اعترافات نجيب محفوظ


المصدر الاهرام - محمد إبراهيم الدسوقى - قضايا و آراء

ما أقسى أن تتحول من أديب ذائع الصيت يبتغى تنوير وإصلاح مجتمعه، يبصره بعيوبه وسوءاته، إلى متهم تحقق معه نيابة الآداب، مثله مثل محترفى الرذيلة والأفعال الشائنة فى الطرقات، ومن رمز ثقافى قومى يحسده أقرانه على موهبته ونجاحاته ويسعون جاهدين أن يقتربوا منه لينهلوا من معارفه إلى قاعدة تنشين تطلق فى اتجاهها السهام المسمومة القادرة على اغتياله جسديا ومعنويا فى ثانية واحدة، ومن أيقونة لامعة فى سماء الوطن أفنت عمرها فى تأليف الروايات والقصص القصيرة الهادفة، وكتابة المقالات النقدية والسياسية، وكشف ما نحن فيه من زيف ونفاق رخيص إلى شخص مبتذل خادش لحياء العامة. 
جالت هذه الخواطر برأس الشيخ المنهك نجيب محفوظ وحرفته الأدب والتنوير، لدى انتظاره المثول أمام وكيل نيابة الآداب بقسم العجوزة، حيث يقطن، والمكلف بالتحقيق معه فى بلاغات عدة قدمها مواطنون شرفاء غيورون على العفة والشرف الاجتماعي، بعد أن انبرى نائب برلمانى شاكيا بالفم المليان من أن مؤلفاته خليعة ومتهتكة، مما يوجب معاقبته عقابًا شديدًا جزاء ما خطته يداه. 
استند نجيب على عكازه شبه غائب عن الوعى من هول ما يلاقيه إلى أن تنبه على يد تهزه بقوة وحدة، رفع بصره ليشاهد العسكرى الموكلة إليه حراسته يطلب منه النهوض بسرعة للدخول إلى السيد وكيل النيابة الذى ينتظره، هب من مكانه ليدلف إلى مكتب وكيل النيابة بشموخ يليق بحائز نوبل فى الأدب، وجاهد جهادًا مريرًا لكى لا يضبط أحد الدموع المحبوسة فى عينيه، استقبله شاب ودود مبتسما بترحاب قائلا: أهلا أديبنا الكبير تفضل، وأجلسه على أقرب مقعد للباب وجلس إلى جواره ليكسر حاجز الرسميات المتبعة فى مثل هذه الحالات بين وكيل النيابة ومتهم خاضع للتحقيق، وسأله: تحب تشرب ايه؟ 
نجيب محفوظ: يابنى لم أحضر هنا لأجل احتساء المشروبات، لندخل فى الموضوع مباشرة وهات ما عندك حفاظا على وقتك ووقتي. 
وكيل النيابة: بداية أتمنى أن تلتمس لى العذر وتسامحنى فأنا أؤدى واجبى كما تعلم وما بيدى حيلة، ولو كان لى الخيار ما كنت وضعتك فى هذا الموقف السخيف الذى لا أرضاه لك ولا لعظمائنا من الكتاب والأدباء الذين اعتبرهم تاجا على رءوسنا، وفرض عين علينا أن نحميهم وندافع عنهم وعن حقهم فى الابداع الحر غير المقيد بآراء وهلاوس أناس لم يقرأوا فى حياتهم سوى الكتب المدرسية المقررة، ولا يوقرون أرباب الكلمة المكتوبة. 
نجيب محفوظ: أشكرك على موقفك النبيل الشجاع ومنتظر أسئلتك. 
أشار وكيل النيابة إلى كاتبه ليفتح المحضر فى ساعته وتاريخه، وألقى بسؤاله الأول: ممكن حضرتك تقول اسمك كاملا، وسنك، ومحل اقامتك، ومهنتك؟ 
نجيب محفوظ رسم ابتسامة خفيفة على شفتيه ورد: اسمى أنتم تعرفونه خير معرفة ومعه سنى وأين أسكن، أما مهنتى فهى سبب شقائى وتعاستي، لأننى موعود بسوء التأويل والاستنباط، فعلوها معى منذ زمن بعيد، عندما نشرت أواخر الخمسينيات من القرن الماضى روايتى «أولاد حارتنا» مسلسلة فى إحدى صحفنا السيارة، ونالنى ما نالنى من تشكيك فى ايمانى وديني، وكدت افقد حياتي، حينما هاجمنى شاب متطرف معتقدًا أنه بقتلى سيظفر بالجنة وسيخدم الإسلام خدمة جليلة حسبما افهمه من بعثه لقتلي، حزنت حزنا قضى علىّ معنويا. 
وكيل النيابة: ما قولك فى اتهامك بخدش الحياء فى أعمالك، خاصة الثلاثية؟ 
نجيب محفوظ: حسبى الله ونعم الوكيل فى مَنْ يتهمنى زورا وبهتانا وبسوء نية وقصد، ثم من فضلك حدد بالضبط تعريفا لخدش الحياء، هل كونى اتناول عالم الراقصات وبنات الهوى مبررا لاتهامى بخدش الحياء، أليس هؤلاء جزءا من مجتمعنا يعيشون وسطنا، أننكر وجودهم على أساس أننا نحيا بالمدينة الفاضلة؟ وما لا يدركه البعض أن الثلاثية تأريخ أمين لما دار فى مصرنا ما بين ثورتى 1919 و1952، وما كانت تموج به من حركة وتفاعلات سياسية واقتصادية واجتماعية وتشوهات، وأتحدى من يأتينى بعبارة واحدة فيها ابتذال، أو لفظ خارج تستحى أنت ومن فى بيتك من قراءته، فأنا أبعد ما أكون عن السوقية، والايحاءات الجنسية، وإثارة الغرائز، ومن يود مناقشتى عليه أن يقرأ أولا ويعى ما فيها من رسائل ومقاصد، ولا يحملنى مسئولية ما جاء فى الأفلام المقتبسة من رواياتى فهى عاكسة لرؤية من أخرجها ومثلها وأنتجها. 
ولماذا تغفل أعمالى التى انتقدت فيها بطريقتى وأسلوبى الروائى مثالب نظامى عبد الناصر والسادات، مثل اللص والكلاب، وثرثرة فوق النيل، والمرايا، ويوم قتل الزعيم؟ 
ياسيدى إن الأديب لا يأتى بشخصيات أعماله من الهواء، فهم من لحم ودم ويحيطون بنا، وهل عندما اعرى الذين يخدعوننا تارة باسم الدين، وباسم الذود عن الأخلاق الحميدة تارة أخري، وينهبون المال العام ويشيعون الفساد فى الأرض أكون قد خدشت حياءكم الزجاجى الهش؟. 
إن الخادش الحقيقى للحياء والذى يتعين ملاحقته هم مَنْ تركوا عذابات المواطنين وهمومهم وإصلاح أحوالهم لينشغلوا ويشغلوا الآخرين بملاحقتى بتهمة شنعاء لا اصل لها، ومَنْ احتكروا السلع ليربحوا الأموال، ومَنْ تعدى على الأخضر واليابس دون رادع، ومَنْ لا هم لهم سوى البحث عن الشهرة على حساب سمعة الآخرين، ومَنْ لا يستحقون تمثيل هذا الشعب العظيم تحت قبة البرلمان، ومَنْ استغلوا جهل البسطاء وقلة حظهم من التعليم الجيد لإقناعهم بأننى عدو للدين وشريعته، ولا يتوقفون عن استباحتى 
يابنى إننى أربأ بكم أن تكونوا السكين الثانية التى تغرس فى عنقى الضعيف، وليس لدى حرف أزيده عما قلته آنفا، تلك اعترافاتى وخذ قرارك كيفما شئت فقد قلت ما عندي. 
السيناريو التخيلى السابق كان يتمناه من أقاموا الدنيا ولم يقعدوها ضد رجل رحل عن دنيانا ولم يرحموه حيا ولا ميتا، لنضع حدا لمهزلة استباحة رموزنا الوطنية بلا حسيب ولا رقيب، ولنحاسب من يقترف هذا الجرم البشع. 







اقرأ أيضاً :

=======

حوار نادر بين زويل ونجيب محفوظ منذ ١٦ عاما

"أفراح القبة" رواية نجيب محفوظ عام 1981

إبراهيم أصلان كاتب المحو والخفوت.. ومُطْلق "عصافير النيل" في فضاء القلوب

سعيد الكفراوي يروي ذكرياته مع أصلان : نجيب محفوظ تأثر بكتابات صاحب "مالك الحزين"

فى الذكرى الثامنة لنجيب محفوظ المرأة هى «الست أمينة» على مر العصور

أقصى درجات السعادة هو أن نجد من يحبنا فعلا



زويـــل.. رحلة عبر الزمن





تعليقات

المشاركات الشائعة