"طقوس السحر والبشر" مذاقات مختلفة لمهرجان أبوظبى

روح الحياة بكل ما فيها من أخطاء وعيوب ومميزات نراها من خلال بيئات مختلفة ترصدها الكاميرا فى ثلاثة أعمال مهمة تعرض فى مهرجان أبوظبى.
على رأسها «صدى الجبل» للمكسيكي نيكولاس إيتشافارّي أحد الأفلام السينمائية الفريدة، ذات الرؤية الابداعية، التى تتوغل داخل الموروث الشعبى الملىء بالتفاصيل عن التقاليد مقدما لوحات فنية متعددة الأشكال والألوان والتفاصيل من خلال حكاية فلاح فقير، يعيش في جبال نائية مع عائلته القليلة العدد، المترابطة الأواصر، ومعه جيرانه الذين توارثوا أرضاً صعبة الزراعة والاعتناء. على الرغم من ذلك، وجدوا أن قدرهم الجماعي محكومٌ إلى الأبد بين صخورها وسمائها وتقلّبات طقسها ووحشية حيواناتها ودروب إيمانها التي تقودهم، بدورها، إلى أداء شعائر حجّ ديني سنوي يتَيَمَّمُ نحو مواقع مقدسة حسب معتقداتهم القديمة. يبدأ «صدى الجبل» المشارك فى (مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة) ويحملنا العمل الآسر إلى قلب العزلة المكسيكية، وجبال «خاليسكو» تتحوّل إلى كائنات جبّارة، تحوي كهوفها وسفوحها وحجارتها حكايات تتردّد صدياتها لاحقاً في عوالم جدارياته، كحيواناتها وزواحفها وبهائمها التي تتماهى بدورها مع طواطم مخيفة لحكايات شعبية ضاربة في المخيلة الجماعية للقبيلة الهندية «ويتشول»، التي لا يزال أهلها يمارسون، حتى اليوم، طقوس السحر ومعالجة الظواهر الخفية.في المقطع الأخير من الفيلم، اختار إيتشافارّيا أن يُشرك مُشَاهده في صناعة واحدة من جدارياته، فإذا به يرافقه إلى شقّة وسط مدينة كبيرة، لينكبّ بمساعدة زوجته وابنه وجارهما على تجسيد عالم الجبل السحري، مستخدمين ملايين الخرز الملوّنة التي تتشكّل فراديس وشموساً ومسوخ حيوانات ودروب حجّ ووحوش خرافات وأرباباً. وتتشكّل الحكايات المروية في «قصص» (مسابقة الأفلام الروائية الطويلة)، الفيلم الجديد للإيرانية رخشان بني اعتماد، من تفاصيل يومية عادية، تتجمّع في سياق سينمائي يؤدّي إلى بناء فني متماسك، كتابة وأداء و«قصص» انعكاس سينمائي لوقائع العيش في قاع المدينة، خزّانٌ الحكايات لأناس مهمّشين ومنبوذين من قِبَل سلطات حاكمة في المجتمع والسياسة والحياة العامة، ومنبعٌ لشرارات تُضيء ليل المدينة ونهارها كاشفة عريها المتستّر في جدران لن تصمد طويلاً في «حمايتها» الفساد المعتمل في نفوس وأرواح، أمام كاميرا تُفكّك بُنى اجتماعية مقيمة في تفكّكها التدريجي أصلاً، وتحتاج إلى «ضربة أخيرة» قد تنهار كلّياً. والكاميرا تتجوّل في الأمكنة كتجوالها في النفوس، وتفضح بعض المخفيّ في الأمكنة كفضحها بعض المبطّن في أحوال الناس ومآزقهم. والنص المُصوَّر لا يتردّد عن كشف بعض المستور عن أحوال بيئة اجتماعية وحالات إنسانية من الرغبة في السفر دونها الاحتيال الذي يقع فيه سائق سيارة أجرة وأفراد عائلته، فإذا بالمحتالين يسرقون ماله ويختفون. الشابّة الهاربة من ماضيها، وإلحاح عجوز الباحث عن الحصول على حقّه من الوزارة المختصّة، من دون فائدة. وحوارات الفيلم مشغولة بحرفية واقعية، وسلاسة تتضمّن حدّاً كبيراً من العمق الإنساني الباحث في أسئلة الحياة والوجود والمرض والقلق والتحوّلات الحاصلة في البلد، ولعل التعليق الذي يقوله عجوز في قطار، من أنه «لم يعد هناك حشمة في هذه المدينة»، يبقى إحدى الصُوَر القاسية عن مدينة مُسرفة في تدميرها الذاتي، أو ربما في إثمها النابع من انسداد أفق، أو من طغيان اهتراء. الـ«حشمة» لن تكون ردّاً أخلاقياً على ما يسمعه العجوز ويراه (موظف لديه عشيقة، وامرأة تطلب من شاب عدم الخوف من المجيء إلى منزلها، لأن زوجها لن يأتي غفلة)، لأن الحشمة مفقودة في مجالات أخرى أيضاً: انعدام احترام الآخر، وخصوصيته وحقوقه أيضاً. قسوة اليوميّ ممتدة إلى قسوة الشكّ في العلاقة الزوجية، على خلفية تناقض طبقي اجتماعي: العامل الكادح يستلم رسالة إلى زوجته من رجل يتبيّن أنه كان مرتبطاً بها سابقاً. الشكّ قاتل، يكشف هشاشة المرء وتوهانه في مجتمع منقبض على نفسه ومحطّم. لكن الرسالة لن تكون على الصورة المكوّنة سريعاً عنها في ذات العامل، لأنها تكشف ما لا يزال «جميلاً» في نفوس البعض، فإذا بالدمع يُغسل روح الرجل الشكّاك، ويُعبّر بصمت عن ندم كبير. إنه (الدمع) يكاد يُشبه دمع المدمن على المخدّرات، الذي أحرق وجه امرأته ذات لحظة غضب ناتج من إدمان وفقر، بعد اكتشافه آثار فعلته، وإن لم يؤدّ الدمع هنا إلى إزالة النفور بينهما. الإدمان على المخدرات حاضرٌ بكثافة في ثنايا الفيلم، تماماً كالفساد وارتباك العلاقات الزوجية والفقر والألم والانهيار والتمزّقا.... أما فيلم «ذيب» للأردني ناجي أبو نوّار فيلماً واعداً بأمور عديدة على مستويات مختلفة، منها تفعيل الخطوات الأولى لتأسيس سينما أردنية متكاملة، وبداية مسار سينمائي يُفترض به أن يتطوّر إيجابياً في سيرة المخرج نفسه، والعودة إلى العام 1916 ليست صدفة أو عفوية أو عبثية، و«ذيب» دعوة إلى معاينة العلاقة القائمة بين السينما والواقع، وذيب (جاسر عيد) يكتشف العالم خارج حدود القبيلة البدوية المنتمي إليها، بعد أن عاش في كنف شقيقه الأكبر حسين (حسين سلامة) إثر وفاة الأب. أي أن النواة الدرامية معقودة على الرحلة، الجغرافية والروحية والنفسية والثقافية، التي يقوم بها ذيب ذات لحظة تاريخية في مسار المنطقة العربية، وإن تشعّبت عناوينها الأخرى، كاشفة أحوال البيئة والناس، ومنعطفات الزمن.القصّة بحدّ ذاتها بسيطة: ضابط بريطاني يصل معاقل القبيلة البدوية التي ينتمي ذيب وشقيقه إليها، برفقة دليل عربي، بهدف البحث عن مكان ما لأمر ما (يوحي الفيلم بهما لاحقاً، لأنهما ليسا الأساسي في الحبكة، بل مجرّد تفصيل يساهم في الوصول إلى الأساسي). يُكلّف الشقيقان بمرافقتهما. لكن الرحلة تتكشّف عن مسائل متفرّقة: الصراع على المنطقة في ظلّ الحرب العالمية الأولى بين الإنجليز والعثمانيين، واستمرارية «الثورة العربية» ضد العثمانيين (من دون تناسي التدخّل الإنجليزي دعماً للثوار لأغراض سياسية بحتة خاصّة بمصالح الإمبراطورية الإنجليزية)، والتحوّلات الميدانية التي تعيشها المنطقة في ظلّ تمدّد خطوط السكك الحديدية. أما في التفاصيل، فهناك ما يجعل الحبكة تخرج على هذا كلّه: إنها رحلة ذيب في العالم، وعليه بعد وقوع حادث خطر يودي بحياة الإنجليزي وشقيقه أن يواجه مصيره لوحده، وأن يُحدّد خياراته بنفسه، وأن يواجه مآزقه من دون مساعدة أحد، وأن يستمرّ في اكتشافاته مستعيناً بذاته.


المصدر الوفد

تعليقات

المشاركات الشائعة