هند سعيد صالح : أبى قضى أجمل أيام عمره فى السجن.. ورصيده «صفر» فى البنك
المصدر الوفد alwafd.org . اخبار الفن
رفض مساعدتى للحصول على عمل.. وقال: احفرى طريقك بنفسك
الفنان «عهدى صادق» كان أقرب أصدقائه ودفنه بنفسه
رفض دور حسن النعمان فى أرابيسك وسليم البدري فى ليالى الحلمية
رفض زيارتى له فى السجن أول مرة ووافق بعدما أرسلت له خطاباً
صديق له الذى دفنه بنفسه.. ويسأل عنى باستمرار
الزمان: صيف عام 1991
المكان: مقهى فى أحد شوارع الإسكندرية، يجلس عليها الفنان -ذائع الصيت وقتها- سعيد صالح ومعه مجموعة من الأصدقاء، صاحب المقهى يدور ويلف ويذهب ويعود وهو يردد «منور يا فنان»! يهز سعيد صالح رأسه، ويرسل بيده قبلة له ويقول: «عايزين نظبط المزاج يا معلم» وقبل أن يرد «المعلم» ينفلت من بين الكراسى «الواد نص» صبى القهوة بزيه البلدى وهو يقول: «أيوه جاى.. مساء الفل على نجم مصر كلها» ثم يضع على المائدة «قهوة وشاى وعصير الليمون» تحية للفنان وصحبته.
<<<
ساعات الليل تمر سريعة، وحجر الشيشة ما أن ينتهى إلا ويصعد غيره، ليطير الدخان فى فضاء المقهى، الساعة تقترب من الخامسة صباحاً، رواد المقهى انصرفوا، إلا القليل منهم، ما زال فرحاً بوجود سعيد صالح بينهم، وقبل أن يستعد الجميع لمغادرة المكان، توقف فجأة أمم باب المقهى «بوكس» الشرطة -هكذا كان يطلق على سيارة الشرطة- ونزل منها حشد من المخبرين والعساكر والضباط، وفى لحظات كانوا يقفون أمام الجميع، تقدم ضابط برتبة رائد.. ثم قال وهو يحاول الاعتذار: أنا باعتذر يا فنان.. ولكن أنا مضطر ألقى القبض عليك، ابتسم صعيد قائلاً: ولماذا؟
رد الضابط: بتهمة تعاطى الحشيش، واصل سعيد صالح ابتسامته التى تدل على القوة وليس الضعف ثم قال: اتفضل.. أهلاً وسهلاً هيا بنا إلى قسم الشرطة.. ولا داعى للاعتذار.. أنا أعرف أنها أوامر جاءت إليك، وأعرف أيضاً لماذا أرسلوك للقبض علىَّ وتقديمى للمجتمع والجمهور على أنى مجرم.. اتفضل يا باشا!
<<<
فى العاشرة من صباح نفس اليوم، اتجهت سيارة الشرطة به إلى مبنى النيابة، وهناك تم سؤاله عن تعاطيه «الحشيش» وما هى أقواله فيما هو منسوب إليه؟ رد وبنفس الابتسامة: «لو أن الحكومة تريد عقاب كل فنان يتعاطى الحشيش، فهذا معناه أن نصف فناني مصر سيكون مساكنهم فى السجن»، وبعد فترة التحقيقات التى استمرت حوالى 45 يوماً، خرج لعدم كفاية الأدلة، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت علاقته بالسلطة فى حالة توتر، لأنه أدرك أنها لن تتركه يمارس هواية النقد السياسى فى المسرح، مثلما كان يفعل من قبل، ولقد أدرك أن الذى حدث معه فى هذه الحادثة، ما هو إلا إنذار شديد اللهجة بعدما خرج على النص فى مسرحية لعب بطولتها عام 1983 وكان اسمها «لعبة اسمها الفلوس»، وأطلق جملته الشهيرة ضد نظام عبدالناصر والسادات ومبارك -الذى كان فى بداية حكمه- عندما قال: «أمى -يقصد مصر- تزوجت ثلاث مرات، الأول: وكّلنا المش.. والتانى: علمنا الغش.. والثالث: لا بيهش ولا بينش»! وكانت نتيجة هذا الموقف والرأى السياسى منه فى عبدالناصر والسادات ومبارك أن قبض عليه ورُحل للنيابة واستمر فى الحبس تحت ذمة التحقيقات 45 يوماً.
<<<
بعد خروجه من تحت وطأة التحقيقات، عاد إلى المسرح الذى كان يحبه إلى درجة العشق، ومنه صنع مجده الفنى، ويكفيه أعمال مسرحية رائعة مثل «هالو شلبى» الذى لعب فيها دور «محفوظ أبوطاقية» الشاب الريفى الذى جاء من الريف ليزاحم عالم الأضواء فى دنيا الفن والمسرح، وبعدها قدم إحدى روائع المسرح المصرى -حتى إن اختلف مع توجهها وطرحها للفكرة- وهى مسرحية «مدرسة المشاغبين» التى كتبها الراحل على سالم وأخرجها للمسرح جلال الشرقاوى، وقدم فيها دور «مرسى الزناتى»، ثم واصل بعد ذلك أعماله المسرحية التى أنتج بعضها وقدمها على حسابه الخاص، وفى كل هذه الأعمال كان لا يترك الفرصة ليهاجم النظام بطريقته، حتى وإن خرج عن النص أحياناً.
<<<
ممنوع من السفر
ممنوع من الغنا
ممنوع من الاشتياق
ممنوع من الاستياء
وكل يوم فى حبك بتزيد الممنوعات
وكل يوم بحبك أكتر من اللى فات
بهذه الكلمات التى كتبها الراحل أحمد فؤاد نجم، يصعد سعيد صالح على المسرح كل ليلة فى مسرحية «كعبلون» عام 1985 ليقول للنظام إننا نعيش فى عصر الممنوعات، ويغنى أغانى أحمد فؤاد نجم التى كانت محظورة من أيام السادات، وهو يمثل ويهاجم ويناور ويتحدث بدون لف أو دوران، ويخرج ما فى قلبه كعادته البسيطة، فيما يقدمه، فلا يعرف الحسابات السياسية، ولا يحب أن يكون قريباً من السلطة، ولا يريد أن يكون «بوقاً» للنظام -أى نظام- يتحدث بما يريد، وقتما يريد، واضعاً فقط أمام عينيه عقلية المشاهد، التى يحترمها ويرى -كما كان يقول دائماً- أنها يجب أن تحترم. على الجانب الآخر كانت السلطة أو أحد الأجنحة فيها، ترى أنه خرج عن النص، ويجب ألا يترك هكذا، إذاً ما الحل؟ دائما السلطة فى أى عصر، لا يقف أمام قوتها وعنفها حتى مع الخصومة السياسية أى شىء، قضية جديدة.. وهذه المرة.. يدخل السجن.. وقد كان.
<<<
عاد سعيد صالح مرة أخرى لكرسى الاعتراف، عاد للمحقق والأوراق والمحامين وأروقة المحاكم، وفى نهاية عام 1991 حكمت عليه المحكمة بالسجن لمدة عام، وبعد أيام من الحكم تم ترحيله إلى سجن الحضرة بالإسكندرية، وفى هذا السجن، بدأ رحلة حياة أخرى فى مشوار حياته، أدخلوه السجن بسبب كلمة، وتصور أنه سيموت أو سيلتزم الصمت عندما يخرج أو أنه سوف يصاب بالاكتئاب ويكون مكانه بعدها مستشفى الأمراض النفسية.. لا هذا حدث ولا ذاك، فى السجن قضى أجمل أيام حياته وخرج بعدها يواصل نقده ورفضه لأى شىء ضد مصلحة المواطن المطحون فى هذا البلد.
<<<
فى سلسلة حوارات «أبى الذى لا يعرفه أحد» ذهبت إلى ابنته «هند» خريجة معهد السينما قسم مونتاج، تعيش مع والدتها -أو بجوارها- فى مدينة الفردوس غرب القاهرة بجوار مدينة الإنتاج الإعلامى.. وصلت فى الموعد المحدد بيننا ومعى زميلى المصور، الذى ظل طيلة الطريق يتذكر وهو يضحك أعمال سعيد صالح، استقبلتنى السيدة نادية زوجته الأولى أم هند، سيدة مصرية أصيلة، وملامحها تدل على أنها امرأة من الزمن الجميل، بهدوء جلسنا وجاءت لنا بالشاى، وقالت: هند ستكون معكم بعد دقائق.
وجاءت لنا ومعها طفلها الثانى الصغير، وقلت لها: ما اسمه؟ قالت: سليم، وشقيقه الأكبر اسمه ياسين، قلت لها: ولماذا لم تطلقى عليه اسم «سعيد»؟ فتبسمت وهى تنظر لابنها ولصورة صغيرة لأبيها كانت بجوارنا وقالت: «لا يوجد اثنان اسمهما سعيد، سعيد واحد فقط!».
<<<
قلت لها: ما الذى لا نعرفه عنه كإنسان؟ قالت: إنسان بسيط، إلى حد لا يتصوره أحد، يحب جلسة الناس الطيبة، ويحب الخروج معهم والسفر معهم والتواجد فى أى مكان يكونون فيه، يكره الشعور بالنفس أكثر من اللازم، ويعتبر ذلك «كبراً مقيتاً» لا تقبله النفس السليمة، عاش حياته بمبدأ «اصرف ما فى الجيب يأتيك ما عند ربك»، لم يحسب أى حساب للزمن، أو للمرض أو لما هو آتٍ، كانت له فلسفة خاصة فى الحياة، ويدرك -أو كان يقول- نحن فى الحياة حتى نعيش كل لحظة فيها، بدون فذلكة أو تعذيب للنفس أو إحساس كاذب بالنجومية، فالنجومية من وجهة نظره، هى أن تكون بين الناس، وتجلس إليهم، وتشعر بما يشعرون به، وتقدم إبداعك من أجل رفع معدلات الوعى والسعادة والبهجة لديهم، كان باختصار يعيش الحياة بطريقته الخاصة، وله دماغه وعقيلته التي تحدد طريقه، قلت لها: لمن كان يلجأ ليأخذ رأيه فى أى شأن من شئونه؟ قالت: كان لا يلجأ إلا إلى نفسه، كان يقول: أنا «شورتى» -أى رأيى- من دماغنى لا أتحاور مع أحد، ولا أستمع إلى أحد.. وبالفعل فى مرات كثيرة حاولت فيها أن أقنعه بأشياء، وكان يسمع ثم لا يفعل إلا ما يقنعه هو فقط.
<<<
توقفت قليلاً عن الكلام معها وهى كذلك، لأن الطفل «سليم» أراد أن يخبرنا أنه موجود معنا بصوته الرقيق، فجاءت الأم وأخذت حفيدها من «هند» وأكملت هى قولها: والدتى مثلاً لم تكن تستطيع إقناعه بما قد تنجح فيه باقى الزوجات، كأن تجعله يدخر أموالاً، أو يشترى شقة «تمليك» بدلاً من شقة المهندسين التى كانت تعيش فيها وهى شقة بالإيجار، قلت: ألم يكن يمتلك شقة؟ قالت: مات.. وهو يعيش فى شقة بالإيجار، تعيش فيها الآن زوجته الثانية ولم يترك أى عقار أو أى مبالغ مالية، لقد رحل ولم يترك «جنيهاً» واحداً فى البنك، لقد ختم أبى حياته وهو لا يمتلك شيئاً، غير المرض الذى حاصره آخر سنوات عمره، ما بين جلطات وزهايمر وغيرهما من الأمراض.
<<<
فى عام 1991 كنت فى المرحلة الثانوية، وقبل أن أغادر شقتنا، رن جرس الهاتف، ردت أمى وهى فى حالة ذهول ووضعت السماعة والدموع فى عينيها، قلت لها: ماذا حدث؟ قالت: أبوك فى النيابة، يومها دارت بى الدنيا وأصابنى الحزن.. لكننى كنت أعرف أن أبى قوي، ولا يخاف من أى شىء، بهذه الكلمات تحدثت هند عن تلك الفترة العصيبة التى مرت بالأسرة.
سألتها: هل قمت بزيارته فى السجن وقتها؟ قالت: نعم.. ذهبت ويومها رفض مقابلتى، وعندما حاولت إدارة السجن -كان فى سجن الحضرة بالإسكندرية- أن تقنعه وتقول له: الأسرة جاءت من القاهرة، والعودة دون أن يروك صعبة عليهم، لكنه رفض وقال: لا أحب أن ترانى هند من وراء أسلاك السجن، قولوا لها تعود للبيت، وبالفعل عدت للقاهرة مع أمى دون أن نراه، لكننى أرسلت له خطاباً على السجن، قلت له فيه: (أنا أحبك فأنت الذى علمتنى وكبرتنى، وجعلتنى أفتخر بك فى مدرستى أمام زملائى، وأعطيتنى كل ما أحتاجه، وأدخلتنى أفضل مدارس، فأنا يا «بابا» ابنتك، التى تفتخر بك.. أنا أقول: أنا ابنة سعيد صالح.. أنا ابنة سعيد صالح.. هل تعرف يا أبي ما معنى أن يكون أبوك سعيد صالح، الذى يحبه الجمهور فى كل الوطن العربي؟ إنه إحساس أكثر من رائع، فلا تجعل هذا الإحساس يموت بداخلى.. فأنت ما زلت أبى الذى أفتخر به حتى إن كنت فى السجن)، ثم توقفت قليلاً بعدما حاولت جاهدة أن تتذكر تلك الكلمات ثم قالت: هذه الكلمات لا أنساها، وأذكر يومها أنه وافق على الفور على أول لقاء لى به فى السجن، قلت: كيف كان هذا اللقاء؟ قالت: استقبلنى بضحكة كبيرة «هند.. حبيبة بابا.. وحشانى يا بنت اللذين»، فضحكت أنا معه وهو يحتضنى.. ثم سكتت وقالت: كانت ضحكتى تسابق دموعى، وكانت دموعى تسابق ضحكتى، لم أكن أعرف وقتها أضحك، أم أبكى، قلت وأنا أضحك: ومن فى حضرة سعيد صالح يملك غير أن يضحك مهما كانت المواقف صعبة، قلت لها: ماذا غيّر السجن فيه؟ قالت: تغير تغيراً جذرياً.. وقضى فيه أجمل أيام عمره، حيث اهتم بصحته، وقراءاته وممارسة الرياضة وتحسنت صحته بصورة عظيمة، وفى السجن لجأ إلى ربه، وحفظ الكثير من القرآن الكريم وصادق الكثير من زملاء معه ورأى فيهم -حسبما قال- خير الناس، قلوبهم طيبة، ودخلوهم السجن كشف معادنهم الأصيلة، ومع هؤلاء كان يعيش أجمل أيام حياته كما يقول دائماً.
اسمه: سعيد صالح، ولد فى 31 يوليو 1938 فى قرية بمحافظة المنوفية، عاش وتعلم فى حى السيدة زينب بالقاهرة، حصل على ليسانس كلية الآداب عام 1960. انضم إلى مسرح التليفزيون وقدم العديد من العروض عليه فى بداية مشواره. اكتشفه الفنان حسن يوسف وقدمه للمسرح فى ذلك الوقت، وتزامل مع الفنان عادل إمام فى العديد من الأعمال المسرحية أشهرها مسرحية «مدرسة المشاغبين» عام 1973، تزوج مرتين الأولى أم ابنته الوحيدة السيدة نادية محمد من خارج الوسط، وهى ابنة لمخرج مساعد كان قريباً من سعيد صالح، ثم تزوج قبل رحيله بسنوات قليلة من السيدة شيماء فرغلى.
<<<
عدت للابنة وقلت لها: أعرف أنه ترك لك أعماله وتاريخه الفنى بما فيه من أعمال جيدة، لكن دعينى أسألك: ألم يترك لك ورثاً تستندين عليه إذا ما مال الزمن؟ قالت: لم يترك لى جنيهاً واحداً، ولا أعرف أى شيء عما كان لديه، ولا أمى تعرف، حتى قبل انفصالها عنه قبل سنوات، أى شىء عن أحواله، ودعنى هنا أقول إنه لم يبخل علىّ بأى شيء، جاء لى بأجمل السيارات وأدخلنى أفضل المدارس، لكن بخصوص ما تقصده من سؤالك.. أستطيع أن أقول لك بكل صدق إنه لم يترك لنا شيئاً، حتى الأعمال المسرحية التى أنتجها وتم تصويرها لا نعرف من أين نأخذ حقوق الملكية الفكرية والمادية لها، ثم إن شقته التى كان يعيش فيها فى المهندسين احترقت منذ سنوات، قلت: هل تقصدين أن ذلك أدى إلى حرق كل ما لديه؟ قالت: لم أقصد شيئاً.. أنت تسأل وأنا أجيب.
الطبيعى أن يكون لديه فى الشقة كل تاريخه، وكل الأوراق التى تدل عما كان لديه، إذا كان لديه فى سنواته الأخيرة شىء، لكن باحتراق الشقة احترق تاريخه أو جزء من تاريخ سعيد صالح.
قلت: وكيف حدث هذا الحريق؟ ردت: لا أعرف، قلت: وماذا قالت التحقيقات الأمنية؟ ردت: لا أعرف.. قلت مع من كان يعيش أيامه الأخيرة؟ قالت: مع زوجته طبعاً.. وكنت على فترات أتواصل معه، وفى أيام مرضه الأخيرة تواجدت أكثر معه.. قلت: هل بينكم وبين زوجته الثانية أى نزاع؟ قالت: من كان بيننا مات، الذى كان بيننا أبى وزوجها.. ومات أبى.. وزوجها، قلت: أقصد فى الميراث فتلك حقوق لك ولها حسب الشرع والقانون، قالت: هذا تفصل فيه المحكمة.. ثم قالت: أنا لا أريد أن أتحدث عن هذه الأمور كثيراً، فقلت: وأنا أحترم رغبتك فى ذلك.
<<<
قبل نهاية كلامنا.. جاءت السيدة نادية الزوجة التى عاشت وتحملت سنوات طويلة مع فنان له تركيبته الخاصة وهى تسألنى.. هل تحب أن تحتسى فنجان قهوة؟ قلت: يكفينى سعة صدرك واستقبالك الحميم.. وقلت للابنة: من أكثر الأصدقاء الذين كانوا قريبين منه؟ قالت: الفنان الجميل عهدى صادق.. وغيره من النجوم، لكن «عم عهدى» هو أب ثانٍ لى.. ظل مع أبى لحظة بلحظة، ولم يتركه لدرجة أنه دخل قبره، ليدفنه بنفسه ويلقى عليه نظرة الوداع الأخيرة، وما زال حتى اليوم يتواصل معنا ويسأل عنا، ويقول: يا هند.. أبوك لم يمت.. طالما أنا على قيد الحياة، قلت لها: ألم تأت عليك لحظة تسألينه فيها وتقولين له: كان من الوارد يا أبى أن يكون فى حالة مادية أفضل مما نحن فيه؟ ردت وهى تضحك: نحن الحمد لله أحوالنا مستوردة.. نعيش مثل أغلب خلق الله، قلت ولكن من كانوا لا يتجاوزون نصف موهبته، تتجاوز أموالهم أضعاف ما جمعه فى حياته؟ قالت: أبى لم يكن يحب الفلوس، ويراها وسيلة وليست غاية، ولو تذكر قدم العشرات من أفلام المقاولات فى مرحلة السبعينات والثمانينات وكانت الأموال التى يجمعها منها يقوم بإنفاقها على المسرح، ولا يدخرها أو يشترى بها عقارات.
وأذكر أنه حتى رفض أن يتوسط لى حتى أعمل بعد تخرجى من معهد السينما، وقال: احفرى بيدك طريقك، وذات يوم كان فى المستشفى وزارته الفنانة هالة صدقى يومها قلت لها: أبى يرفض أن يتوسط لى للعمل؟ اندهشت وقالت له: لماذا؟ قال: هل تريدين يا هالة أن يقال إن سعيد صالح يأخذ فرصة أى إنسان من أجل ابنته، فقالت له: إذاً فأنا الذى سأقوم بذلك.. وبالفعل اتصلت بالدكتورة هالة سرحان التى وافقت على الفور أن أعمل فى روتانا، وهذا يدل على فلسفة أبى مع الحياة، وقد لا يعرف الجمهور أنه رفض دور سليم البدرى فى «ليالى الحلمية»، ودور حسن النعمان فى «أرابيسك»، وكانوا يسألونه لماذا ترفض؟ كان يقول: «مزاجى كده».. هذا هو سعيد صالح الإنسان والفنان وهذه طبيعته فى التعامل مع الأشياء.
<<<
وفى 1 أغسطس 2014 رحل سعيد صالح بعد رحلة مرض طالت بعض الشىء.. رحل بعدما رسم البسمة -وما زال- بأعماله على وجوه الجماهير، الجماهير التى عاش من أجلها، وسجن وهو يدافع عنها، وأصابه المرض وهو يحاول أن يجد ما يقوله لها، لم يهادن السلطة ويأتمر بفكرها كما يفعل البعض، وما كان يقتنع به كان يفعله، ويدفع ثمنه من سمعته وتاريخه وصحته راضياً وسعيداً، فلقد عاش بسيطاً ومات سعيداً بما قدمه، لأنه فيما يبدو كان يدرك أن الحياة اختيار، فإما أن تختار نفسك أو تختار دفتر الشيكات.. وهو اختار نفسه، وما أجمله اختياراً.
تعليقات
إرسال تعليق