«الوطن» ترصد «حكايات صغيرة» من قلب القتل والاعتقال: أطفال سوريا.. «زهور» تحرقها الحرب

مركز «مستقبل سوريا» لتأهيل ضحايا الحرب: التبول اللاإرادى وقلة النوم والعزلة.. أكثر الأمراض النفسية عند الأطفال
جلست هى وأخواتها الـ4 خلف ساحة المنزل، تلعب وتلهو معهن لحين انتهاء الوالدين من تجهيز الإفطار؛ فساعة واحدة هى التى تفصلهم عن أذان المغرب، الأطفال يمرحون ويقهقهون فرحاً منتظرين مدفع الإفطار، لكن مدفعاً آخر هو الذى داهم منزلهم، ليتسمر الجميع فى مكانه، وتهرول الفتاة الكبيرة لتطمئن على والديها لكن أقاربها منعوها من الذهاب، ليزفوا إليها بعد ذلك نبأ استشهاد والديها وانتقال روحيهما إلى الرفيق الأعلى.
لم تعرف الصغيرة ماذا تفعل وقتها، سوى احتضان أخواتها الأربع؛ فهى الفتاة الكبيرة رغم أن عمرها لم يتجاوز الـ12 ربيعاً، ليقرر جدها الذى جاوز عمره الثمانين مغادرة قريتهم، الأحراك الواقعة فى محافظة درعا، والتوجه إلى الأردن، بعدما ترك اثنتين من أخواتها فى رعاية عمهما الذى عرض على الجد أن يتولى رعاية اثنتين من الأطفال حتى لا يكون العبء على الجد كبيراً، خاصة أنه لم يُرزق بأطفال طوال فترة زواجه.
«رقية» فقدت يدها اليسرى و3 من أخواتها فى قذف صاروخى.. ورأت أختها التى تصغرها «مفتتة» بجوارها على سرير المستشفى
وجدت الصغيرة «حنين» نفسها تودع أختيها «ريم»، 11 عاماً، و«رنيم»، 9 سنوات، وتطبع قبلتين على جبين كل واحدة منهما ولا تعرف إذا كانت ستراهما مجدداً أم لا، ثم خرجت بصحبة جدها متجهين إلى منطقة الشجرة الواقعة فى محافظة الرمثا الحدودية، وتمر شهور تسعة على «حنين» هى وأختيها «لجين»، 4 سنوات، و«تسنيم»، 6 سنوات، دون أن تعرف شيئاً عن أختيها فى الداخل السورى سوى سماع صوتيهما على فترات متتالية.
«حنين» كانت أكثر حظاً من أقارنها السوريين؛ حيث تمكنت من اللحاق بمقعد فى المدارس الأردنية وواصلت تعليمها، تذهب إلى المدرسة يومياً تقابل العشرات من فتيات بلدها سوريا، يجدن فى لغتهن وعاداتهن الوطن المفقود، تهمس كل فتاة فى أذن الثانية محاولة أن تذكرها بشىء عن سوريا، ينتظرن حتى ينتهى الدوام من الدراسة، يتأكدن أنهن ابتعدن عن المدرسة، لتبدأ كل فتاة بقص حكاياتها داخل بلدتها وسبب وجودها فى الأردن، تقول «حنين»: «نخاف أحكى شىء عن اللى صار معى فى سوريا وأن تسمعنا مديرة المدرسة وتبلغ الأمن».
خوف «حنين» من أن يسمعها أحدهم نابع مما رأته على أيدى الأمن السورى، الذى ظل يطارد والدها الذى كان يعمل موظفا فى إحدى المصالح الحكومية وقام بتمزيق صورة بشار الأسد لتشى به زميلته الموظفة لدى الأمن ويظل مطارَداً حتى يوم استشهاده، قائلة: «الأمن كان كل شوية يفوت على البيت يسأل عن بابا.. مرة فات يجيب خبز، سألونى عليه قولنا إنه فى الدوام ما صدقونا، قالوا لماما دقى عليه وجيبى التليفون لحنين وقالوا لى أقوله تعال بدنا نعرف، بابا ساعتها فهم إن الأمن عاوزه وسكر التليفون».
علامات الخوف ما زالت مرتسمة على وجه الصغيرة وهى تسرد ما تعرضت له: «الأمن قال لماما إنه هياخد البنات لو ما جاش، ساعتها صرت أبكى وقولت لهم إنه فى الفرن، سألونى وين الفرن قولت أنا ما بعرف، فتشوا البيت وكسروا كل شىء لحد ما تركونا، وساعتها دقيت على بابا وقولنا له يترك الفرن لأن الأمن بالطريق». أكثر ما يؤلم الصغيرة كان يوم استشهاد والديها، داهم الأمن المنزل بحثاً عن والدها «مهند»، ورغم أن الأهل أخبروا الأمن بأن «مهند» توفى هو وزوجته فإنهم لم يصدقوهم، مرددة: «فات الأمن على بيتنا وسأل عن بابا أخبرناهم أنه توفى وتم دفنه ولو عايزينه يذهبوله إلى القبر، فتشوا البيت فلم يجدوه وسألوا عن سبب الوفاة، خوفنا من إننا نقول إنهم ماتوا فى القصف عشان ما ياخدوش الجثث ويكبوها، قولنا لهم سقطوا من فوق البيت».
ما زالت الصغيرة تعيش على أمل واحد هو العودة إلى بيتها المهدم فى سوريا، لا ترغب فى شىء سوى رؤية أختيها وأن يجمع الله شملهن، تعلم أنها لن ترى والديها مرة أخرى، لكن ضحكة أخواتها ستكون كفيلة بمرور الأيام، تأمل من الله أن تصبح ذات يوم «معلمة» لكى تعلم الأطفال الصغار المعاناة التى تعرض لها شعب بأكمله، ليصبحوا قادرين على مواجهة أى حاكم طاغٍ.
تمسك بهاتفها المحمول، تقلب بين ملفات الصور التى تحتفظ بها على ذاكرة الهاتف، وتحتفظ معها بذكريات لن تقدر الأيام على محوها، تبتسم وهى تظهر لك صورة تجمع بينها وبين أخواتها: هند (6 سنوات) وأسماء (4 سنوات) وماريا (عام ونصف العام)، وهى تحتضنهن داخل حديقة منزلها بقرية الأحراك السورية. لم تنتهِ من التقليب بين الصور حتى تتوقف أمام صورة لا يظهر منها سوى أطفال تتوسطهم والدتهم غارقين فى الدماء، تعلق عليها قائلة: «هاى صورتى أنا وأخواتى وماما ساعة لما ضرب علينا صاروخ بعد خروجنا من الملجأ».
«حنين» فقدت والديها بقذف صاروخى على منزلها فى رمضان.. وتتمنى العودة إلى سوريا لرؤية أختيها
تكشف عن ذراعها اليسرى، محاولة تفسير فقدانها إياه: «كنا فى رمضان قبل اللى فات، يوم 4 رمضان، صار قصف على المدينة وجرينا تخفينا فى الملجأ وبعد ما الدنيا صارت هدوء خرجنا أنا وأخواتى التلاتة وماما وخالتى كان صار لها 40 يوم والدة ومعها ابنها».
تلملم الفتاة ذكرياتها فى هذا اليوم: «طالعين من الملجأ اتقذف علينا صاروخ، الشظية طارت واتبترت إيدى الشمال وأمى اتبترت رجلها وخالتى استشهدت مع ولدها، وأخواتى التلاتة استشهدوا، أنا ما حسيت بشىء قمت لقيتنى فى المشفى وشوفت أختى هند على تخت المشفى صرت أصيح لقيتها متفتتة».
ظلت الفتاة بعد الحادث فى سوريا، قامت خلالها بإجراء عمليتين جراحيتين، بعدها توجهت إلى الأردن لإجراء جراحة ثالثة لها، ومن وقتها وهى لا تغادر منزلها الذى استأجره أهلها فى محافظة إربد الأردنية إلا وقت ذهابها للمدرسة، مرددة: «إحنا مش هنقدر نعيش فى إربد وهنرجع على مخيم الزعترى آخر الشهر عشان ما بقاش معنا مصارى ولا فى حدا بيسأل عنا».
لم يكن مشهد استهداف «رقية» وعائلتها الصغيرة هو المشهد الذى يؤلم الفتاة، صاحبة الأعوام الـ13؛ فصوت الطائرات التى كانت تحلق فوق منزلها كانت تصيبها بخوف شديد، خاصة أن هذه الطائرات، بحسب قولها، تستهدف المدنيين من خلال قذفهم بما يسمى البراميل المتفجرة، وهى براميل تحتوى على كميات كبيرة من مادة «TNT» المتفجرة التى يؤدى سقوطها على المكان إلى حدوث كارثة إنسانية كبيرة، وهو ما تعرض له ابن خالتها الذى أصيب بشظايا من البراميل المتفجرة أدت إلى وجود فتح كبير فى العمود الفقرى وخروج أحشائه.
«رقية» ما زالت تطرح عدة تساؤلات لا تجد عنها إجابة حتى هذه اللحظة، لا تعلم ماذا ارتكبت هى وأخواتها كى يحرمها نظام «الأسد» منهن وتظل وحيدة بصحبة والدتها التى فقدت رجلها بسبب القذف الصاروخى، كل ما تفعله هو الجلوس ممسكة بهاتفها مقلبة بين الصور تتوقف طوال اليوم أمام صورتها التى تجمعها هى وأخواتها الثلاث.
سنوات عمره لا تتعدى أصابع اليدين، يشيع البهجة والفرح فى أى مكان يذهب إليه، تجده يثب يميناً ويساراً، وبمجرد أن يشعر بالتعب أو الإرهاق، لا يجد حرجا فى أن يخلع عنه قدمه الاصطناعية اليمنى ويضعها أمامه، يرحب بك على طريقته السورية، مؤكداً سوريته التى خلعها عنه نظام «الأسد» عندما واجهته صحفية فى «صانداى تايمز» بصور لـ«عمار» الذى يرقد مغشياً عليه فى أحد المستشفيات وقد بترت يده وقدمه اليمنى قائلاً لها: «هل هو سورى؟».
واجه أهالى الطفل إنكار بشار الأسد له بغضب شديد، خاصة أنهم فقدوا 6 أطفال من العائلة أثناء القصف الذى تعرضت له قريتهم «الأحراك» التابعة لمحافظة درعا بجنوب سوريا خلال شهر يوليو من العام الماضى، وخرج الطفل الصغير صاحب الأعوام السبعة فى مقطع فيديو قصير على موقع «يوتيوب» متحدياً بشار الأسد وموجهاً رسالة إليه قال فيها: «أنا سورى غصب عنك يا بشار». الضجة التى أثارها سؤال بشار الأسد عن جنسية الطفل وصل صداها إلى السوريين بالخارج، لدرجة جعلت إحدى الطبيبات المقيمات فى فرنسا تقدم دعوة سفر إلى الطفل وإجراء عملية جراحية فى قدمه وتركيب طرف صناعى يساعد الطفل الصغير على استكمال علاجه.
يحكى «عمار» ما تعرض له بسبب القصف المستمر على مدينته بالأحراك، وكأنه يقص عليك قصة قصيرة، قائلاً: «إحنا كنا فى الملجأ، طلعنا ع الحمام طلعنا من الحمام آجى علينا الصاروخ وبعدين وقعنا من ع الأرض ولما فُقت لقيت نفسى فى المشفى وعملوا لى عمليات وبعدين انقطعت إيدى من هون وبعدين طلعنا ع الأردن وعالجونى وبعدين طلعت على فرنسا وركبولى ها الرجل، والإيد هيركبولى لما يصير عندى 15 سنة».
لا ينسى «عمار» ما قاله «الأسد» عنه، وهو ما رد عليه: «أنا هاقطع لبشار إيده ورجله، أنا أول ما قمت فى المستشفى صرت أبكى، نفسى لما أكبر أصير دكتور للإيد والأرجل عشان أعالج الأطفال اللى متلى».
مشاكل نفسية وصحية كثيرة يواجهها قرابة المليون طفل سورى نازح إلى الأردن، بعضهم يعيش داخل مخيم الزعترى ويتلقى مساعدات نفسية وصلت إلى 167 ألفا بحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، بالإضافة إلى المساعدات النفسية التى قدمتها منظمات المجتمع المدنى المشكلة من مجموعة من السوريين داخل الأردن، خاصة المحافظات التى تشهد وجوداً كبيراً للسوريين داخلها.
داخل محافظة «إربد» الأردنية المكتظة بمئات الآلاف من السوريين، وعلى مقربة من شارع الجامعة، اجتمع مجموعة من الشباب السورى المتطوعين فى مجال حقوق الإنسان داخل إحدى الشقق السكنية تحت مظلة جمعية أطلقوا عليها «مستقبل سوريا الزاهر»، يقسمون أنفسهم على مجموعات ما بين تعليم الأطفال الذين لم يجدوا فرصهم فى المدارس وتأهيل من تعرضوا لأحداث عنف داخل سوريا.
«عمار» طفل فقد قدمه ويده فى هجوم على مدينته.. و«الأسد» ينزع عنه سوريته بعدما واجهته مراسلة إنجليزية بصوره
فى العاشرة صباحاً كان تجمعهم فى المركز، أطفال تتراوح أعمارهم بين 7 و13 ربيعاً، يأخذون مقاعدهم حول مدرستهم، بعضهم من بلدة واحدة، والبعض الآخر رماه القدر من بلدات مجاورة، لكنهم اشتركوا فى شىء واحد، ظهر من خلال الرسومات التى قاموا بها، بعدما طلبت منهم «آنستهم»، أى مدرستهم، رسم الأشياء التى يخافون منها. جاءت الرسومات متشابهة لا تخرج عن كونها رسومات لدبابات رُفع عليها علم الجيش النظامى وهو يقصف تارة البيوت وتارة أخرى المنازل وثالثة المساجد، أطفال ممسكون بأيدى عائلاتهم يهرولون ناحية «الميكرو»، أى الأتوبيس، بعدما سقط أقاربهم، محاولين الهرب من القصف، ومواجهات بين الجيش النظامى والجيش الحر لا يذهب ضحيتها سوى أطفال ملقيين على الأرض.
تبدأ جلسة التأهيل النفسى وتبدأ معها «الآنسة» فى سؤال الأطفال عن المشاهد التى تعرضوا عليها وما هى أكثر الأشياء التى يخافون منها، يجيبونها فى صوت واحد: «صوت الطائرة»؛ فهى إن قذفت منطقة بالبراميل المتفجرة دمرتها وسوتها بالأرض، وآخرون يقولون إنهم يخافون من شظايا الهاون؛ لأنها تقتل من يقف إلى جوارها. تطلب «الآنسة» من الصغار أن يغمضوا أعينهم ويأخذوا نفساً عميقاً ثم تطلب منهم أن يحلموا ويروا أمامهم ما يريدون رؤيته، تقول لهم: «هل رأيتم الفراشات؟ ما أحلاها»، يغمض الأطفال عيونهم وكأنهم يحلقون فى السماء ثم بعد وقت يفتحونها ويخبرون الآنسة بما رأوا، بعضهم أخبرها بأنه حلم بالعودة إلى سوريا وهو يلعب فى ساحة المنزل، والبعض الآخر رأى مدرسته قد عادت أفضل مما كانت عليه، والثالث قد رأى والده عاد من الحرب سالماً دون أن يصيبه أذى.
محاولات لاعادة تاهيل الاطفال السوريين
استقبلت «الآنسة» هذه الأحلام وهى تنصت لهم باهتمام شديد، وأخبرتهم بأنهم إذا شعروا بخوف أياً ما كان مصدره فليس عليهم سوى أن يغمضوا عيونهم ويأخذوا نفساً عميقاً ويتخيلوا الأشياء التى يريدون رؤيتها وتحقيقها ثم تطلب منهم أن يعيدوا التمرين مرة أخرى لتنتهى الجلسة بعدما توزع عليهم قطع الحلوى وتخبرهم بأنها سوف تنتظرهم الأسبوع المقبل فى نفس الميعاد.
سناء الوادى، أو «الآنسة» كما يناديها الأطفال، واحدة من بين المتطوعات فى مشروع «الأطفال والحرب» لتأهيل الأطفال الذين تعرضوا لمشاكل نفسية نتيجة لما عايشوه خلال أحداث الثورة بالداخل، قالت: «أغلب الأطفال السوريين يعانون صدمات نفسية واضطرابات وعصبية زائدة وانفعالات تظهر فى التبول اللاإرادى والقلق المستمر وعدم القدرة على النوم المتواصل، بالإضافة إلى العزلة ورفض الأطفال الذهاب إلى المدارس».


وأضافت: «عملنا من خلال المركز على تدشين برنامج يسمى (الأطفال والحرب) للأطفال الذين تعرضوا لصدمات نفسية عنيفة من خلال مشاهد عنف عايشوها فى الداخل السورى، وقام فريق الدعم النفسى بزيارة السوريين لعمل مسح عن الأطفال وعائلاتهم وعن البرامج التى يحتاجونها لإعادة دمجهم فى المجتمع بشكل طبيعى، وبدأ وضع برامج تأهيل خاصة بالمرأة لكيفية التعامل مع طفلها الذى ربما شاهد أشخاصا يموتون حوله مثل أطفال حمص أو الذين تعرضوا لفقد أعضائهم».


المصدر الوطن




تعليقات

المشاركات الشائعة