رسائل عيد العلم

المصدر الاهرام . بقلم علاء ثابت . مقالات
وحده الاحتفال بعيد العلم يشعرنا بأننا إزاء احتفال مختلف عن كل الاحتفالات التي نشهدها في مناسبات عديدة. فحضور احتفال وسط كوكبة من قامات مصر العلمية شيوخا وشبابا وهم يكرمون من رئيس الدولة يبعث على الشعور بالفخر والاطمئنان لمستقبل هذا الوطن. فتلك القامات هي القادرة على تأمين مستقبل ذلك الوطن، والاستثمار فيهم وتهيئة المناخ المناسب لهم أهم المداخل للتعامل مع التحديات الكثيرة التي تواجهها مصر. ومما لا شك فيه أن احتفال مصر بعيد العلم يوم السادس من أغسطس الحالي هو تأكيد على إصرار الدولة على إحياء ذلك الاحتفال بكل ما يحمله من تقدير للعلم وللعلماء، خاصة بعد أن كاد يغيب هذا الاحتفال - الذي بدأ منذ عام 1944 - نتيجة توجهات خاطئة من بعض الحكومات في مرحلة ما قبل ثورة يناير 2011. وكما هو الحال في كل الاحتفالات فإنه إلى جانب التكريم عادة ما تكون هناك رسائل يحرص الرئيس على توجيهها للرأي العام. وفي هذا الاحتفال غابت تقريبا الرسائل السياسية، إذ بدا الرئيس السيسي حريصا على ألا تطغى رسالة على هدف الاحتفال وهو تقدير العلم والعلماء، وأن تتصل كل الرسائل من الاحتفال بالعلم والبحث العلمي ومستقبله.

ومن خلال متابعتي لوقائع الاحتفال ومراجعة كلمة الرئيس فيه، أستطيع القول إن ثمة رسائل سواء مباشرة أو غير مباشرة تقتضي ضرورة الالتفات إليها والاستفادة منها, للخروج بتقييم واضح لعلاقة الدولة بالبحث العلمي حاليا. إنها باختصار تمثل ملامح رؤية الدولة لتفعيل البحث العلمي. أولى تلك الرسائل هي أن مصر لم تعد تملك ترف الاستمرار دونما إعادة الاعتبار لقيمة العلم وأهمية البحث العلمي, وتقدير العلماء وتوفير المناخ المناسب لهم, والاستفادة من عطائهم في المجالات المختلفة, في ظل الظروف الراهنة التي تمر بها. وهنا قال الرئيس «نجد أنفسنا أمام ضرورة حتمية تقضي بأن يتبوأ العلم مكانته في بلادنا, ويصبح على قمة هرم أولوياتنا ومنظوماتنا القيمية كثقافة, ومنهج تفكير, وليس فقط كممارسة عملية».

الرسالة الثانية هي تأكيد وجود ما سماه العالم الكبير الدكتور أحمد زويل «إرادة البحث العلمي» لدى الدولة منذ ثورة 30 يونيو. وهي الإرادة التي اعتبرها الدكتور زويل العامل الأهم على الإطلاق فيما يتعلق بالبحث العلمي، مؤكدا أنها أهم من توافر الدعم المالي للبحث العلمي، بل إنه اعتبر أن الحديث عن الإمكانات المادية الباهظة للبحث العلمي أكذوبة كبري، طبقا لما ذكره الدكتور مصطفى الفقي في إبريل الماضي. وفي الواقع فإن غياب تلك الإرادة قد أدى إلى تحول الحديث عن أهمية البحث العلمي والاحتفاء بالعلماء والمبدعين لمجرد شعار رفعته بعض الحكومات خلال العقود الماضية، وهو الأمر الذي يعد بلا شك أحد أسباب تراجع البحث العلمي في مصر وبالتالي انخفاض نسبة مساهمته في جهود التنمية.


الرسالة الثالثة والتي ما كانت لتأتي لولا توافر الإرادة الجادة، هي إصرار الدولة على تقديم دعم حقيقي وليس «شعاراتي» للبحث العلمي. وذلك من خلال اتخاذ حزمة من القرارات غير المسبوقة بشأن البحث العلمي. إذ أعلن الرئيس أن حجم الإنفاق على البحث العلمي قد تضاعف تقريبا خلال السنوات الثلاث الماضية، إذ ارتفع من 11.8 مليار إلى 17.5 مليار. مضاعفة حجم الإنفاق على البحث العلمي في ظل الضغوط الاقتصادية التي تواجهها مصر يؤكد, بما لا يدع مجالا للشك, إيمان الرئيس والدولة بقيمة البحث العلمي واستعدادهما لتوفير التمويل اللازم له مهما كانت التحديات. وجدير بالذكر هنا أن إدراك الرئيس لحتمية دعم البحث العلمي وتفعيل دوره ومضاعفة حجم الدعم الموجه له ليواكب النسب العالمية التي تتراوح بين 2% و4% من إجمالي الدخل القومي لم يكن وليد اليوم، إذ سبق للرئيس أن أعرب في لقاء له مع الصحف القومية في نهاية ديسمبر 2014 عن تطلعه لمضاعفة الإنفاق على البحث العلمي 10 مرات. وفي هذا السياق، جاء الإعلان أيضا عن إنشاء أربع جوائز جديدة للإبداع، وإنشاء صندوق لرعاية شباب المبتكرين.
وهنا لابد من التوقف عند قرار الرئيس بدعوة المجتمع المدني والقطاع الخاص للمشاركة في صندوق رعاية شباب المبتكرين ودعم إنشاء المدينة المصرية للعلوم والتكنولوجيا والابتكار بالعاصمة الإدارية الجديدة. فالرئيس يدرك حجم الأموال المطلوبة لمثل ذلك الصندوق حتى يكون قادرا على تأدية المهمة الموكلة إليه، ويدرك أن توفير تلك الأموال من موازنة الدولة سيزيد من أعبائها, وربما لا يضمن للصندوق الاستمرارية، فجاءت دعوة القطاع الخاص والمجتمع المدني للمشاركة في تحمل تلك المسئولية، انطلاقا من مبدأ الرئيس الثابت منذ البداية وهو ضرورة تضافر كل الجهود لإنجاز الأهداف والمشاريع الوطنية، ودعوته وترحيبه المستمر بمشاركة القطاع الخاص في جهود التنمية التي تقوم بها الدولة.
 وبالتأكيد فإن مشاركة القطاع الخاص في هذا المجال ستسهم في إيجاد «الجسر» أو حلقة الوصل المفقودة بين البحث العلمي والمؤسسات الإنتاجية. إذ أدى غياب تلك الحلقة إلى إهدار الكثير من الجهود والأفكار التي يطرحها الباحثون والعلماء, وإبقائها حبيسة الأدراج في مؤسسات البحث المصرية. والأهم من ذلك أن مشاركة القطاع الخاص في رعاية الصندوق ستفتح الباب على مصراعيه للتفكير في إنشاء وتطوير آليات لتسويق أفكار واختراعات الباحثين لدى المستثمرين ورجال الأعمال بما يعطيها الفرصة لترى النور. وبما أننا نحتفل هذه الأيام بذكرى افتتاح قناة السويس الجديدة التي مولها الشعب المصري في سابقة لم تشهدها دولة أخرى، فإنني أعتقد أن استجابة القطاع الخاص والمجتمع المدني لدعوة الرئيس لن تقل عن استجابة المصريين لدعوته بتمويل مشروع القناة.
الرسالة الرابعة هي الدعوة لاستنفار عقول الباحثين والعلماء نحو مزيد من التفكير والابتكار والأبحاث العلمية التي من شأنها رفع ترتيب مصر في مجال النشر العلمي المرموق والمساهمة في مواجهة تحديات ومعضلات اللحظة الراهنة بأقل التكاليف، والأهم رفع حالة الاستعداد لمواجهة تحديات المستقبل، فالمستقبل أو الغد كما قال الرئيس أشد بأسا من الأمس. إذ ركز الرئيس في كلمته على الأمل المعقود على علماء مصر وشبابها من الباحثين لتوفير ممر آمن لها إلى المستقبل. إنها رسالة تقدير وأمل كما أطلق عليها الرئيس في كلمته.
الرسالة الخامسة هي أن وضع مصر على خريطة البحث العلمي عالميا لا يتناسب وقدرات وطموحات مصر الجديدة، وأن مصر التي كانت منذ فجر الحضارة الإنسانية مهدا لفكرة العلم ذاتها تستحق موقعا على تلك الخريطة يختلف تماما عن موقعها الحالي. ولذلك فإن الدولة تبنت إستراتيجية واضحة لتغيير الوضع الراهن للتعليم والبحث العلمي في مصر. وهي الإستراتيجية التي بدأها الرئيس فور توليه المسئولية بإعلانه عن مبادرة  «نحو مجتمع مصري يتعلم ويفكر ويبتكر»، في عيد العلم عام 2014. والتي جاء في إطارها أيضا إنشاء مجالس مثل مجلس خبراء وعلماء مصر، والمجلس التخصصي للتعليم والبحث العلمي التابعين لرئاسة الجمهورية، إضافة إلى إنشاء «بنك المعرفة» المصري في منتصف نوفمبر 2015، ثم إطلاق فكرة مؤتمر علماء مصر بالخارج الذي انعقدت دورته الأولى في ديسمبر الماضي.

وأخيرا، فإنه من الأهمية بمكان التأكيد على أنه كي تكتمل منظومة دعم البحث العلمي في مصر فإنه لابد من نشر ثقافة البحث والتفكير العلمي وتقدير العلم لدى الرأي العام. وهنا يأتي دور الإعلام. وبكل صراحة فإن دور الإعلام في دعم البحث العلمي وتوجه الدولة في هذا الإطار يبدو غائبا، بل ومعرقلا في كثير من الأحيان. فحين تغيب قضايا البحث العلمي وأفكار ومنجزات الباحثين والعلماء والاحتفاء بهم عن خريطة الإعلام مقابل إفساح المجال لقضايا وشخصيات أقل قيمة وأهمية بكثير، فإن ذلك يصدر إحباطا للموهوبين والباحثين خاصة من قطاع الشباب. والمتابع للتغطية الإعلامية للاحتفال بعيد العلم يمكنه بسهولة أن يدرك تواضع حجم وأهمية البحث العلمي لدى الإعلام المصري. ولعل ذلك ما دفع الرئيس إلى توجيه عتاب للإعلام في نهاية ديسمبر 2014 حين قال «كنت أفضل أن الإعلام ينظم مسابقات، تحضرها شخصيات من النخب، لاختيار أفضل عالم، أو أكثر فلاح إنتاجية، أو عامل مبتكر، أو طالب نابه، مثلما ينظم مسابقات أفضل الأصوات الغنائية، وأفضل راقصة»، ومع ذلك فما زال الإعلام يفتقد القدرة والرغبة في المساهمة في جهود دعم البحث العلمي. وإزاء ذلك الوضع يبدو أنه ليس أمامنا سوى أن نطلب من الرئيس وضع مهمة رعاية ودعم البحث العلمي والعلماء والباحثين إعلاميا ضمن مهام صندوق رعاية المبتكرين.

تعليقات

المشاركات الشائعة