تسحبها دور النشر التى ترغب في المشاركة،ويصبح الكتاب ملكا لوزارة التربية والتعليم،وتتم مراجعته عن طريق مستشارين من الوزارة.
أسوأ مرحلة
«المناقصة» هي أسوأ مرحلة مر بها الكتاب المدرسي ـ حسبما يوضح الدكتور شحاتة ـ لأن دور النشر تقدم الكتاب الفائز للوزارة بدون مقابل مادى، وتحصل في نفس الوقت على حق طباعة مايقرب من نصف مليون كتاب للوزارة، وهذا ما أدي إلي تدهور مستوى إخراج الكتاب المدرسي.فالوزارة لاتحصل على الكتاب رقم واحد فى الطباعة بل ربما يصل إلي رقم 4 في المستوى، وهذا بالتالي يؤثر علي العملية التعليمية برمتها.
وفى عهد الوزارة الحالية أعلن عن مسابقة لتأليف الكتب في المرحلتين الابتدائية والثانوية،ثم تم سحب الإعلان بعد 6أشهر ،وتم تكليف العاملين فى مركز تطوير المناهج التابع للوزارة، وذلك توفيرا لميزانية الوزارة، وتوفير ملايين الجنيهات ـ على حسب رؤيتهم ـ وهذه كانت الطامة الكبرى حيث اتجه مركز المناهج إلى استقدام بعض أساتذة الجامعة الذين لم يشاركوا في تأليف الكتب المدرسية من قبل،كما أنهم ليسوا على خبرة كافية فى إعداد الكتاب المدرسى،واشتركوا مع العاملين في المركز والوزارة،وتم إعداد الكتب وتحكيمها في عجالة،وإرسالها إلى المدارس، فشابها ما شابها من أخطاء وعيوب خاصة في الطباعة والتأليف.
وأضاف أستاذ المناهج عدة ملاحظات مهمة تفتح ملفا فى غاية الأهمية عندما قال إن مسيرة الكتاب تم اختراقها عن طريق التحكيم،بواسطة بعض دور النشر المصرية بواسطة العاملين في مركز المناهج،عندما واجههم الدكتور أحمد زكي بدر وزير التعليم الأسبق، وتوجه إلى مركز تطوير المناهج وقال لهم «أنتم تؤلفون وتحكمون الكتب» فكيف يتم هذا؟
واستبعد الوزير فى ذلك الوقت عددا كبيرا من العاملين فى المركز،واعادهم إلى مدارسهم،لأن معظمهم كانوا مدرسين بالوزارة،وقد قام الوزير بضم مركز المناهج إلى المركز القومي للامتحانات والتقويم.
واستطرد شحاته بعد ترك الوزير الوزارة بعد الثورة »عادت ريما لعادتها القديمة«كما يقول المثل الشعبي،بمعني أن هؤلاء العاملين عادوا إلى المركز مرة أخرى، وأصبحت فيه نفس المجموعة التى تؤلف وتحكم.
وفجر الخبير التربوى مفاجأة عندما قال ان وزارة التربية والتعليم تمتلك مطابع بملايين الجنيهات، ومع ذلك لاتستخدمها ولايتم تشغيلها،وهى موجودة في أكتوبر!!
«التابلت» حل اقتصادى
أشاد الدكتور شحاتة بتجربة وزير التعليم الدكتور محمود أبو النصر بالنموذج الجديد الذي طرحه علي الطلاب وهو «التابلت» والذى تم تعميمه في 6 محافظات،مؤكدا أن هذا الجهاز الصغير الذى يحتوى على جميع الكتب المدرسية ،سيغلق أبواب الفساد، وسيوفر نحو مليارى جنيه تقريبا تذهب إلى الكتب المدرسية.
أما الكتاب الخارجي ... فأسماه الدكتور شحاتة «أفيون» الطالب فهو يدمر الفكر والإبداع ،ويجعل الطالب آلة للحفظ فقط دون الفهم وإعمال العقل.إلى جانب أنه بالأساس يعتمد علي كتاب الوزارة، والتي لا تأخذ حقها من طباعته،فتهدر ملايين الجنيهات، وتتكسب دور النشر فقط دون الوزارة.
ولفت الى قرار مهم كان قد صدر فى عهد الدكتور أحمد فتحي سرور ـ حينما كان وزيرا للتربية والتعليم ـ يقضى بدفع ضريبة للوزارة مقابل الانتفاع من الكتاب الخارجي،كما أنه لايجوز نشر الكتاب الخارجى قبل أن يتسلم الطلاب الكتاب المدرسي.
مطالبا الوزارة بأن تأخذ حق الانتفاع من طباعة ذلك الكتاب الخارجى حتى لاتهدر الملايين، بالإضافة إلى أن طباعته ترفع أسعار الورق، ناهيك عن أن مؤلفيه هم الذين يؤلفون الكتب المدرسية، وتلك هى المصيبة..على حد قوله.
حوار مع حفيدى
ويقول الدكتور محمود كامل الناقة ـ الخبير التربوى وعضو مجمع اللغة العربية ـ: إن الشكوى صارخة من الكتب المدرسية التى يدرسها أبناؤنا كل عام في المدارس، بسبب عدة امور منها مهنية التأليف،فتأليف الكتب لاينبغى أن يخضع للاجتهاد أو الهواية،فالتأليف علم، وكذلك منهجية التأليف فهى غير علمية على الإطلاق،ومنها منهج اللغة التي تستخدم فى هذه الكتب الذى لا يتناسب مع المستوى اللغوى للمتعلم،ومنها على سبيل المثال كتاب اللغة العربية للصف الثانى الابتدائى، وأضاف «سأحكى لك تجربة مع حفيدى عندما طلبت منه أن نراجع دروس اللغة العربية فى أول العام الدراسي فبكي وكان رده» أنا بكره العربي فاطلعت علي الكتاب فهالتنى نوعية المفردات المقدمة لهذا الطفل في هذه المرحلة العمرية 7 سنوات تقريبا ومنها مثلا: كلمة «يبشرنى» معناها: يخبرنى خبرا سارا.
«لهيب»معناها:حرارة،«مظلة» معناها:غطاء يستظل به،«حكمة» معناها:حسن التدبير«.
ويضيف الناقة: فهل لك أن تتخيل عبء المفردات علي مثل هذا الطفل فى بداية تلقيه العلم، وتعلمه اللغة الأم،فكيف لايكرهها؟
ويشير إلي أن الموضوعات المختارة في الكتب غاية الغرابة ،فهي ليست موجهة إلي تعلم المادة،ولكن إلي تعلم معارف ومعلومات،دون أن يتعلم التلاميذ المهارات الحياتية والإجرائية،وأيضا منظومة القيم،كما أن معالجة التدريبات التعليمية في الكتب مسألة تسير علي غير هدي من قواعد التأليف ومنهجيته وفنياته،فالكتاب المدرسي- من وجهة نظرى- في مصر يعد في ضوء اجتهادات فردية أو حتى جماعية،ولو روجعت فى ضوء ماينبغى أن يتوافر في الكتاب المدرسي التعليمى لثبت بأدلة قاطعة أنها كتب »متخلفة«،قياسا بدول عربية شقيقة سبقتنا بمراحل ولا أقول دولا أوروبية.
وأكد الدكتور كامل الناقة أن الكتاب من حيث الإخراج والطباعة أمر يؤسف له،فالأمر جلل وخطير فالكتاب هو أداة رئيسية في التعليم،ونحن نقول إن كل ما أنتجه العقل البشرى على هذه الأرض هو منتج إنسانى،وركيزة المدرسة هو الكتاب،فإذا فشلنا فى الكتاب «تأليفا وإخراجا» فشلت العملية التعليمية،ومن ثم فشل إنتاج العقل البشرى،وعندئذ لاننتظر تقدما ولاتنمية.
وطالب وزارة التربية والتعليم بأن تختار أفضل الخبراء المتخصصين في التأليف،وكذلك نوعية الطباعة،وتقدم لهم العون الأدبى والمادي للقيام بهذه المهمة الصعبة،فتأليف كتاب للجامعة قد لايستغرق نصف الوقت والجهد والمعاناة التى يحتاجها الكتاب المدرسى لأنه صناعة ثقيلة..ولكن الوزارة تنهيه فى بضعة أيام.
واستطرد الناقة قائلا:ان هناك بعض الخبراء المتكسبون،إذا صح أن نسميهم خبراء،يقبلون مهنة التأليف ،وينتهون من الكتاب قبل المدة المحددة، وذلك إرضاء للوزير،وافتخارا بقدرتهم الفائقة والخارقة فى التأليف، والمنتج للأسف سيىء.
وطالب بتشكيل فرق ولجان بعيدة عن وزارة التربية والتعليم، من الخبراء والمتخصصين،ويكلفون بدراسة ومراجعة الكتب المدرسية،ويقومون برفع تقاريرهم مباشرة إلى رئاسة الجمهورية.
خسائر دور النشر
كان لابد أن تشارك دور النشر منذ سنوات طويلة في صناعة الكتاب المدرسي كما يقول محمد رشاد رئيس اتحاد الناشرين سابقا ،لما لها من إمكانات فنية وعلمية ولديها العديد من الكتاب والمفكرين والأساتذة ،باعتبار أن الكتاب يشكل أحد أضلاع مثلث العملية التعليمية،وهى »منهج ومدرسة ومعلم»..فمشاركة دور النشر مثل الدول المتقدمة تؤدى إلى ازدهار صناعة النشر ،لأن الكتاب المدرسي بالنسبة للانتاج العالمى يمثل 25 %،والدول المتقدمة تطرح من خلال الإدارات التعليمية مواصفات المنهج فيتقدم الناشرون بالأعمال ،ويتم اختيار الكتاب الذى يحقق المعايير المطلوبة.
وفي عام 2006 استجاب الدكتور يسرى الجمل وزير التعليم الأسبق لمطالبنا،وقال إن الوزارة لن تؤلف الكتب المدرسية،وهذا كان خطوة مهمة،وتقدم عدد كبير من الناشرين،للمسابقة وتم اختيار الكتاب الفائز،إلا أن هذه الفكرة لم تنجح بسبب المكافآت الهزيلة التى وضعتها الوزارة،إلا أن الطالب أو التلميذ كان المستفيد من الكتاب بسبب الجودة في التأليف والطباعة،لأن دور النشر كانت تستعين بأفضل من لديها من مصممين للكتاب من حيث الغلاف والأوراق والألوان والطباعة، والتأليف.فهل يعقل أن الوزارة تضع 27 مليما لطباعة الصفحة؟
فالدول العربية تقوم بالطباعة عن طريق دور النشر،فالناشر يقدم أفضل مالديه،فاسمه سيكون موضوعا على الكتاب،حتى وإن لم يحقق مكاسب مادية لانه سيكون في يد مليونى تلميذ علي الأقل ،أما الوزارة الآن فتأخذ الكتاب من دار النشر وتطبعه بنفسها فى كتب اللغة العربية والدراسات والعلوم وغيرها ،أما الكتب الأجنبية كالإنجليزية والفرنسية فالوزارة تشترى من الناشرين تأليفا وطباعة،وبالتالى تكون الجودة أعلي.
وأكد رشاد أن بعض المسئولين في الوزارة يتخيلون أنهم يحافظون على الأموال وهذا غير صحيح،لذا فالوزارة تحتاج إلي تغيير سياستها بنسبة 180 درجة..فهم يكرسون للتفرقة والتناقض ،فمثلا تجد كتابا في الصعيد بلون واحد او اثنين، وفي القاهرة بـ4 ألوان لنفس الكتاب، دون مراعاة لأي شىء.
وقال رئيس الاتحاد سابقا إن وزير التربية والتعليم الحالى الغى المسابقة التي كانت تتم لاختيار الكتاب الفائز،وأمر بالتكليف المباشر لمركز تطوير المناهج لتأليف الكتاب،وهولايملك الإمكانات في التأليف والطباعة بدعوى التوفير،ولو كنت موجودا فى الاتحاد لتقدمت باستقالتي ،ورفعت دعوى على الوزارة للمطالبة بالتعويض،فالأخطاء بالجملة عن طريق هذا المركز ومنها الطباعة فالمواصفات غير دقيقة والورق ردىء والكتب ليست بها ألوان.
وأضاف «فى إحدي المرات عندما كنا نقوم بطبع أحد الكتب المدرسية قال لي أحد المسئولين بالتعليم نريد تغيير حجم الكتاب ونوع الخط،أى نقلل حجم الورقة ونوع الخط للأصغر،وذلك لتقليل حجم وكمية الورق بذريعة توفير النفقات،فخاطبته:إن الكتاب لطلاب فى الابتدائي ولايستطيعون الرؤية والقراءة جيدا لو فعلنا ذلك، ورفضت حينها».



المصدر الاهرام


تعليقات

المشاركات الشائعة