فتنة الجزيرتين

المصدر الاهرام . د . جمال عبد الجواد
جلسات البرلمان هي المشهد الأخير في فتنة الجزيرتين. أصوات النواب عالية ومتداخلة. العصبية والانفعال ظاهرة على الوجوه وفي العروق النافرة. لا رأي يكتمل ولا حجة تستوي، فالمقاطعة ممكنة في كل وقت. ما أن ينطق المتحدث بكلمة مفتاحية تدل على موقفه، إلا وانتفض أصحاب الموقف المضاد مقاطعين. اتهامات الخيانة والعمالة المتبادلة خرجت من صفحات التواصل الاجتماعي، وعرفت طريقها لجلسات النواب، مضافا إليها بعض التدافع والتشابك بالأيدي وتحطيم الميكروفونات، والهتافات والهتافات المضادة، كما لو كانت الحدود بين سياسات المؤسسات وسياسات الشارع قد أزيلت، فبدت قاعة المجلس كما لو كان ميدان التحرير قد تم حشره تحت القبة. 

جلسات البرلمان حول الجزيرتين هي أهم ما حدث في هذا البرلمان منذ انعقاده، لكن منع بث الجلسات حرمنا من متابعة الحدث المهم. إن كان في البث مشكلة، فلماذا لا نسجل الجلسات ونحتفظ بها سجلا تاريخيا كاملا ودقيقا للأجيال المقبلة بدلا من الشذرات المسجلة خلسة بكاميرات تليفونات محمولة. 

المشهد الراهن شديد الجدية والالتباس في الآن نفسه. برلمانيو الموالاة وجدوا أنفسهم في وضع بدوا فيه كما لو كانوا ينكرون على الوطن حقا هو له، فيما برلمانيو المعارضة وجدوا أنفسهم في وضع بدوا فيه كما لو كانوا ينكرون على المؤسسة التشريعية الأعلى اختصاصا حقا هو لها. النواب صادروا على المطلوب عندما أعلنوا موقفهم من القضية قبل مناقشتها، سواء كانوا مع الاتفاق أو ضده. المواقف في هذه القضية تكونت منذ يوم توقيع اتفاقية الترسيم مع المملكة، قبل أن يطلع أحد على الوثائق أو البراهين. بحث كل طرف عن البراهين التي تؤيد انحيازه، ولم ينتظر البراهين لتختار له موقفه. الرأي قبل البرهان، هذا هو ديدن السياسة وصراعاتها. الوثائق والبراهين في صراعات السياسة تطمئن القلوب ولا تحولها، وهي بالتأكيد ضرورية لزوم السجال مع الخصوم. 

ضرورات السجال هبطت بمستوى الحجج، فسمعنا من قال إن كل الحروب التي نشبت بين مصر وإسرائيل كانت بسبب تيران وصنافير، مع أن كل الحروب المصرية ــ الإسرائيلية لم يكن لها أي صلة بالجزيرتين، بما في ذلك حرب 1967 التي اشتهرت جزيرة تيران بسببها. وسمعنا من يقول إن الموافقة على ترسيم الحدود سيمنع إسرائيل من شق قناة بن جوريون لربط البحرين المتوسط والأحمر، وما عليك سوى أن تخبط رأسك في الحائط بحثا عن صلة بين الأمرين. وسمعنا من يقول بأن سعودية الجزيرتين تعني تحويل مضيق تيران من مياه إقليمية مصرية إلى ممر مائي دولي، مع أن هذا الأمر تم حسمه نهائيا منذ عام 1979 عندما تم توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل. وكان هناك من أراد تعليق الأمر في رقبة مبارك، فقال إن ترسيم الحدود هو نتيجة لا فكاك منها لقرار أصدره مبارك في عام 1990، وكأن مبارك بات مطلوبا منه أن يحاسب على كل الطلبات، بما في ذلك تلك التي لم يشربها. 

فتنة الجزيرتين سياسية بامتياز، فكل خصوم الرئيس السيسي يقفون في جانب، فيما يقف مؤيدوه في الجانب الآخر، حتى بدا الأمر كما لو أن النقاش لا يدور على الموقف من الجزيرتين، بقدر ما يدور حول الموقف من رئاسة السيسي. للسعودية ومذهبها الوهابي أيضا خصومها، وقد اصطف هؤلاء إلى جانب معارضي السيسي، رافعين معا رايات القومية والسيادة وأرض الوطن. 

فتنة الجزيرتين فرصة لم تضيعها المعارضة التي أدركت أنها ستخرج من هذه المعركة رابحة في كل حال، أي سواء تم ترسيم الحدود أو لم يتم. الجزيرتان منحتا المعارضة منصة إطلاق وانطلاق، وبوصلة تحدد الاتجاه، وناشينكان يصوب على الهدف، فيما التزم أهل الحكم استراتيجية الدفاع. في فتنة الجزيرتين تبادل الحكم والمعارضة الأدوار، فركبت المعارضة اليسارية والليبرالية حصان القومية الجامح، فيما ارتدى أهل الحكم القادمون من معقل القومية المصرية حلة العقل والبرهان والمصلحة. جموح حصان القومية أقوى بكثير من حجية الوثيقة والمصلحة والعقل، فالعقيدة والفكرة والشعار هي العملات المتداولة في عالم السياسة الجماهيرية، وهي القادرة على طرد ما عداها من العملات من التداول. 

الدولة القومية صاحبة السيادة هي دولة إقليمية، تعرف بنطاقها الجغرافي، وبالأرض التي تقوم عليها، وبالحدود التي تعين هذه الأرض، خلافا لدول الماضي التي كانت تسمى باسم حكامها حين كانت الدول عباسية وأموية وعثمانية بغض النظر عن الأقاليم والحدود دائمة التغير. تثبيت حدود الدولة القومية الحديثة أضفى على الأرض والحدود قداسة لم تكن لها في الأزمنة السابقة. للأرض في العقيدة القومية قيمة رمزية عالية بغض النظر عن قيمتها الاقتصادية أو الاستراتيجية. الأرض في العقيدة القومية لا تخضع لتثمين خبراء الأراضي أو رأي خبراء الإستراتيجية، فالأرض تستمد قيمتها من مجرد وجودها في حوزة الدولة وتحت سيادتها. 

العقيدة القومية عقيدة توسعية، فكلما اتسعت أراضي الدولة زادت عظمتها، فالفتح والتوسع مصدر فخر القوميين وزهوهم. امصر والسودان لنا«، هكذا هتف القوميون حتى منتصف القرن الماضي. القومي المثالي هو ذلك الذي يوسع مساحة ممتلكات الوطن، وهو بالتأكيد الذي يحافظ على ما آل للوطن من أراض بأي وسيلة كانت. القوميون يخسرون الأرض في الحروب، لكنهم لا يسلمونها بالمعاهدات.

أراضي الأوطان لا تحتاج إلى وثائق ملكية، يكفي أن الأرض في حوزتنا، أو أن أجدادا لنا مروا عليها حتى تصبح الأرض جزءا من عقيدة الوطن والقومية. العقيدة القومية تصنع الوثائق الدالة على تبعية الأرض، ولا تجعل هوية الأرض مرهونة بوجود الوثيقة الدالة على ذلك، فأرض الوطن في عقيدة القوميين لا تحتاج إلى وثائق مدونة، يكفي أننا مررنا من هناك، فهذا هو البرهان الأهم. 

تيران ليست مجرد قطعة أرض يتم تعريفها بخطوط الطول والعرض، ولكنها جزيرة لها اسم ارتبط بواحد من أهم الأحداث في تاريخنا الحديث، عندما أدى إغلاق المضيق، الذي يأخذ اسمه من اسم الجزيرة، لنشوب حرب 1967، التي خسرنا فيها المضيق والجزيرة وسيناء كلها. خسرنا حرب 1967 عندما كانت تيران في حوزتنا، وانتصرنا في حرب 1973 عندما كانت الجزيرتان في قبضة العدو. مصير مصر يتحدد في الوادي القديم وليس في الأطراف البعيدة، رغم أن في الأطراف مخزونا هائلا من الرأسمال الرمزي، وهذا هو ما يدور عليه الصراع. 

تعليقات

المشاركات الشائعة