المعونات الأمريكية.. تاريخ طويل من الابتزاز.. «واشنطن» سعت لاستقطاب ثوار يوليو مبكرا بالمساعدات الاقتصادية وحصلت على امتيازات كبيرة مقابلها
ترتبط «المعونة الأمريكية» فى أذهان الكثيرين بمعاهدة السلام بين مصر والكيان الصهيونى التى عقدها الرئيس الراحل أنور السادات مع الإسرائيليين برعاية أمريكية، لكن ذاكرة تاريخ العلاقات المصرية الأمريكية ارتبطت بمواقف تتعلق بتلك المساعدات، منذ أن حاولت الولايات المتحدة استخدامها كورقة ضغط لدى تقديمها لمصر فى عام 1953، وبحسب تاريخ هذه المعونة فإنها بدأت بشحنات من القمح تلقتها حكومة الثورة، فى إطار مشروع النقطة الرابعة الذى أعلنه الرئيس الأمريكى هارى ترومان كإطار لبرنامج للمعونات والموجه من الولايات المتحدة إلى الدول النامية، وذلك فى سياق التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، فيما كان واضحا أن واشنطن تسعى لاستقطاب ثوار يوليو، الذين أظهروا مبكرا، وعلى رأسهم جمال عبدالناصر، عداءهم للاستعمار والإمبريالية.
أولى الصدامات بدأت حين أصدر عبدالناصر قراره التاريخى بتأميم قناة السويس فى عام 1956 بعد أن رفضت الولايات المتحدة والبنك الدولى تمويل المشروع المصرى لإنشاء «السد العالى» وردت واشنطن بتجميد معوناتها الاقتصادية لمصر عقابا لناصر.وعادت الأوضاع تتحسن تدريجيا بين مصر والولايات المتحدة بعد عامين من حرب 56، إذ وقعت حكومة الرئيس الأمريكى أيزنهاور ثلاث اتفاقيات تجارية مع مصر بقيمة 164 مليون دولار، وفى عام 1962 أوصى الاقتصادى البارز إدوارد ماسون حكومة الرئيس جون كنيدى باستمرار المساعدات، وكان الهدف الأمريكى من ذلك هو التصدى للتوجه المصرى نحو الكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفيتى فى ذلك الوقت، ليأتى قرار الرئيس جمال عبدالناصر بإرسال قوات مصرية لدعم الثورة فى اليمن كسبب جديد لقرار أمريكى آخر بوقف المساعدات الاقتصادية لمصر، وازداد الأمر سوءا مع المظاهرات التى اندلعت فى مصر عام 1964 والتى اتهمت الولايات المتحدة بالتورط فى حادث مقتل الزعيم الكونغولى بياتريس لومبوما، وبدا أن الولايات المتحدة تساوم الزعيم المصرى على استئناف المساعدات لدعم مشروعاته التنموية ليرد «ناصر» بخطابه الشهير فى 23 ديسمبر 1964 والذى قال فيه: «إذا كان الأمريكان بيفهموا أنهم يبدونا المعونة عشان ييجوا يتحكموا فينا ويتحكموا فى سياستنا أنا بقول لهم إحنا متأسفين، إحنا مستعدين نقلل من استهلاكنا فى بعض حاجات ونحافظ على استقلالنا استقلال خالص وإذا كان سلوكنا مش عاجبهم أنا باقول اللى سلوكنا مش عاجبه يشرب من البحر».
فى العام التالى وبعد تطورات شملت توقفت شحنات السلاح المصرية إلى الكونغو وتوقيع اتفاقية وقف إطلاق النار فى اليمن، ووقعت القاهرة وواشنطن اتفاقيتين تمنح بموجبهما أمريكا 65 مليون دولار لمصر فى شكل معونات، لكن عبدالناصر عاود رفضهما بسبب ما تضمنتاه من قيود على مصر، وقال فى تصريح آخر شهير: إن الحرية التى اشتريناها بدمائنا لن نبيعها بالقمح أو الأرز.. لقد أوقفوا معونات القمح الأمريكية لأننا نتحدث عن إسرائيل ونفكر فى إنتاج الصواريخ والأسلحة الذرية.
تفاقمت حالة العداء بين القاهرة وواشنطن مع حرب 1967 وظلت العلاقات مجمدة حتى اندلعت حرب أكتوبر 1973، وبدأت مياه جديدة تجرى فى نهر العلاقات بين البلدين فى ظل وجود وزير الخارجية الأمريكى هنرى كيسنجر الذى اقترح فى عام 1974 إرسال كميات من القمح إلى مصر بعد أن بدأ كيسنجر فى رعاية اتفاقيات التهدئة بين مصر والكيان الصهيونى، ومع توقيع اتفاقية «كامب ديفيد» عام 1979 صارت المعونات الأمريكية بشقيها العسكرى والاقتصادى جزءا من الضمانات الأمريكية للاتفاق بين القاهرة وتل أبيب، حيث أعلن الرئيس الأمريكى فى ذلك الوقت جيمى كارتر، تقديم معونة اقتصادية وأخرى عسكرية سنوية لكل من مصر وإسرائيل، تحولت منذ عام 1982 إلى منح لا ترد بواقع 3 مليارات دولار لإسرائيل، و2.1 مليار دولار لمصر، منها 815 مليون دولار معونة اقتصادية، و1.3 مليار دولار معونة عسكرية، لتمثل المعونات الأمريكية لمصر %57 من إجمالى ما تحصل عليه من معونات ومنح دولية، من الاتحاد الأوروبى واليابان وغيرهما من الدول، فيما لا يتجاوز مبلغ المعونة %2 من إجمالى الدخل القومى المصرى.
دوائر صنع القرار فى واشنطن أصبحت تتعامل منذ ذلك الوقت مع المعونة معها على أنها أداة ضغط فعالة للتدخل فى القرار المصرى، وهو ما تكرس مع حكم الرئيس المخلوع حسنى مبارك، ومع فرض شروط أمريكية قبلت بها حكومات مبارك كاملة لاستمرار المعونات، وبينها اشتراط تحرير تجارة القطن وخفض التعريفة الجمركية على واردات الأسمدة وتخلى الحكومة عن سيطرتها على محصول قصب السكر ومصانع الغزل والنسيج وغيرها من التدخلات الأمريكية فى الاقتصاد المصرى، وعلى رأسها استخدام أموال المعونات فى تمويل شراء سلع وخدمات أمريكية وشحن «%50» من السلع والمهمات من ميناء أمريكى وعلى سفن أمريكية والاستعانة ببيوت الخبرة الأمريكية لتقديم الخدمات الاستشارية اللازمة لتنفيذ المشروعات.
وفى أعقاب ثورة يناير وبعد إثارة قضية التمويل الأجنبى لمنظمات المجتمع المدنى وتوجيه الاتهامات لنشطاء بينهم أمريكيون بالإضرار بالأمن القومى المصرى وإغلاق مكاتب لمنظمات حقوقية أمريكية فى مصر لوحت الولايات المتحدة بقطع المساعدات، وسرعان ما تراجعت لتقرر قبل يومين تعليقها حتى انتخاب حكومة جديدة فى مصر بشكل ديمقراطى، وبدا واضحا أن القرار الأمريكى جاء كرد فعل على رفض الجانب المصرى تدخلاتها فيما يتعلق بخارطة الطريق التى تتبناها الدولة المصرية حاليا بعد إسقاط نظام الرئيس السابق محمد مرسى وجماعة الإخوان التى بدا أن علاقات استراتيجية وقوية تربطها بإدارة الرئيس الأمريكى باراك أوباما.
ولأن مصر هى المتلقى فإن هناك اعتقادا بأنها ستكون المتضرر من قطع المعونات، لكن خبراء يشيرون إلى أن الولايات المتحدة حصدت الكثير من المكاسب جراء تلك المعونات، ومن ذلك تعزيز وحماية الأهداف والمصالح الاستراتيجية الأمريكية فى المنطقة، والسماح لطائرات الولايات المتحدة العسكرية بالتحليق فى الأجواء العسكرية المصرية، ومنحها تصريحات على وجه السرعة لمئات البوارج الحربية الأمريكية لعبور قناة السويس، إضافة إلى التزام مصر بشراء المعدات العسكرية من الولايات المتحدة، حيث قدمت أمريكا لمصر حوالى 7.3 مليار دولار بين عامى 99 و2005 فى إطار برنامج مساعدات التمويل العسكرى الأجنبى، وأنفقت مصر خلال نفس الفترة حوالى نصف المبلغ، أى 3.8 مليار دولار لشراء معدات عسكرية ثقيلة أمريكية.
ويقول الخبراء إن الولايات المتحدة كانت تستهدف بمساعداتها الحفاظ على استقرار العلاقة بين مصر وإسرائيل، حتى أن الأسلحة التى يتم توريدها للجيش المصرى بمقتضى هذه المساعدات تصاحبها عقود تحظر استخدام هذه الأسلحة ضد إسرائيل، ولذلك كان من الطبيعى أن ينتاب الدوائر العسكرية والسياسية فى تل أبيب قلقا شديدا جراء القرار الأمريكى الأخير حتى أن مسؤولين فى الكيان الصهيونى اعتبروا أن واشنطن تضع معاهدة «كامب ديفيد» بقرارها ذلك فى «مهب الريح».
فضلا على التدخلات الأمريكية فى الشؤون السياسية والاقتصادية لمصر طوال «سنوات المعونة» فإن شقا سلبيا وخطيرا للغاية كان يتضمنه الجانب العسكرى من المعونة، ويتمثل فى أن أمريكا هى من يحدد نوعية تسليح الجيش المصرى، وهو ما يدفع خبراء للتأكيد على أن الفرصة صارت مواتية لصانع القرار المصرى للتخلص من ذلك القيد، ولتلوح فى الأفق بوادر قرار مصرى جديد بتغيير مصدر توريد السلاح للقاهرة، يعيد بذلك إلى الأذهان وإلى الشعور القومى المصرى أجواء قرار عبدالناصر فى عام 1955 بشأن صفقة الأسلحة التشيكية، والذى أنهى احتكار المعسكر الغربى للسلاح، وأعطى العالم الثالث فرصة جديدة للانطلاق بناء الجيوش الوطنية، وليتبقى أن مصر تظل دائما فى حاجة إلى تبنى مشروع قومى للتنمية تسخر له كل إمكانيات وموارد الدولة لبناء استقلال اقتصادى حقيقى يدعم طموحات الشعور القومى لدى المصريين فى إنهاء الحاجة إلى أية مساعدات من أى طرف خارجى.
المصدر اليوم السابع
تعليقات
إرسال تعليق