بنت البواب .. تصنع البهجة
المصدر الاهرام . عماد رحيم . قضايا و اراء
ترسخت عدة مفاهيم فى تراثنا المجتمعى فى العقود الأخيرة فيما يخص الثانوية العامة، مفادها أنها سنة فاصلة فى عمر الطالب، عبورها يحتم التقيد ببعض الضوابط الغريبة، أسهمت البيئة التعليمية وبيروقراطيتها مع المكون المجتمعى المتباين فى شرائحه فى تعزيزها.
ودفع الناس كامل طاقتهم المادية والمعنوية لحفز أبنائهم لبذل أقصى جهد متاح للفوز بمجموع كبير يمكنهم من دخول الجامعة حتى يتسنى لهم تبوؤ مكانة علمية متميزة تعينهم على دخول سوق العمل، التى وضعت هى الأخرى قواعدها، وتحتل الشهادة الجامعية الأهم بينهم.
وقد جرت العادة أن يفوز فى سباق الثانوية العامة المتحصن بالدروس الخصوصية إضافة إلى وجود أجواء خاصة بتوفير محيط حياتى مناسب للمذاكرة، وفى هذا الإطار يبدو ظهور الأوائل فى الأعوام المتوالية طبيعيا، حيث الالتزام بالمحددات المشار إليها، مع بعض الطفرات غير المتوقعة على استحياء.
لكن طفرة هذا العام لها طابع مختلف، فمريم فتح الباب ابنة البواب، إحدى بناته الخمس، الحاصلة على 99%، قصة نجاح مبهجة، استطاعت بجهدها وتفوقها اللافت أن تنال إعجاب الناس، لأكثر من سبب، أولها، فخرها بأسرتها البسيطة المتواضعة التى لا تملك من حطام الدنيا إلا القليل، ورغم ذلك تشعرك مريم بأنها تملك الكثير، المتوافر للبعض ولكنه لا يحسن استغلاله، بل لا أبالغ حينما أقول إن من بين المحظوظين بتوافر سبل الحياة الكريمة، تجده متمرداً غير مكترث بالتحصيل ولا بالتعليم، تاركاً لأهله كماً من المشكلات وعليهم البحث عن حلولها، متعللاً بصعوبة المنظومة التعليمية، لذا الحديث عن تفوق مريم مقرون بالبهجة التى أدخلتها على أسرتها، بل على المجتمع الذى شاهد نموذج جميلاً ومشرفاً، فقد امتلكت إرادة وعزيمة، استطاعت بهما تحقيق نجاح باهر، مما جعلها مثلاً أعلى لقطاع كبير من جيلها.
ثانيها، لم تملك مريم من رغد العيش ولا من مقوماته ما يعينها على تحقيق حلمها، ولكنها وضعت لنفسها هدفاً واضحاً وهو التفوق، بل كسرت أهم قواعده ولم تستعن بالدروس الخصوصية، بما يؤكد أنها عادة تحولت إلى آفة تأكل قوت الناس بلا داع، إلى هنا تدور الأمور فى منحاها المعتاد، طالبة متفوقة، تستحق إلقاء الضوء عليها لتحفيز جيل من الشباب، هم أمل الوطن ومستقبله الواعد، ولأنها خريجة القسم العلمى فالمتوقع أن تتجه للالتحاق بكلية الطب، صاحبة المجموع الأعلى فى هذا القسم، مع توقع تميزها فيها حال دخولها، لأن المقدمات تؤدى للنتائج.
ولكن على سبيل المثال، ماذا لو قررت مريم الالتحاق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وتميزت وأصبحت من أوائلها، ثم قررت الالتحاق بالسلك الدبلوماسى، هل سيقبل المجتمع ومن قبله اللوائح العتيقة التى تشترط فى المتقدم لهذا العمل «الراقى» شروطا معينة، نعلم جميعاً، أنها تخرج مريم من حيز القبول رغم تفوقها!
أقول ذلك وأنا أتذكر حديث المستشار محفوظ صابر، وزير العدل الأسبق، خلال حواره مع إحدى الفضائيات، قبل أكثر من عامين من الآن، «إن ابن عامل النظافة لن يصبح قاضيًا، لأن القاضى لا بد أن ينشأ فى وسط مناسب لهذا العمل، مع احترامنا لعامل النظافة» على حد قوله، وهو الحديث الذى كان سببا فى تقديم استقالته نتيجة أثره السيئ على نفوس الناس!لاسيما أن حديثه لم يتطرق من الأساس لمستوى تفوقه، ولكنه حكم عليه من مستواه الاجتماعى.
ولأننا مجتمع تتباين شرائحه بوضوح، وشريحة كبيرة منه تقبع تحت خط الفقر، يمكن الزعم أن تلك الشريحة البسيطة سيظل أبناؤها محرومين من تبوؤ مناصب اجتماعية مرموقة، وعليهم البحث عن بدائل أخرى تحتوى تفوقهم ـ هل تذكرون الشاب الذى قفز لنهر النيل أواخر العقد الماضى، بعد أن رسب فى اللحاق بالسلك الدبلوماسى بسبب وظيفة والده رغم تفوقه ـ مثل الطب وما شابه، ولنا أن نتخيل أحد الطلاب المتفوقين، حكم عليه وضعه الاجتماعى أن يوجه تفوقه إلى مسار معين، حتى ولم يكن راغبه، وعليه أن يتعايش مع هذا الوضع طيلة حياته، ونحن هنا أمام احتمالين، أن يثبت للمجتمع جدارته بتبوؤ مكانة متميزة بمزيد من الاجتهاد والتفوق، أو ينتقم منه بطريقته التى تعوضه معاناته وألمه.
لذلك علينا مكاشفة أنفسنا بالحقيقة المرة، أن المجتمع رغم قيامه بثورتين على نظامين، فرضا عليه واقعا غير مقبول، النسبة الأكبر من الثائرين كانوا من البسطاء، لكنهم مازالوا يعانون قيما بالية، جعلت بعض الوظائف حكراً على مجموعة صغيرة من المواطنين، غير مقبول لغيرهم الولوج لها تماماً، والفائزون بها لهم طريقان، إما الوراثة أو أصحاب النفوذ، وعلى أبناء الطبقات البسيطة الاستسلام لهذا الواقع المؤلم، ما لم تتغير المفاهيم المتعلقة بأن ابن الزبال عليه ألا يطمح مجرد الطموح لأن يكون فى منصب اجتماعى متميز، ولا بنت البواب التى نحرمها من حقها فى التفكير فى بدائل متاحة أمامها تبرز فيها تفوقها، لأننا هكذا نحرم الوطن من الاستفادة بأبنائه الذين يمكن أن يكونوا نافعين بدرجة تمكن مصر من تحقيق تميز مختلف!
ترسخت عدة مفاهيم فى تراثنا المجتمعى فى العقود الأخيرة فيما يخص الثانوية العامة، مفادها أنها سنة فاصلة فى عمر الطالب، عبورها يحتم التقيد ببعض الضوابط الغريبة، أسهمت البيئة التعليمية وبيروقراطيتها مع المكون المجتمعى المتباين فى شرائحه فى تعزيزها.
ودفع الناس كامل طاقتهم المادية والمعنوية لحفز أبنائهم لبذل أقصى جهد متاح للفوز بمجموع كبير يمكنهم من دخول الجامعة حتى يتسنى لهم تبوؤ مكانة علمية متميزة تعينهم على دخول سوق العمل، التى وضعت هى الأخرى قواعدها، وتحتل الشهادة الجامعية الأهم بينهم.
وقد جرت العادة أن يفوز فى سباق الثانوية العامة المتحصن بالدروس الخصوصية إضافة إلى وجود أجواء خاصة بتوفير محيط حياتى مناسب للمذاكرة، وفى هذا الإطار يبدو ظهور الأوائل فى الأعوام المتوالية طبيعيا، حيث الالتزام بالمحددات المشار إليها، مع بعض الطفرات غير المتوقعة على استحياء.
لكن طفرة هذا العام لها طابع مختلف، فمريم فتح الباب ابنة البواب، إحدى بناته الخمس، الحاصلة على 99%، قصة نجاح مبهجة، استطاعت بجهدها وتفوقها اللافت أن تنال إعجاب الناس، لأكثر من سبب، أولها، فخرها بأسرتها البسيطة المتواضعة التى لا تملك من حطام الدنيا إلا القليل، ورغم ذلك تشعرك مريم بأنها تملك الكثير، المتوافر للبعض ولكنه لا يحسن استغلاله، بل لا أبالغ حينما أقول إن من بين المحظوظين بتوافر سبل الحياة الكريمة، تجده متمرداً غير مكترث بالتحصيل ولا بالتعليم، تاركاً لأهله كماً من المشكلات وعليهم البحث عن حلولها، متعللاً بصعوبة المنظومة التعليمية، لذا الحديث عن تفوق مريم مقرون بالبهجة التى أدخلتها على أسرتها، بل على المجتمع الذى شاهد نموذج جميلاً ومشرفاً، فقد امتلكت إرادة وعزيمة، استطاعت بهما تحقيق نجاح باهر، مما جعلها مثلاً أعلى لقطاع كبير من جيلها.
ثانيها، لم تملك مريم من رغد العيش ولا من مقوماته ما يعينها على تحقيق حلمها، ولكنها وضعت لنفسها هدفاً واضحاً وهو التفوق، بل كسرت أهم قواعده ولم تستعن بالدروس الخصوصية، بما يؤكد أنها عادة تحولت إلى آفة تأكل قوت الناس بلا داع، إلى هنا تدور الأمور فى منحاها المعتاد، طالبة متفوقة، تستحق إلقاء الضوء عليها لتحفيز جيل من الشباب، هم أمل الوطن ومستقبله الواعد، ولأنها خريجة القسم العلمى فالمتوقع أن تتجه للالتحاق بكلية الطب، صاحبة المجموع الأعلى فى هذا القسم، مع توقع تميزها فيها حال دخولها، لأن المقدمات تؤدى للنتائج.
ولكن على سبيل المثال، ماذا لو قررت مريم الالتحاق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وتميزت وأصبحت من أوائلها، ثم قررت الالتحاق بالسلك الدبلوماسى، هل سيقبل المجتمع ومن قبله اللوائح العتيقة التى تشترط فى المتقدم لهذا العمل «الراقى» شروطا معينة، نعلم جميعاً، أنها تخرج مريم من حيز القبول رغم تفوقها!
أقول ذلك وأنا أتذكر حديث المستشار محفوظ صابر، وزير العدل الأسبق، خلال حواره مع إحدى الفضائيات، قبل أكثر من عامين من الآن، «إن ابن عامل النظافة لن يصبح قاضيًا، لأن القاضى لا بد أن ينشأ فى وسط مناسب لهذا العمل، مع احترامنا لعامل النظافة» على حد قوله، وهو الحديث الذى كان سببا فى تقديم استقالته نتيجة أثره السيئ على نفوس الناس!لاسيما أن حديثه لم يتطرق من الأساس لمستوى تفوقه، ولكنه حكم عليه من مستواه الاجتماعى.
ولأننا مجتمع تتباين شرائحه بوضوح، وشريحة كبيرة منه تقبع تحت خط الفقر، يمكن الزعم أن تلك الشريحة البسيطة سيظل أبناؤها محرومين من تبوؤ مناصب اجتماعية مرموقة، وعليهم البحث عن بدائل أخرى تحتوى تفوقهم ـ هل تذكرون الشاب الذى قفز لنهر النيل أواخر العقد الماضى، بعد أن رسب فى اللحاق بالسلك الدبلوماسى بسبب وظيفة والده رغم تفوقه ـ مثل الطب وما شابه، ولنا أن نتخيل أحد الطلاب المتفوقين، حكم عليه وضعه الاجتماعى أن يوجه تفوقه إلى مسار معين، حتى ولم يكن راغبه، وعليه أن يتعايش مع هذا الوضع طيلة حياته، ونحن هنا أمام احتمالين، أن يثبت للمجتمع جدارته بتبوؤ مكانة متميزة بمزيد من الاجتهاد والتفوق، أو ينتقم منه بطريقته التى تعوضه معاناته وألمه.
لذلك علينا مكاشفة أنفسنا بالحقيقة المرة، أن المجتمع رغم قيامه بثورتين على نظامين، فرضا عليه واقعا غير مقبول، النسبة الأكبر من الثائرين كانوا من البسطاء، لكنهم مازالوا يعانون قيما بالية، جعلت بعض الوظائف حكراً على مجموعة صغيرة من المواطنين، غير مقبول لغيرهم الولوج لها تماماً، والفائزون بها لهم طريقان، إما الوراثة أو أصحاب النفوذ، وعلى أبناء الطبقات البسيطة الاستسلام لهذا الواقع المؤلم، ما لم تتغير المفاهيم المتعلقة بأن ابن الزبال عليه ألا يطمح مجرد الطموح لأن يكون فى منصب اجتماعى متميز، ولا بنت البواب التى نحرمها من حقها فى التفكير فى بدائل متاحة أمامها تبرز فيها تفوقها، لأننا هكذا نحرم الوطن من الاستفادة بأبنائه الذين يمكن أن يكونوا نافعين بدرجة تمكن مصر من تحقيق تميز مختلف!
تعليقات
إرسال تعليق