الشعوب تبوح بأسرارها فى "أبوظبى"

السينما مرآة الشعوب، من خلالها نستطيع رسم خريطة إنسانية ووجدانية لبلاد لا نعرف عنها شيئا، ولكنها تصبح ككتاب مفتوح من خلال مبدعيها وهذا ما ظهر واضحاً فى مهرجان أبوظبى الذى انتهت فاعلياته بالأمس.
ففيلم «العودة إلى حمص» للسوري طلال ديركي (مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة) تناول قصة شابين سوريين يجدان نفسيهما يواجهان تحدّيات قاسية، ويعيشان اختبارات جديدة لهما، حلمهما المشترك: الانتصار على الظلم، والانتصار للحقّ والحرية والعدالة. الشابان هما: الرياضي عبدالباسط (حارس مرمى سابق للمنتخب السوري للشباب في كرة القدم) والناشط الإعلامي أسامة الحمصي. الشاب الثالث هو المخرج نفسه، الذي يروي تفاصيل رحلته في الجحيم الذي يُصنع يومياً في حمص. إنه الحصار. أشهر مديدة، ودمار يكاد يقول إن الحرب باتت في عامها الألف. عبدالباسط منشد أهازيج ضد النظام، ومحرّك الناس، يجد نفسه فجأة «قائداً» ميدانياً وهو لا يملك لا خبرة ولا تجربة ولا معرفة بمعنى «المقاومة الميدانية المسلّحة». أسامة مثله إلى حدّ كبير، وإن لم يكن مُنشداً. طريق المقاومة جمعتهما، واشتداد العنف فرّقهما، إذ أُلقي القبض على أسامة واختفى، وأُصيب عبدالباسط بجروح بليغة.. الفيلم لا يروى حكايتهما فقط. ربما لأنه يعكس جوانب يومية وتفاصيل عديدة من حياتهما، بات أشبه بحياتهما. ولكن أيضا يتوغّل داخل الأزقة المدمّرة وبين البيوت المفتوحة حيطانها لإنشاء ممرات بعيدة عن القنّاصة والقتل، يُشبه التوغّل في متاهة ذاك العنف وتحوّلاته الخطرة، وفي متاهة أسئلة عن الحاضر والمستقبل، وعن الحياة اليومية الراهنة، وعن العلاقات والانتماء أيضاً. إننا أمام فيلم أشبه بالمذكّرات اليومية لصانعه أولاً، ومحاولة أرشفة بعض يوميات عبدالباسط وأسامة ثانياً. لكن الأبرز هو توثيق الراهن في حمص، وحفظ الصُور المؤلمة التي حوّلتها إلى مقبرة لا يزال كثيرون فيها يؤمنون أن الحياة أقوى، وأن الانتصار قد يكون قريباً. طلال ديركي يحمل آلة التصوير ويرافق الشباب جميعهم في تلك اليوميات العصيبة، التي لا تخلو من ضحك وسخرية أحياناً، كأن الضحك والسخرية داعمان نفسيان لمزيد من تحمّل أهوال ما يجري. في المقابل، هناك الدموع والبكاء. هناك الرصاص والدم والغبار والجدران المثقوبة والحاجة إلى سلاح ومأكل ومشرب.فيلم «ديفريت» للمخرج الإثيوبي زيريسيناي بيرهانه ميهارييتبنّى قصّة ذات بعد اجتماعي يرتبط بين بعض العادات والأعراف، فى مناطق شرق إفريقيا، يدور حول طفلة في الرابعة عشرة من عمرها، تُختَطَف من قِبَل شاب بمساعدة أصدقائه، وهم على ظهور خيولهم محمّلين بأسلحتهم، ثم يقودونها إلى محبس في مكان ناء، قبل أن يغتصبها الشاب نفسه. يكشف السيناريو لاحقاً أن تلك الطريقة في الخطف عائدة إلى أعراف وتقاليد الزواج في تلك المنطقة، بهدف إرغام الزوجة على إطاعة الزوج فيما بعد. الفتاة المرعوبة تنتهز فرصة انشغال الشاب المغتصِب، وتلتقط بندقيته، وتهرب. عند محاصرتها في الغابة، تُطلق رصاصة فتقتل الشاب على الفور، تنقذها الشرطة من أيدي أصدقاء المغتصِب القتيل، قبل أن يفتكوا بها. غير أن الشرطة في تلك المنطقة لا تريد شيئاً مُخالفاً لما يريده أهل المنطقة، أي قتل الفتاة. لكنها تريد تنفيذ الحكم من خلال القضاء. لا يتوقّف «ديفريت» عند تلك القضايا الاجتماعية مباشرة، لأنه يحاول تقديم شكل إنساني متكامل لأهل هيروت الفقراء. فعلى الرغم من فقرهم، إلاّ أن للوالد طموحاً بتعليم بناته، بدءاً من المراحل الأولى وصولاً إلى الجامعة. يعرض المخرج الصورة السلبية عن حالة العقل الجمعي، التي تعانيها المناطق الفقيرة، خاصة الأفكار التي يتبنّاها كبار القبائل في جلساتهم العرفية، وما فيها من تعمّد غضّ البصر عن القيم الإنسانية، وجعل الأعراف المتخلّفة تسود لمجرّد أنها أعراف.أما فيلم أديتيا فيكرام سينجوبتا الهندي «شغيل الحبّ»، فلا يستخدم الأسلوب الواقعي المباشر ولكنه يعرض بعض اللوحات التي تشير إلى معلومات عن الأزمة، فالكاميرا تسير خلف البطلة عبر الطرقات الضيقة في مدينة كالكوتا، كل لقطة مليئة بدقّة متناهية، في قياس الكادر وبنيته وكمية الضوء الداخلة إليه، سواء في البيت أو في مكان العمل أو في الشارع. يستمر الفيلم في الانتقال بين الفتاة في المصنع والشاب الذاهب إلى السوق لشراء احتياجات البيت، ثم العودة والنوم. يحدث تحوّل في الأدوار في منتصف الفيلم تقريباً.. شريط الصوت يكمِّل تلك اللوحات البديعة، التي ترصد القصّة. زخم الشارع بتفاصيلها كلّها، الذي يصل إلى المنزل، بالإضافة إلى صوت مروحة السقف، وأصوات أماكن العمل. هذه كلّها تُشكّل كل شيء فى شريط الصوت. لا توجد إطلاقاً مساحة لأي جملة حوارية تُقال. إن الفيلم لوحات تشكيلية شعرية متميّزة ومتتالية، عن معاناة حياة الطبقة العمالية في الهند.أما «تشابك» للكوري الجنوبي لي دون - كو، الفيلم ينتمى إلى أسرة تتناول طعامها بهدوء وحوار ضاحك. يظهر أن هذه الأسرة تنتمي إلى الطبقة الغنية، وتتكوّن من السيدة العجوز نفسها، وهي الأم، وابنة مراهقة في مدرسة ثانوية، وابنة أخرى في شهرها الأخير من الحمل، وزوجها الذي يعمل طبيب نساء. هذه اللقطة الافتتاحية تُلمِّح إلى أن هناك تحولاً راديكالياً سيحدث للأسرة. إذ تبدو مهارة المخرج في بناء السرد الفيلميّ، وهو يمهّد للمُشَاهد ببعض ما ينوي فعله لاحقاً: تلميح عن طريق الحوار الضاحك الذي يديره الزوج الطبيب حول مرض الزهايمر. لكنه سرعان ما ينتبه إلى أنه يقول شيئاً سخيفاً على مائدة الطعام، لأن الأم العجوز مُصابة ببدايات هذا المرض. المخرج التركي الكبير نوري بيلجي جيلان في «سبات شتوي» يحاول اجتياح احدى المناطق الأكثر غموضاً وتعقيداً في الطبيعة البشرية: العقل. يقدّم فيلماً أقل ما يمكن القول فيه إنه ليس سهلاً وغير قابل للمساومة. ثلاث ساعات و16 دقيقة من الفلسفة الوجودية.أما عبدالرحمن سيساكو في فيلمه الجديد «تمبوكتو فنقل نبض القارة الإفريقية وهمومها الى العالم بأسلوب خاص، يعتمد على المفارقة واللعب على الحكاية وعدم الركون الى مسار تطورها التقليدي. أسلوب تميز به وكرره في «تمبوكتو» التي أرادها نموذجاً لأرض تشهد تغيراً كبيراً منذ فرض عناصر القاعدة سيطرتهم عليها ومحاولتهم فرض شروطهم وتصوراتهم على نمط حياة، تمازجت فيه عبر تاريخ طويل الديانات والأعراف الأفريقية وهو ما أعطى هذه المنطقة وسكانها طعماً خاصاً وجمالاً متفرداً. أرادوها «قادة القاعدة» مدينة كئيبة وفق تصورهم لمدن «الخلافة» فحرموا سكانها من متع بسيطة كانت تعطي لحياتهم ولمدينتهم الصحراوية حيوية وتُصبرهم على العيش فيها تحت شروط الطبيعة القاسية المحيطة بها. حَرّم المتطرفون على سكان تمبوكتو الغناء والموسيقى وحتى لعب كرة القدم ، يذهب»تمبوكتو» الى دهاليز التكوين النفسي والاجتماعي لمدينة قد تصلح أن تكون نموذجاً للمدن الإفريقية التي يمتزج فيها الموروث «الطوطمي» مع الاسلامي والمبتعدة بدرجات كبيرة عن المجتمعات العصرية والاستهلاكية، والتي تُسيّر حياتها وفق قوانين محلية سُنت من قبل أهلها وتوافق الجميع عليها، حتى اللحظة التي دخل «المتطرفون» إليها فأخذت قصة قتل المغني لأحد الصيادين من دون قصد أبعاداً أخرى ما كانت ستأخذها لو ظل الأمر محصوراً بين سكان القرية وشيوخهم.


المصدر الوفد

تعليقات

المشاركات الشائعة