فاروق استجاب للجيش والشعب وتنازل عن العرش حقنا لدماء المصريين .. غادر من الإسكندرية مستقلا «المحروسة» وأطلقت له المدفعية 21 طلقة فى وداع ملكى





نقلاً عن اليومى..
فى التاريخ القديم والحديث قصص عن حكام تمسكوا بالسلطة والحكم بصرف النظر عما يكلف شعوبهم من دم، وحكام فضلوا حقن الدماء مبكرا ورفضوا إراقة الدم البرىء. نقول هذا بمناسبة ما يجرى فى مصر خلال الشهور الماضية، بعد ثورة يناير وبعد 30 يونيو. فقد شهدت مصر ثورتين، الأولى فى يناير 2011 عندما خرج الشعب ضد مبارك فى مظاهرات ضخمة تطالبه بإصلاحات شاملة ومواجهة الفساد والتزوير والاحتكار والظلم، لكن مبارك تأخر فى الاستجابة للشعب مرات لكنه رضخ فى النهاية وبعد 18 يوما لإرادة الشعب، بعد انحياز الجيش للشعب. وخلال أقل من عامين تكرر الأمر حيث تولى الدكتور محمد مرسى الرئاسة بالانتخاب لكنه استمر فى الحكم أتابع لجماعة الإخوان، التى تحولت إلى دولة داخل الدولة، وتكررت الصدامات والغضب. وخرجت الجماهير تطالب بانتخابات رئاسية مبكرة، لكن جماعة الإخوان أجبرت مرسى على الرفض. وقبلها تصادمت الجماعة مع الشعب وسقط قتلى وجرحى أمام قصر الاتحادية ومكتب الإرشاد. وظل مرسى وجماعته يتمسكون بالسلطة، وعندما تحرك الجيش ليحمى مطالب الشعب بقيت الجماعة تتمسك بالسلطة التى فشلت فى استعمالها. ولم تلتفت الجماعة للدماء التى سالت وما تزال تسيل.

ليضرب مرسى المثل بحاكم ينتمى لجماعة هددت بحرق مصر إن لم تحكمها. عندما قامت ثورة 23 يوليو 1952 كانت كل المقدمات تقود إلى أن هناك تحولات يجب أن تحدث، وكانت السنوات العشر قبل يوليو تشير إلى انتظار تحول ما. فقد انتشر الظلم والفساد ووقع حريق القاهرة فى يناير 1952، ليبدو مقدمة لأحداث كبرى.

ولهذا عندما تحرك الجيش فجر 23 يوليو لتغيير الحكم، لم يفاجأ المصريون الذين كانوا يتابعون الأحداث، وإن كانت تحركات الجيش حملت اسم حركة الجيش. وكانت هناك قوى مختلفة فى المجتمع، الملك والقصر الملكى بكل تفاصيله، وتبعية الجيش والشرطة والحرس الملكى للملك فاروق، وكان هناك الانجليز كقوة احتلال، لها أهداف ومصالح فى مصر، وكانت تتحكم فى القرار السياسى بدرجة كبيرة، وقبل 10 سنوات كانت أحداث 4 فبراير مائلة للعيان، عندما تحركت الدبابات البريطانية وحاصرت قصر الملك فاروق، لتجبره على تعيين وزارة الوفد. ثم أصبحت اقرب إليه، وكان يمكن للملك أن يطلب تدخل السفارة البريطانية أو غيرها، مثلما فعل بعض قيادات الأحزاب السياسية.

لقد كانت هناك عناصر مختلفة، تواجه تحركات الجيش، لكن الغريب أن حركة الجيش لم تواجه مقاومة تذكر من الحرس الملكى أو قيادات الجيش الموالية للملك فاروق. وقد اكتشف الملك فاروق أن هناك ترحيبا شعبيا بحركة الجيش لإطاحة الحكم الملكى لأسرة محمد علي، الذى كان قد بدا ينتهى بسبب الفساد والظلم والفقر، وشعور المصريين بالغربة، وحيازة الأجانب لكل خيرات البلاد. ولهذا رأى الملك فاروق أنه لا يمكنه مواجهة التحركات الشعبية ولا حركة الجيش، وأن أى مواجهة هذا لها ثمنها الفادح، الذى يمكن أن يسيل الدماء ويسقط المصريين ويدخل الجيش فى مواجهة مع الحرس الملكى. ولهذا فكر فى هذه اللحظة تفكير رجل الدولة، الذى لم يعد له مكان فى الحكم. وأن بقاءه يكلف المزيد من الدماء، فضلا عن كونه سيسجل فى التاريخ كحاكم تسبب فى إسالة دماء الشعب. ولهذا قرر الملك فاروق التنحى عن الحكم أو إطاعة بيان الجيش الذى طالبه بالتنازل عن العرش ومغادرة البلاد.

فقد وجهت القوات المسلحة بقياده اللواء محمد نجيب بيان شديد اللهجة كان نصة «من اللواء أركان حرب محمد نجيب باسم ضباط الجيش ورجاله إلى الملك فاروق الأول، أنه نظرًا لما لاقته البلاد فى العهد الأخير من فوضى شاملة عمت جميع المرافق نتيجة سوء تصرفكم وعبثكم بالدستور وامتهانكم لإرادة الشعب حتى أصبح كل فرد من أفراده لا يطمئن على حياته أو ماله أو كرامته. ولقد ساءت سمعة مصر بين شعوب العالم من تماديكم فى هذا المسلك حتى أصبح الخونة والمرتشون يجدون فى ظلكم الحماية والأمن والثراء الفاحش والإسراف الماجن على حساب الشعب الجائع الفقير، ولقد ظهرت فى حرب فلسطين وما تبعها من فضائح الأسلحة الفاسدة وما ترتب عليها من محاكمات تعرضت لتدخلكم السافر مما أفسد الحقائق وزعزع الثقة فى العدالة وساعد الخونة على ترسم هذا الخطأ فأثرى من أثرى وفجر من فجر وكيف لا والناس على دين ملوكهم، لذلك قد فوضنى الجيش الممثل لقوة الشعب أن أطلب من جلالتكم التنازل عن العرش لسمو ولى عهدكم الأمير أحمد فؤاد على أن يتم ذلك فى موعد غايته الساعة الثانية عشرة من ظهر اليوم السبت الموافق 26 يوليو 1952 والرابع من ذى القعدة سنة 1371 ومغادرة البلاد قبل الساعة السادسة من مساء اليوم نفسه، والجيش يحمل جلالتكم كل ما يترتب على عدم النزول على رغبة الشعب من نتائج».

العديد من الروايات والكتب خرجت بعد عزل الملك فاروق لتحكى فقط عن تلك المرحلة التاريخية من عزل الملك فاروق، الجميع اختلف عن الأسباب التى أدت إلى اتخاذ قرار عزل الملك، إلا أن الاتفاق فى كثير من الروايات كان حول اتخاذ الملك قرار برفض التمسك بعرشه أو التعاون مع قوات الاحتلال، فى مواجهة تحرك الجيش.

وفقا للروايات التاريخية اجتمع فاروق مع قيادات القصر وأعلن موافقته على الوثيقة العسكرية حقنا لدماء المصرين ، وطلب من على ماهر باشا كتابة وثيقة ملكية توضح أنه نزولا على إرادة الشعب يوافق فاروق على التنازل عن عرش مصر. وكان له مطلب وحيد بأن يحافظ على كرامته فى وثيقة التنازل عن العرش، فطمأنه على ماهر باشا، وذكر له أنها ستكون على مثال الوثيقة التى تنازل بها ملك بلجيكا عن عرشه، واتصل على ماهر باشا بالدكتور عبدالرازق السنهورى طالبًا منه تحرير وثيقة التنازل، فأعدت الوثيقة وعرضت على اللواء محمد نجيب فوافق عليها.

وتم تكليف سليمان حافظ بحمل الوثيقة وتوقيعها من الملك، فاستقبله وقرأها أكثر من مرة، واطمأن للشكل القانونى لها وأراد إضافة كلمة «وإرادتنا» عقب عبارة ونزولًا على إرادة الشعب، لكنه أفهمه أن صياغة الوثيقة فى صورة أمر ملكى تنطوى على هذا المعنى، وأنها تمت بصعوبة كبيرة ولا تسمح بإدخال أى تعديل.

فى 26 يوليو سنة 1952، غادر الملك فاروق مصر على اليخت الملكى «المحروسة» متجها إلى منفاه وذلك بعد أن تنازل عن عرشه إلى ابنه الأمير أحمد فؤاد، وذلك بعد أن قام تنظيم الضباط الأحرار بزعامة جمال عبدالناصر بتنظيم حركة مسلحة نجحت فى السيطرة على الأمور فى البلاد والسيطرة على المرافق الحيوية، ومن ثم فرض الجيش على الملك التنازل عن العرش لولى العهد الأمير أحمد فؤاد ومغادرة البلاد فى 26 يوليو 1952.

واستجاب الملك فاروق لتلك المطالب حفاظا منه على أرواح الشعب المصرى مفضلا التنازل عن عرشه وعرش أجداده خوفا منه أن تسيل قطرة دم واحده من أحد من أفراد الشعب. ورفض الملك فاروق أن يتدخل الحرس الملكى الخاص به للقضاء على ذلك التنظيم كما رفض أن يتدخل الإنجليز أيضا لمساعدته، حرصا منه على سلامة المصريين. وفى الساعة السادسة والعشرون دقيقة من مساء يوم 26 يوليو سنة 1952 غادر الملك فاروق مصر على ظهر اليخت الملكى «المحروسة» وهو نفس اليخت الذى غادر به جده إسماعيل عند عزله عن حكم مصر فى 30 يونيو سنة 1897. وكان فى وداع الملك فاروق عند مغادرته مصر اللواء محمد نجيب وأعضاء حركة الضباط الأحرار الذين كانوا قد قرروا الاكتفاء بعزله ونفيه من مصر.

ويقول اللواء محمد نجيب الرئيس الأول للجمهورية فى مذكراته: جئت متأخرا لوداع الملك بسبب ازدحام الطريق وكانت المحروسة فى عرض البحر، فأخذت لنشاً حربياً دار بنا دورة كاملة كما تقتضى التقاليد البحرية وصعدت للمحروسة وكان الملك ينتظرنى، أديت له التحية فرد عليها، ثم سادت لحظة صمت بددتُها قائلاً للملك:
لعلك تذكر أننى كنتُ الضابط الوحيد الذى قدم استقالته من الجيش عقب حادث 4 فبراير 1942 إحتجاجاً، فرد الملك: نعم أذكر، وقلتُ له: حينئذٍ كنتُ مستعداً أن أُضحى برزقى وبرقبتى فى سبيلك، ولكن ها أنت ترى اليوم أننى نفسى أقف على رأس الجيش ضدك، فرد فاروق: إن الجيش ليس مُلكى وإنما هو ملك مصر، ومصر وطنى، وإذا كان الجيش قد رأى أن فى نزولى عن العرش ما يُحقق لمصر الخير، فإنى أتمنى لها هذا.

وهكذا اختار الملك فاروق الرحيل عن مصر وعن شعب مصر حفاظا منه على مصر وعلى شعبها.

غادر الملك فاروق طواعية وباختياره وبعد أن أدى له الضباط المجتمعين لوداعه التحية العسكرية وأطلقت المدفعية إحدى وعشرون طلقة تحية له عند وداعه.
غادر فاروق وأسرته مصر وليس معهم جميعا سوى القليل القليل من الملابس الصيفية التى كانت بحوزتهم أثناء الرحيل حيث أن أعضاء مجلس قيادة الثورة وقتها رفضوا طلبا للملك بأن يأخذ من قصره فى مصر بعض احتياجاته واحتياجات أسرته. ورحل دون أن يأخذ معه الصناديق المليئه بالنقود كما زعموا وكما اثبت التاريخ كذب هذا الافتراء.

رحل تاركا وراءه عرشا دام لمدة 150 عاما هى فتره تاريخ حكم أسرة محمد على لمصر بداية من محمد على وحتى فاروق الأول. وهكذا خرج الملك فاروق من مصر مودعا من ضباطها وداعا يليق بملك تنازل عن عرشه وعرش أجداده بإرادته ودون إراقة دم مواطن واحد من شعب مصر. باستثناء جندى واحد سقط لأنه حاول مقاومة القوات.

فاروق الذى تولى العرش فى سن صغيرة، حيث كان بالسادسة عشرة من عمره عند وفاة والده الملك فؤاد الأول، حيث خلف أباه على عرش مصر بتاريخ 28 أبريل 1936، استمر حكمه مدة ستة عشر سنة إلى أن أرغمته ثورة 23 يوليو على التنازل عن العرش لأبنه الطفل أحمد فؤاد والذى كان عمره حينها ستة شهور، وبعد تنازله عن العرش أقام فى منفاه بروما، وكان يزور منها سويسرا وفرنسا، وذلك إلى أن توفى بروما، ودفن فى المقبرة الملكية بمسجد الرفاعى بالقاهرة حسب وصيته، بعض المؤرخين لم يجحفوا الحق الكامل للملك فاروق واعتمدوا على عدل التاريخ حيث ذكروا له العديد من الامتيازات فى حكمه، والتى ظهرت بقوه فى بداية عهدة حيث نسب إليه أنه دعم المنظومة التعليمية فى مصر والمساعدة على استكمال مشوار محمد على باشا بالوصول لمصر للدولة الحديثة، ليصبح فاروق أول ملك على عرش مصر يتنازل عن الحكم حقنا لدماء المصرين بعد ولاية 16 عاما، ليصبح آخر ملوك العهد الملكى لأسرة حاكمة عهدت حكم مصر منذ محمد على منذ عام 1805 وحتى 1952.

الأمر اختلف فى نهاية عهد آخر رئيس مصرى جمهورى منتخب، المفارقة التاريخية التى نبه إليها الشيخ حافظ سلامة، أحد أبطال المقاومة الشعبية بالسويس، حيث حذر جماعة الإخوان المسلمين والرئيس المصرى المعزول محمد مرسى من وقوع العنف بمظاهرات يوم 30 يونيو، مؤكدا وقتها أن المتأمل فى الشارع المصرى يجد أن هناك غليانا فى أنحاء الجمهورية، وناشد سلامة عبر بيان أصدره تحت عنوان «وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ» الرئيس محمد مرسى الحفاظ على تاريخ جماعته وأن يصدر قراراً بتشكيل مجلس رئاسى يتكون من 11 فرداً أحدهم يرشح من قبل المجلس الأعلى للقوات المسلحة وآخر من المجلس الأعلى للقضاء والتسعة الباقين يأخذ قراراً بفتح باب الترشيح لمن يريد أن يكون عضواً فى المجلس الرئاسى لمدة أسبوع ويجرى الاستفتاء عليهم فى مدى أسبوع آخر لإدارة البلاد وإنقاذها من هذه الفترة العصيبة من حياة مصر دون إراقة دماء، ووجه سلامه رسالة إلى مرسى وذكره بالملك فاروق الذى تنحى عن عرش مصر دون إراقة دماء فتنحى الملك فاروق حرصاً منه على كل قطرة دم تراق من شعب مصر، كما أن مبارك هو وكل من كان حوله ممن كانوا يتنازعون على الحكم عندما أيقنوا أن الشعب حسم أمره تنحى مبارك منعا لإراقة المزيد من الدماء. وإن كان تأخير إلا أنه لم يحاول تحريض الحزب الوطنى أو غيره بمواجهة الشعب، كما لم يسعى لتحريض الغرب وأمريكا على مصر، أو يحرض على جيشها. مثلما فعل مرسى والإخوان. مع الأخذ فى الاعتبار أن الفساد فى عهد مبارك كان سببا فى الكثير من المآسى، تماما مثل الملك فاروق، الذى خرج وهو يوصى اللواء محمد نجيب بالجيش خيرا، وقال لهم «خلوا بالكم من الجيش.. وخلوا بالكم من مصر». وهو درس آخر لا يبدو أن مرسى وجماعته تعلموا منه شيئا، ويصرون على التحالف مع الإرهاب فى الخارج والداخل، والتحريض والدعوة للتدخل الأجنبى من أجل السلطة ولا يهم ما يراق من دم.










المصدر اليوم السابع


تعليقات

المشاركات الشائعة