حكايات من زمن الوالى .. عمر مكرم .. زعيم الشعب
المصدر بوابة الوفد - تحقيفات و حوارات - كتب:عماد الغزالى
أحبه الناس ووثقوا به أكثر من أى شخص آخر.. وكان نفيه بداية لسقوط طائفة العلماء�الجبرتى� يصف نهايته: نال ما يستحقه ولا يظلم ربك أحدًاعفاف لطفى السيد: لم يكن من الأشراف ولا العلماء.. لكنه كان قادرًا على تحريك الجماهير وإثارتهاكيف استطاع محمد على الوقيعة بين العلماء وإنهاء نفوذهم للأبد؟بعد 10 سنوات فى المنفى عاد عمر مكرم.. واحتشدت الجماهير لاستقباله بالقلعة�عماد الغزالىبعد 10 سنوات فى المنفى، أمضى 4 منها فى دمياط، و6 فى طنطا، عاد السيد عمر مكرم للقاهرة.يقول الجبرتى: كان ذلك فى يوم السبت 12 ربيع الأول من عام 1234 هجرية، لما حصلت النصرة والمسرة للباشا، كتب إليه السيد عمر مكرم مكتوبًا وأرسله مع حفيده السيد صالح إلى الإسكندرية، فتلقاه بالبشاشة وطفق يسأله عن جده وقال له: هل فى نفسه شىء أو حاجة نقضيها له، فقال له لا يطلب غير طول البقاء لحضرتكم، ثم انصرف إلى المكان الذى نزل به، فأرسل إليه الباشا من يسأله عن حاجة يقضيها له ولم يزل يلاطفه حتى قال: لم يكن فى نفسه إلا الحج إلى بيت الله الحرام إذا أذن له أفندينا.وأشيع خبر قدومه إلى القاهرة، فكان الناس بين مصدق ومكذّب حتى وصل إلى بولاق، فركب من هناك واتجه إلى الإمام الشافعى وطلع إلى القلعة وقابل الكتخدا، واستمر زحام الناس أياماً وهو معتكف فى حجرته الخاصة.تلك كانت سطور النهاية، أما البداية فقد نبأت بالمكانة التى احتلها عمر مكرم لدى العامة، الذين توافدوا على الأزهر يصرخون ويستغيثون من المظالم التى يتعرضون لها �بعد أن تعاهدوا على الاتحاد وترك المنافرة�.وحضر �ديوان أفندى� وقال لهم: الباشا يسلم عليكم ويسأل عن مطلوباتكم، فعرفوه بما يريدون، فقال لهم إن عليهم أن يذهبوا إليه ويطلبوا ما يريدون بأنفسهم �وهو لا يخالف أوامركم ولا يرد شفاعتكم�، وإنما القصد أن تلاطفوه فى الخطاب لأنه شاب مغرور جاهل وظالم وغشوم ولا تقبل نفسه التحكم، وربما حمله غروره على حصول ضرر بكم وعدم إنفاذ الغرض، فقالوا بلسان واحد: لا نذهب إليه أبداً مادام يفعل هذه الأفعال، فإن رجع عنها وامتنع عن إحداث البدع والمظالم عن خلق الله رجعنا إليه وترددنا عليه كما كنا فى السابق، فإننا بايعناه على العدل لا على الجور والظلم (...) لا نجتمع عليه أبداً ولا نثير فتنة، بل نلزم بيوتنا ونقتصر على حالنا ونصبر على تقدير الله بنا وبغيرنا�.فيما بعد قرر عدد من المشايخ أن يذهبوا للباشا فيما ظل عمر مكرم على موقفه، فوجدها الباشا فرصة للإيقاع بينهم وإقصاء عمر مكرم الذى كان يخشى من تأثيره على العامة وقدرته على حشدهم أو تفريقهم حين يريد، وهو أمر جربه محمد على بنفسه حين جمع له عمر مكرم الناس وجىء به والياً على مصر.ذهب الشيخان المهدى والدواخلى وديوان أفندى إلى الباشا وبدأوا يتحدثون إليه فقال لهم: أنا لا أرد شفاعتكم ولا أقطع رجاءكم، والواجب منكم إذا رأيتم منى انحرافاً أن تنصحونى وترشدونى، ثم أخذ يلوم على السيد عمر مكرم تعنته وتخلفه فى الذهاب إليه �وفى كل وقت يعاندنى ويبطل أحكامى ويخوّفنى بقيام الجمهور�.فقال الشيخ الدواخلى: هو ليس إلا بنا، إن هو إلا صاحب حرفة أو جابى وقف يجمع الإيراد ويصرفه على المستحقين.وحضروا إلى السيد عمر مكرم فأخبروه أن الباشا لم يحصل منه خلاف، وأنه لا يفعل ما يخالف رأينا إلا أنه قال: أما ما تفعلونه من التشنيع والاجتماع فى الأزهر فهذا لا يناسب منكم، وكأنكم تخوفونى بهذا الاجتماع وتهييج الشرور وقيام الرعية كما كنتم تفعلون فى أيام المماليك، فأنا لا أفزع من ذلك، وإن حصل من الرعية أمر فليس لهم عندى إلا السيف والانتقام، فقالوا له هذا لا يكون، ونحن لا نحب ثوران الفتن، وإنما اجتماعنا من أجل قراءة البخارى وندعو الله بفرج الكرب.. �قم قاموا منصرفين وانفتح بينهم باب النفاق واستمر القيل والقال، وكل حريص على حظ نفسه وزيادة شهرته وسمعته ومظهر خلاف ما فى ضميره�.اجتمع المشايخ بعدها بأسبوع ببيت السيد عمر مكرم وطلبوا منه أن يصعد معهم إلى القلعة لمقابلة الباشا، لكنه أصر على موقفه الرافض وقال: إن الناس يتهموننى به ويقولون إنه لا يتجرأ على شىء ويفعله إلا باتفاق معى.وطلع المشايخ الدواخلى والمهدى والشرقاوى والفيومى.. �فلما طلعوا إلى الباشا وتكلموا معه وقد فهم كل منهم لغة الآخر الباطنية، أخبرهم أنه يرفع الطلب على الأطيان والأوسية وربع الفائظ (أنواع من الضرائب)، نزلوا إلى بيت السيد عمر مكرم وأخبروه بما حصل فقال لهم: أأعجبكم ذلك، إنه أرسل يخبرنى برفع ربع الفائظ فلم أرض إلا برفع ذلك بالكلية، أما ما تقولونه عن رفع الطلب عن الأوسية والرزق فلا أصل لذلك�.وواصل عمر مكرم رفضه لمقابلة الباشا فى القلعة.. �إن كان ولابد فاجتمع معه ببيت الشيخ السادات، وأما طلوعى إليه فلا يكون�، فلما قيل ذلك للباشا زاد حنقه وقال: إنه يزدرينى ويرذلنى ويأمرنى بالنزول من محل حكمى إلى بيوت الناس.وبعدها حضر الباشا إلى بيت إبراهيم الدفتردار وطلب القاضى والمشايخ، وأرسل إلى السيد عمر مكرم رسولاً من طرفه ورسولاً من طرف قاضى القضاة يعلمه بالحضور، فرجعا وأخبراه أنه شرب دواء ولا يمكنه الحضور اليوم، وعند ذلك أحضر الباشا خلعة وألبسها للشيخ السادات على نقابة الأشراف، وأمر بكتابة فرمان بخروج السيد عمر مكرم ونفيه من مصر.تشفع المشايخ له وطلبوا له مهلة ثلاثة أيام حتى ينهى أشغاله فأجابهم إلى ذلك، وسألوه أن يذهب إلى أسيوط (حيث ولد) فقال إما الإسكندرية أو دمياط، وانتهى به الأمر بالنفى إلى دمياط.وذهب شهبندر التجار السيد محمد المحروقى إلى الباشا وقال له إن السيد عمر مكرم جعله وكيلاً على أولاده وبيته فأجازه.وودع الناس السيد عمر مكرم �وهم يتباكون حوله حزناً على فراقه، واغتموا على سفره وخروجه من مصر لأنه كان ركناً وملجأ ومقصداً للناس، ولتعصبه فى نصرة الحق، فسار إلى بولاق ونزل فى المركب وسافر من ليلته بأتباعه وخدمه الذين يحتاج إليهم فى دمياط�.وفى صبح ذلك اليوم حضر الشيخ المهدى وطلب وظائف السيد عمر مكرم، فأنعم عليه الباشا بنظر أوقاف الإمام الشافعى ونظر وقف سنان باشا ببولاق، وحاسب على المنكسر له من الغلال مدة 4 سنوات، فأمر بدفعها له من خزينته نظير اجتهاده فى خيانة السيد عمر�.من جهتهم كتب المشايخ عرضحالاً فى حق السيد عمر مكرم بأمر الباشا ذكروا فيه أسباب عزله ونفيه من مصر، وعدوا له مثالب ومعايب وذنوباً منها أنه أدخل فى دفتر الأشراف أسماء أشخاص ممن أسلموا من اليهود والقبط، ومنها أنه أخذ من الألفى فى السابق مبلغاً من المال، ومنها أنه كاتب أمراء المماليك أيام خورشيد باشا ليحضروا على حين غفلة من محمد على وتعهد بنصرتهم عليه، ومنها أنه خطط ليثير الفتنة بين العسكر ضد الباشا، ووضعوا على العرضحال أسماء عدد من المشايخ رفض بعضهم التوقيع عليه، وكان على رأس هؤلاء الشيخ أحمد الطحاوى إمام الحنفية، فتآمر عليه المشايخ هو الآخر حتى عزلوه.يقول الجبرتى: مع أن السيد عمر مكرم كان ظلاً ظليلاً عليهم وعلى أهل البلد، يدافع عنهم وعن غيرهم، ولم تقم لهم بعد خروجه من مصر راية، ولم يزالوا بعده فى انحطاط وانخفاض، وأما السيد عمر فإن الذى وقع له بعض ما يستحقه، ومن أعان ظالماً سُلط عليه، ولا يظلم ربك أحداً.لكن الخلاف بين الوالى و�نقيب الأشراف� كان له أسباب أخرى، بعضها يبدو شخصياً وأكثرها له صلة برؤية كل منهما لمطامح الآخر وما يدعمه ويستند إليه من عناصر قوة..فى يونيو 1908، أصدر محمد على أمراً بأن تخضع أراضى الوقف للضرائب، وكانت معفاة من قبل، وكذلك أراضى �الوسايا�. أدى ذلك إلى نزاع بين الوالى والسيد عمر مكرم وكان ضمن العلماء/ الملتزمين. وكان محمد على وقتها يخطط لإنهاء نظام الالتزام نهائياً. لكن العلماء / الملتزمين لم يعجبهم أمر الوالى، خصوصاً أن كثيرين منهم كانت تحت أيديهم أراضى وقف. عقد العلماء اجتماعاً برئاسة عمر مكرم للتباحث فى هذا الموضوع، وأرسل الباشا إليهم مندوبه �ديوان أفندى� للتشاور معهم، واقترح عليهم ديوان أن يذهبوا لملاقاة الباشا، لكنه حذرهم إن تمادوا فى الحديث معه.. �فهو شاب مغرور جاهل وغشوم، وربما حمله غروره على حصول ضرر بكم�، وفهم العلماء التهديد المتضمن فى تحذير ديوان أفندى، على النحو الذى أشرنا إليه فى البداية.بحسب عفاف لطفى السيد �مصر فى عهد محمد على� فإن ادعاء عمر مكرم أنه من الأشراف ليس صحيحاً، ولم يكن فى يوم من الأيام عضواً حقيقياً فى جماعة العلماء، وإنما عُيِّن نقيباً للأشراف مكافأة له من جانب المماليك.لكن عفاف لطفى السيد لا تنكر أن عمر مكرم كان زعيماً شعبياً، كما أنه كان مؤمناً بطاقة الشعب برغم ثرائه الكبير، وقد تمكن فى مناسبات عديدة من توجيه الجماهير وإثارتها والسيطرة عليها، ودعَّمت هذه الجماهير سلطته فى مواجهة مراكز السلطة الأخرى فى البلاد.وتضيف: وجدت الجماهير فيه عنصراً استجابوا له، ولعلهم أدركوا بشكل غريزى أنه يدعم مصالحهم على خلاف العلماء الآخرين الذين كانوا أكثر قابلية للانحناء أمام الضغوط.هذا ما جعل محمد على يرى عمر مكرم منافساً محتملاً على السلطة، فهو الرجل الوحيد الذى يملك شجاعة تحديه استناداً إلى شعبيته بين الجماهير.وبالفعل بعد القضاء على تأثير عمر مكرم، أصبح باقى العلماء طيعين خانعين، وكان أغلبهم شديدى الخوف فى وجه الوالى، وما تبقى منهم ثم استقطابه، خصوصاً بعد تعيين الشيخ السادات نقيباً للأشراف.وبرأى عفاف السيد، فإن ما قاله الجبرتى بعد نفى مكرم من أنه �لم ينل إلا ما يستحقه�، لا تعكس فقط عداء الجبرتى لمكرم، باعتبارهما �ملتزمين� من كبار الأثرياء، إنما عكست كذلك وعيه السياسي، وبأن سقوطه كان إيذاناً بسقوط تأثير على العلماء على الوالى، كذلك أدرك أنهم تآمروا على مكرم ليتخلصوا منه.. �والحامل لهم على ذلك كله الحظوظ النفسانية والحسد، مع أن السيد عمر كان ظلاً ظليلاً عليهم وعلى أهل البلدة، ويدافع ويترافع عنهم وعن غيرهم، ولم يزالوا بعده فى انحطاط وانخفاض�.وبنفى عمر مكرم زالت آخر عقبات المعارضة الداخلية لمحمد على باستثناء المماليك، وصار العلماء أكثر خنوعاً، لكن ذلك لا يعنى أن نفوذهم اندثر تماماً، لكنه يعنى أن قوتهم كمصدر رئيسى للمعارضة فى البلاد تضاءلت لبعض الوقت.ومع تخلصه من العلماء باعتبارهم عقبة أمام رفع الضرائب والسيطرة على ثروات البلد، أصبح الطريق إلى إحداث تغييرات جذرية فى مجال ملكية الأرض الزراعية وفى الزراعة مفتوحاً على اتساعه.
اقرأ أيضاً :
======
تعليقات
إرسال تعليق