جيرمى كوربن ... زعيم ضعيف يأبى الاستسلام

المصدر الاهرام . تحقيقات و تقارير خارجية
وجه فى الأنباء
ربما لا يكون أول اختبار صعب يواجهه جيرمى كوربن زعيم حزب العمال البريطانى منذ التحاقه بالعمل السياسى قبل أربعين عاما،ولكن الانتخابات العامة المبكرة التى أجريت أمس الأول ربما تثبت أنها الاختبار الأقسى فى تاريخه حيث يرى الكثيرون أنها لم تكن مجرد انتخابات عادية ولكن استفتاء على زعامة كوربن نفسه وقدراته على قيادة الحزب الثانى فى البلاد والذى تعرض لكثير من الهزات خلال السنوات الماضية.
صحيح أن أداء حزب العمال خلال الانتخابات جاء معاكسا لكل التوقعات ،حسبما كشفت النتائج، وكوربن لم يتلق الضربة القاصمة التى تنبأ بها البعض بل ترددت تحليلات عن احتمال توليه منصب رئيس الوزراء فى حالة ما اذا شكل حزب العمال حكومة ائتلافية (وهو أمر لم يكن متصورا حتى انتهاء التصويت) إلا أن ذلك لا ينفى المأزق الذى سيواجهه كوربن وحزبه خلال الفترة المقبلة، خاصة وأن الخلافات الحادة داخل حزب العمال على شخصية كوربن وقدرته على القيادة لا تزال قائمة.

فعلى مدى العشرين شهرا الماضية منذ انتخاب كوربن زعيما لحزب العمال فى سبتمبر 2015 والكثيرمن السياسيين والمراقبين والاعلاميين بل حتى أعضاء حزب العمال نفسه يرون أن هذا الاختيار يعد واحدا "من أكبر الكوارث فى تاريخ السياسة البريطانية" وأن كوربن ضعيف ولا يصلح زعيما لحزب بحجم حزب العمال خاصة فى مثل تلك الأوقات العصيبة التى تمر بها بريطانيا.

ووصل الأمر إلى أنه عندما دعت رئيسة الوزراء تيريزا ماى إلى إجراء الانتخابات المبكرة اعتبر الغالبية أن النتيجة محسومة مسبقا لصالح ماى وحزبها حزب المحافظين .وسارع الكثيرون إلى اعلان "وفاة"حزب العمال وتوجيه الطعنات المتتالية لكوربن واتهامه بالتسبب فى الوفاة.ومما زاد الطين بلة وأدى إلى مزيد من التدهور فى شعبية كوربن هو تعرض حزب العمال لسلسلة من الهزائم خلال الانتخابات المحلية التى أجريت فى مايو الماضى وخسر فيها معاقل أصيلة للحزب.وهو ما دفع البعض مثل بولى توينبى كاتب العمود بصحيفة الجارديان للتساؤل"هل حظينا أبدا بسياسى عاجز مثل كوربن الذى لا يجيد سوى ارتكاب الأخطاء؟فلم يقض على حزب العمال التوجه الراديكالى بل افتقار كوربن للقواعد الأساسية للزعامة".أما هيلرى بن العضو البارز بحزب العمال ووزير الخارجية الأسبق فى حكومة الظل فقد أكد أن كوربن "رجل صالح ومهذب ولكنه ليس زعيما".

منتقدوا كوربن داخل الحزب وخارجه يرون أنه رجل يعيش فى الماضى ويريد محو كل ماحققه بلير وشركاؤه لتحديث الحزب واصلاح سياسته وويصر على العودة بالحزب للوراء عن طريق اعادة تبنى أفكار اشتراكية لا تتماشى مع العصر وهو ما تسبب فى زيادة حدة " أزمة الهوية" التى يعانى منها الحزب فى الوقت الحالى وتزايد احتمالات حدوث حركة انشقاق كبرى عنه خلال الشهور المقبلة.

ويؤكد هؤلاء أن كوربن،الذى طالما عانى وهو وحلفاؤه المنتمون لأقصى اليسار من العزلة داخل الحزب على مدى العقود الماضية،لم يكن أبدا ليفوز بزعامة حزب العمال لولا التعديلات التى اجراها سلفه زعيم حزب العمال السابق اد ميليباند على نظام الانتخاب بالحزب للحد من تأثير اعضاء الاتحادات النقابية وتمتعهم بنصيب الأسد من الأصوات .فقد ساوى التعديل بين أصوات الأعضاء من أعضاء البرلمان والنقابات العمالية والأعضاء العاديين وأولئك الاشخاص الذين سجلوا أنفسهم كمؤيدين للحزب مقابل ثلاثة جنيهات استرلينية..وبموجب النظام الجديد تدفق الآلاف من الأعضاء والمؤيدين الجدد لدعم كوربن ليفوز برئاسة الحزب .

وعلى الجانب الآخر يرى بعض المحللين من المهتمين بالبحث عن أسباب فوز كوربن بزعامة الحزب فى المقام الأول ونجاحه فى البقاء والاستمرار رغم محاولات الإطاحة به هو أنه من خارج المؤسسة وأنه لا يتصرف كما يتصرف رجال السياسة العاديون.بمعنى أنه فى حين يحرص السياسيون الآخرون على تعديل سياساتهم وما يؤمنون به للتوافق مع المتغيرات ومتطلبات العصر يظل كوربن متمسكا بوجهات نظره ومبادئ أقصى اليسار التى يتبناها منذ أكثر من ثلاثة عقود.وهو يحظى بشعبية أوسع بين الناخبين الشباب ممن تتراوح أعمارهم بين 18و 30 عاما.كما أنهم أشاروا إلى أنه نجح فى اعادة اجتذاب بعض ممن فقدوا ايمانهم بحزب العمال نتيجة سياسات الحكومات العمالية السابقة تحت قيادة تونى بلير وجوردون براون.

وفى تقرير عن أداء كوربن خلال الحملة للانتخابات المبكرة ونجاحه (على عكس كل التوقعات ) فى تقليص الفرق بينه وبين ماى فى استطلاعات الرأى قبل أيام من الاقتراع ورفضه للاستسلام،ذكرت محطة سى أن أن الاخبارية أن كوربن يتميز "بجلد سميك ويبدو مرتاحا وكأنه يمتلك "مكونا سريا "يساعده على مواصلة القتال والبقاء"

وفى هذا السياق تشير صحيفة "مورنينج ستار "البريطانية إلى أنه رغم تعرض كوربن للسخرية والخيانة والتنمر إلا أنه يواصل طريقه بنفس الاهتمام والكبرياء".

وربما يرجع اصرار كوربن على عدم التراجع أو الاستسلام وعلى التمسك بمبادئ تبدو للكثيرين وقد عفا عليها الزمن(اعادة تأميم الصناعات وفرض الضرائب على الأغنياء) إلى ظروف التنشئة وبعض السمات الشخصية التى صقلتها الاختبارات التى تعرض لها خلال مشواره السياسى.

فقد تربى كوربن، الذى ولد فى عام 1949، فى أسرة من الطبقة المتوسطة ذات ميول سياسية اشتراكية .فقد التقى والده المهندس الكهربائى بوالدته مدرسة الرياضيات خلال مظاهرة بالعاصمة لندن للاحتجاج على الممارسات القمعية للجنرال فرانكو فى أسبانيا . وصرح كوربن أكثر من مرة أنه تعلم مناقشة الكثير من القضايا الخاصة بالعدالة الاجتماعية على مائدة العشاء مع أسرته.

وتتدرج كوربن فى التعليم فى المدارس الحكومية ولكنه لم يحصل على درجة جامعية وفضل الانغماس فى نشاطات الاتحادات النقابية .انضم كوربن وشقيقه لحزب العمال قى شرخ الشباب وشارك فى العديد من المظاهرات والاضرابات فى فترة الستينيات. انتخب كوربن وهو فى الخامسة والعشرين من عمره عضوا بالمجلس المحلى فى احدى المقاطعات بشمال لندن.وبعدها بتسعة أعوام انتخب عضوا بالبرلمان البريطانى فى نفس الوقت الذى دخل فيه رئيس الوزراء الأسبق تونى بلير البرلمان ولكن شتان بين الرجلين اللذين توليا زعامة حزب العمال . ففى حين نجح بلير فى الصعود بسرعة داخل حزب العمال إلى أن وصل إلى تولى رئاسته فى عام 1994 وقاد الحزب للفوز فى الانتخابات العامة لثلاث مرات متتالية بدءا من 1997،ظل كوربن فى المقاعد الخلفية بالبرلمان يعارض تخلى حزب العمال عن السياسات الراديكالية والقيم التى تبناها فى ميثاق 1983 من أجل مغازلة صناديق الاقتراع .وحسب وصف البى بى سى لا توجد قضية يسارية لم تحظى بدفاع كوربن المستميت عنها من الوحدة الايرلندية ومناهضة الفصل العنصرى فى جنوب أفريقيا وحتى نزع الاسلحة النووية ورفض الحرب على العراق .

وعندما تم طرح اسمه لخوض المنافسة على زعامة الحزب فى عام 2015 رأى الكثيرون أنها مجرد محاولة لزيادة سخونة المنافسة بوصفه ينتمى لجناح أقصى اليسار وبالتالى لم يؤخذ ترشحه على محمل الجدية ولكنه فاز بتأييد 60 فى المائة من الأصوات.وعندما ضج المسئولون البارزون بالحزب والمنتمون لجناح الوسط من ادائه الباهت وافتقاره للسمات القيادية خططوا للإطاحة به وانتهزوا فرصة ظهور نتائج الاستفتاء على الخروج البريطانى من الاتحاد الأوروبى والتى جاءت فى صالح معسكر الخروج لمحاولة الضغط عليه للتخلى عن رئاسة الحزب وذلك عن طريق انسحاب جماعى من حكومة الظل ثم اجراء اقتراع بسحب الثقة منه خسر فيه بالفعل ولكنه رفض الاذعان للمطالب بالاستقالة من رئاسة الحزب لتجرى منافسة أخرى على زعامة الحزب فاز فيها مرة أخرى بفضل انصاره من الاعضاء الجدد حسب تحليل خصومه أو بفضل مثابرته ورفضه للاستسلام حسب تحليل مؤيديه.

نعم خاض كوربن الكثير من المعارك والاختبارات ويخوض اليوم ربما أكثرها شراسة فهل سيعينه "جلده السميك ومكونه السرى" مرة أخرى على الخروج منها سالما؟

تعليقات

المشاركات الشائعة