دم شيماء والحلم المُهدد بين الدولة والثورة
أحمد السيد النجار - الاهرام
شيماء المسالمة ما حملت سوى أطواق ورود لتهديها لأرواح الشهداء الذين فتحوا بوابات المستقبل لمصر، ودفعوا دماءهم الطاهرة دون أن يتحقق شىء جدى من أحلامهم للوطن بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية حتى الآن.
شيماء ما حلمت إلا بوطن حر كريم تسكنه العدالة والتنمية، وما وُوجهت بالنصيحة والإنذار المتكرر والمياه والعصى قبل قنابل الغاز والخرطوش القاتل. الشهيدة شيماء الصباغ (أم بلال) كانت ضمن وفد وليس مسيرة حسب تأكيد زعيم حزب التحالف الشعبى الاشتراكى عبد الغفار شكر.
وكان الوفد يسير أزواجا على الرصيف. وكانت هى تحمل الورود لتضعها فى ميدان التحرير تكريما لذكرى شهداء الثورة، ولم تكن تتمنطق بالبارود، وقتلها بدم بارد القاتل نفسه الذى قتل الشهداء الذين كانت تسعى لتكريم ذكراهم وأشعل حريقا هائلا فى القلوب وبذر رياح العنف التى لا تولد سوى عواصف الاحتقان والانفجار.
وقبل قنابل الغاز وطلقات الخرطوش توجه الأمين العام لحزب التحالف الشعبى الاشتراكى المهندس طلعت فهمى إلى قائد قوة الشرطة ليبلغه بأنهم مجرد وفد سيضع الزهور بصورة رمزية ومسالمة فى ميدان التحرير تكريما لشهداء الثورة، فكان الرد هو اعتقاله وانطلاق قنابل الغاز وطلقات الخرطوش على الوفد الرمزى المحدود العدد.
وما زال طلعت فهمى قيد الاعتقال حيث رفض الخروج إلا مع زملائه الذين تم اعتقالهم من أعضاء الحزب المشاركين فى الوفد.
حق شيماء فى رقابنا جميعا، وفى مقدمتنا الرئيس المنتخب والمنوط به حماية أرواح أبناء هذا الوطن من إساءة استخدام السلطات على الأقل.
استشهاد شيماء الصادم هو إدانة جديدة لقانون التظاهر المتخم بالعوار، وإدانة لمنطق القوة الغاشمة لإرهاب المسالمين الذين لا علاقة لهم بالعنف. والشهيدة شيماء الصباغ لمن لا يعرفها هى عضو قيادى وأمين العمل الجماهيرى بحزب التحالف الشعبى الاشتراكى أحد شركاء ثورة 30 يونيو، حيث إن تأسيسه جاء بعد ثورة 25 يناير. وهذا الحزب هو أحد الأحزاب المشاركة فى انتخابات مجلس النواب كجزء من النظام السياسى يكمل صورة النظام وشرعيته بتلك المشاركة.
وإذا كانت مراجعة تسليح أفراد الشرطة الذين أوكلت إليهم مهمة فض المظاهرة السلمية لذلك الحزب، هى خطوة أولية للغاية لكنها إيجابية فى اتجاه إجراء تحقيق قانونى فى الجريمة، فإن الحقائق الدامغة التى ينقلها شهود العيان من شركاء شيماء فى المظاهرة ومن المقاطع المصورة لجريمة قتلها تشير بشكل واضح إلى القاتل وإلى إساءة استخدام السلطة وسوء تطبيق القانون. وننتظر أن يكون هناك تحقيق عادل وألا تكون الشرطة هى من يجمع الأدلة كما حدث فى جرائم قتل شهداء الثورة، لأنها ببساطة هى المتهم، ومن البديهى أنها لن تقدم ما يدين أفرادها.
وقد ذكر الأستاذ عبد الغفار شكر زعيم حزب التحالف الشعبى الاشتراكى أن مساعد وزير الداخلية لحقوق الإنسان اتصل به وأكد له أن القوة وتسليحها تحت تصرف النيابة ومن ستثبت مسئوليته ستتم محاسبته.
لكن الاعتماد على جهة محل اتهام فى تقديم الأدلة هو أقصر طريق لتغييب تلك الأدلة. والحقيقة التاريخية التى يجب أن يدركها الجميع هى أن الدم رادع ومن لم يرتدع به يغرق فيه. ولا يهدأ الدم الذى يستصرخ الضمائر إلا بأخذ حقه من القاتل والانتصار لكل القيم الإنسانية والأخلاقية التى راح فداء لها.
وهذه واحدة من شهادات من شهدوا الواقعة بصورة مباشرة من واقع ما كتبوه على صفحاتهم على موقع التواصل الاجتماعى (الفيسبوك)...
علق زهدى الشامى القيادى بحزب التحالف الشعبى الاشتراكى على الجريمة بقوله»كأنما يأبى القدر إلا أن نستقبل ذكرى ثورة 25 يناير بشهداء جدد.
شيماء الصباغ زميلتنا الشابة فى حزب التحالف الشعبى الاشتراكى لحقت أمس بقائمة الشرف لشهداء الوطن. شيماء كانت بيننا، و كل ماكانت تتمناه مثلنا هو وضع إكليل من الزهور بميدان التحرير على روح شهداء الثورة فلحقت بهم. أصابها خرطوش الغدر الذى أطلقته الشرطة من مسافة أمتار معدودة فأرداها شهيدة. الخرطوش والغاز أطلقا على الفور خلال 3 دقائق ولا أكثر من وجودنا فى ميدان طلعت حرب رغم الطابع السلمى و إكليل الزهور وعدم وجود أى هتافات مناهضة اللهم إلا عيش، حرية، عدالة اجتماعية.
وقد أصيب زميلان آخران، و ألقى القبض على سبعة، من بينهم المهندس طلعت فهمى أمين عام الحزب الذى توجه أمامنا للحديث مع القائد الميدانى للشرطة فى الميدان لطمأنته حول هويتنا وهدفنا المحصور فى وضع إكليل الزهور على روح الشهداء، فكان الرد الفورى هو الغازات و الخرطوش وبلا إنذار. هكذا الشهيد يستشهد فى جزء من الثانية، و لكنه يتحول إلى نجم ساطع فى السماء. و كم نحزن لفراقك ياشيماء، و كم سنفتقد ابتسامتك، و لكننا _ نحن أبناء الوطن _ سنطالب بحقك ونتمسك به مع حق جميع الشهداء، وسنصر على تحقيق عادل لإجلاء الحقيقة و تحديد الجناة، وسنذكرك دائما يا شيماء.
تجسير الفجوة بين الدولة والثورة
بعد ثورة عظمى فى 25 يناير 2011 على نظام استبدادى فاسد وقمعى وظالم وفاشل، وبعد موجة ثانية هائلة فى 30 يونيو 2013 ضد نظام فاشى فاشل، فإن الدولة التى تتم إعادة بنائها إذا لم تستوعب أبناء ثورتها برحابة، وإذا لم تمض قدما فى عمل قطيعة حقيقية مع سياسات النظم التى ثار عليها الشعب، فإنها تخلق فجوة وجفوة مع من قاموا بالثورة وضحوا من أجلها ودفعوا هم وزملاؤهم الدم قربانا لها. بل يمكن أن يحدث ما هو أخطر بأن تصبح الدولة أقرب للسياسات التى ثار الشعب ضدها، وأكثر التصاقا برموز أحد النظامين الفاسدين اللذين أسقطهما الشعب تحت دعوى البحث عن الاستقرار الذى لا يأتى بهذه الطريقة أصلا، وبالتالى تخلق مبررا لاستمرار التوتر ببساطة، لأن الدولة لم تتبن أحلام الثورة ولم تحاكم بصورة ثورية من ثار الشعب على فسادهم وقمعهم وظلمهم.
وما زالت أمام مصر فرصة أخيرة للخروج من هذا المأزق بتجسير الفجوة بين الدولة وقوى الثورة، من خلال السعى الحقيقى لتحقيق الالتحام بينهما، والسعى لشراكة حقيقية بين الدولة وكل القوى الحية فى تحمل مسئولية معالجة المعضلات التى تواجهها مصر وإعادة البناء اعتمادا على سواعد وعقول وأموال الشعب فى داخل مصر وخارجها، دون خضوع لابتزاز رموز الفساد من عصر مبارك، أو للابتزازات الإقليمية والدولية التى تضع شروطها لأى مساندة مالية.
وعلى أى حال فإن جريمة قتل الشهيدة المسالمة حاملة الورود شيماء الصباغ تدعونا لفتح ملف قانون التظاهر مرة أخرى، فهو أحد جذور الشر السياسى كقيد على الحريات وضعه نظام جاء باستخدام التظاهر السلمى كآلية للتعبير الحر والتغيير الديمقراطى اللذين أنقذا الوطن من استبداد نظام مبارك وفاشية نظام الإخوان لبناء نظام ديمقراطى وليس للعودة لممارسات نظامى الاستبداد والفاشية السابقين.
ضرورة مراجعة قانون التظاهر وإنصاف ضحاياه
بعد إسقاط نظام حكم الإخوان، وفى مواجهة تظاهرات العنف والإرهاب التى نظموها مع أنصارهم، تم إصدار قانون تنظيم التظاهر. وبدا الأمر وكأنه تنظيم لحق التظاهر، ولمنع استخدام هذا الحق فى العنف والإرهاب.
ورغم أن القوانين الموجودة فعليا فى مصر كان من الممكن الاستناد إليها لتحقيق ردع بالغ القسوة لكل من يستخدم العنف والإرهاب فى التظاهر، فإن تنظيم حق التظاهر السلمى من خلال قانون كان أمرا مقبولا.
وجاء القانون مخيبا للآمال، خاصة أن من أتت به هى سلطة جاءت بالتظاهر السلمى لملايين المصريين، فإذا بها تضع قانونا لتقييد التظاهر السلمى وليس لتنظيم الحق فيه.
وقد كتبت وأشرت فى حينه إلى عيوب القانون، وأهمها المادة 10 التى تنص على حق وزير الداخلية أو مدير الأمن المختص فى رفض التصريح بالمظاهرة أو نقلها أو تأجيلها إذا حصل على معلومات تشير إلى أنها ستهدد الأمن والسلم.
وهذه المادة تحول التظاهر السلمى من حق تتم ممارسته بالإخطار، وفق ضوابط معينة، إلى سلطة للمنح والمنع بيد الداخلية إذا نمى إلى علمها أن التظاهرة ستخرج عن السلمية، وهو أمر لا يمكن ضبطه ويعتمد على موقف الداخلية من المظاهرة، حيث إن القانون لا يلزمها بتقديم أى أدلة على ما نمى إلى علمها.
كذلك فإن المادة 11 تنص على تنظيم استخدام حق الشرطة فى فض المظاهرة إذا خرجت عن الطابع السلمي، دون وجود طرف محايد يحدد خروج المظاهرة عن السلمية، حيث إن الاستعانة بمندوب منتدب من قاضى الأمور الوقتية بالمحكمة الابتدائية هى مسألة جوازية بيد مدير الأمن المختص مكانيا.
والأفضل أن يكون هذا المندوب موجودا منذ البداية وهو وحده الذى يحدد مسألة خروج المظاهرة عن السلمية، وبالتالى حق الشرطة فى الرد وفقا للضوابط التى حددها القانون.
كما أن العقوبات الواردة فى القانون بالغة القسوة ولا تتناسب مع طبيعة وحجم المخالفات التى قُررت كعقاب عليها.
كما يوجد خلل حقيقى فى تطبيق قانون التظاهر. فالتظاهرات المؤيدة للثورة ضد حكم الإخوان والمؤيدة لخريطة الطريق التى نتجت عنها تخرج عادة بدون تصريح وتتم حمايتها كما حدث فى 25 يناير الماضى 2014، أما التظاهرات المعارضة فيتم تفعيل القانون ضدها سواء كانت عنيفة تستحق المواجهة بالقوة والعنف حتى لو لم يكن هناك قانون للتظاهر، أو سلمية ينظمها من شاركوا فى الثورة فى 25 يناير 2011، أو 30 يونيو 2013 ولديهم تحفظات أو اعتراضات على أداء الحكومة والرئيس. ولأن الدستور هو القانون الأعلى أو الرئيسى فإنه يجب ما عداه، وهو يكفل حق التعبير الاحتجاجى السلمى، ويتناقض بالفعل مع القيود الواردة فى قانون التظاهر الراهن الذى يحتاج إلى تعديلات جوهرية بالفعل.
وبغض النظر عن الموقف من قانون تنظيم حق التظاهر والملاحظات الواردة عليه، فإن الواقع العملى يشير إلى أنه تم تطبيقه بصورة مزاجية بعثرت تحالف 30 يونيو وأزاحت بالقطاع الأكثر حيوية وإخلاصا للثورة وأهدافها المعلنة، وأقصد من واجهوا حكم الإخوان فى أحداث الاتحادية الأولى فى ديسمبر 2012 وقدموا عددا من الشهداء وقوافل من الجرحى، وهم بالتأكيد يختلفون جذريا عن الجمهور الهائل الذى خرج معهم فى 30 يونيو بصورة احتفالية آمنة بعد إعلان الجيش والشرطة عن تأمين الميادين والتظاهرات، وهو جمهور احتفالى وليس جمهورا نضاليا.
وإزاء غضب العديد من الشباب المناضلين الحقيقيين من أجل أهداف ثورة 25 يناير 2011 وموجتها الثانية فى 30 يونيو 2013، طلب الرئيس من مؤسسة الأهرام تنظيم مؤتمرات مع الشباب لاستطلاع آرائهم ورؤيتهم للمستقبل بشأن القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومشاركتهم فى الحياة السياسية.
وعقدت الأهرام ثلاثة مؤتمرات وقدمت للرئيس نتائجها وما تضمنته من آراء ورؤى للشباب كمقدمة لمؤتمر ختامى يجمع الشباب والرئيس، وهو أمر ما زلنا فى انتظاره حتى الآن.
ومرة أخرى نعيد طرح رؤى الشباب حول قانون التظاهر، وهى على درجة عالية من النضج والمسئولية. وقد تراوحت مواقف الشباب المشاركين فى مؤتمرات الأهرام بين ضرورة إلغاء القانون، أو تجميده، أو تعديله، بشكل يحافظ على حق التظاهر السلمى باعتباره حقا دستوريا أصيلا.
لكن فى النهاية توافقت الغالبية الساحقة من الشباب على اعتماد موقف المجلس القومى لحقوق الإنسان من هذا القانون كموقف معبر عنهم. أى أنهم سلموا بموقف الحقوقيين الكبار الذين اختارتهم الدولة للمجلس القومى لحقوق الإنسان فى هذا الشأن وبقى على الرئاسة أن تتخذ موقفا من هذا القانون المثير للاحتقان.
كما طالبوا بضرورة تعديل قانون الحبس الاحتياطي، والإفراج عن جميع المسجونين السلميين الذين سجنوا بسبب مخالفتهم لقانون التظاهر، وذلك من خلال عفو رئاسي.
وأشار العديد منهم إلى أن التظاهر السلمى هو الذى أطاح بنظام مبارك الذى وصفه الرئيس عبد الفتاح السيسى بالنظام الاستبدادي، وهو الذى أزاح حكم جماعة الإخوان وعزل د. محمد مرسى بإرادة شعبية كاسحة تجسدت فى تظاهرات سلمية عملاقة، فكيف يتم منعه عمليا من خلال هذا القانون.
وشكلت طريقة التعامل مع تظاهرات الطلاب سببا للغضب والجفوة بين الدولة وقسم من الطلاب الفاعلين سياسيا بصورة سلمية.
وأكد الجميع فى الوقت نفسه رفض كل أشكال العنف والفوضى، واعتبروا أن من يقوم بمثل تلك التظاهرات العنيفة يستحق الردع بالقانون العادى القوى للغاية فى هذا الصدد والذى يضمن مواجهة هذه الظاهرة بصورة حاسمة لا تستدعى إصدار أو استخدام قانون مقيد للتظاهر السلمي.
كما عبر الشباب فى غالبيتهم الكاسحة عن شعور بالمرارة والغضب من الهجوم على ثورة 25 يناير والمشاركين فيها بما يخالف الدستور والحقائق، ويتعارض مع ما يعلنه الرئيس من موقف إيجابى تجاهها، دون أن يكون هناك أى موقف للدولة من هذا الهجوم وما ينطوى عليه من أكاذيب.
وأكد الشباب أن هناك حملة ممنهجة ومنظمة للتحريض ضد الثورة وتشويه المشاركين فيها، خاصة من الشباب. وطالبوا فى هذا السياق بضرورة وجود موقف واضح من الدولة ومؤسساتها بشأن العلاقة بين الثورتين (25 يناير 2011، و30 يونيو 2013).
وأشار الشباب إلى أن استمرار غموض موقف الدولة من استهدافهم من إعلام بقايا نظام مبارك ورموز الفساد سيؤدى إلى تعميق الفجوة بين الدولة والشباب.
وهذه الرؤية الشبابية تعيدنا مرة أخرى إلى مسألة العلاقة بين الدولة وقوى الثورة الحقيقية التى يجب أن تكون أساسا للبناء عبر التلاحم بينهما، بدلا من توسيع الفجوة والجفوة بينهما الذى لن يقود سوى لمزيد من الاحتقانات والاضطرابات التى نأمل أن تتفادها مصر عبر هذا الطريق الوحيد بإصلاح العلاقة بين الدولة والثورة والابتعاد عن رموز وسياسات نظم الظلم والاستبداد والقمع.
المصدر الاهرام
تعليقات
إرسال تعليق