حكاية ابوزعبل


المصدر الاهرام - الاهرام اليومي

كثيرا ما نسمع مقولة «آخرتها أبو زعبل» فى الحياة، والأعمال الدرامية والسينما والمسرح، فى مواقف فكاهية أحيانا، وساخرة أحيان أخرى، أو للتهديد. وهذه جملة لم تأت من فراغ،فلها تاريخ اجتماعى وشعبى يستحق التأمل. والحقيقة أن «منطقة أبوزعبل» ليست مقصورة على السجون بل تضم حياة كاملة، مكتظة بكل التفاصيل، حلوها ومرّها، وتستحق أن نتجول فيها بعين متعاطفة.حين يريد أحد الركوب إلى «أبو زعبل» يشير للميكروباص والأوتوبيس بعلامة الكلابش (يطبق اليدين معا) الذى يوضع فى يد الموقوفين. و«أبو زعبل» هى أكبر تجمع سكنى وصناعى فى «مركز الخانكة»، وتعد نقطة عبور لثلاث محافظات القاهرة والقليوبية والشرقية. ويجاورها سوق العبور للخضار والفاكهة والأسماك، وفيها أهم مصانع الإنتاج الحربي، وأكبر مصنع سماد كيماوى، ومصنع الشبة، وتمتلك طاقات بشرية هائلة تمثل مصر كلها تقريبا. والمنطقة كانت قرية قديما، واسمها الأصلى «القصير»، وعرفت باسم «بنى صيرة» لفترة من الزمن، وظلت تحمل اسم «القصير» إلى آخر أيام المماليك، ثم أطلق عليها اسم «أبوزعبل» كما هو ورد فى «كتاب وقف» محرر بتاريخ 10 من شهر رجب سنة 926 هجرية عن أرض أوقفها «خاير بك الجركسي»، والى مصر بزمام الناحية. وكانت آنذاك من أعمال الشرقية، وجاء فى دليل سنة 1224هجرية الجغرافى أن «القصير هى أبوزعبل»، وكانت بها أرض زراعية مملوكة لشخص اسمه «ابن قرجا التركماني» فى عهد السلطان «الأشرف شعبان»، وأرسل «ابن قرجا» قيِّماً للإشراف على زراعتها وجمع محاصيلها اسمه «زعبيل» ويُكنَّى «أبوزعبل»، فقام ببناء بعض المنازل لأسرته ومزارعيه أطلقوا عليها اسم «منازل أبوزعبل»، وما زالت آثار تلك المنازل بجوار «عٌرم أبو صلاح» وتعرف باسم «الدار البيضاء»، ومكانها شرقا بعد «العكرشة» باتجاه «الجبل الأصفر»، وانتقلت تبعية أبوزعبل من الشرقية إلى قليوب، ثم أصبحت تابعة لمركز شبرا ثم انتقلت تبعيتها إداريا إلى مركز نوى ثم إلى مركز شبين القناطر وعام 1946 أصبحت تابعة لمركز الخانكة إلى الآن.
وظلت أبوزعبل قرية زراعية لفترة طويلة من الزمن حتى عام 1827 ميلادية حتى اختارها «محمد على باشا» لإقامة عدد كبير من المدارس، فأنشأ مدرسة الطب فيها وأسند نظارتها إلى «إبراهيم بك رأفت» وكان عدد الطلبة ثلاثمائة تم اختيارهم من طلاب الأزهر، وأنشئت فيها أقسام لتعليم النحو والحساب والهندسة، وذاعت شهرة هذه المدرسة فى البلاد العربية لدرجة أن «الأمير بشير الشهابي» طلب من «إبراهيم باشا» أثناء حملته العسكرية على سوريا أن يتوسط فى قبول بعض أبناء الشام لدراسة الطب فيها. ومن بين الأساتذة الذين درسوا فيها العالم الفرنسى الشهير «تيودور بلهارس» مكتشف مرض البلهارسيا. وكان وجود «المستشفى العسكرى العام» الذى أنشىءعام 1824 هو سبب اختيار أبوزعبل لإقامة أول مدرسة للطب البشري.
وأقيم بجوار مدرسة الطب مستشفى كبير يضم 720 سريرا، وألحق به حديقة كبيرة بها كل أنواع العطور والنباتات النادرة لاستخراج العقاقير الطبية بمعرفة إخصائيين فرنسيين وإيطاليين، استحضرهم «محمد على باشا» لهذا الغرض، وعاونهم صيادلة مصريون برعوا فى هذا التخصص.
وبعد «إبراهيم بك رأفت» تولى نظارتها المسيو «أنطوان كلوت بك» الفرنسى الجنسية الذى جاء إلى مصر 1825 بدعوة من الباشا، وكان له فضل ازدهار مدرسة الطب هذه والمستشفيات العسكرية، وإنشاء مصلحة الصحة الحربية.
وفى 1827 أيضا تم إنشاء مدارس «الصيدلة»، و«الطب البيطري» وتولى إدارتها مسيو «هامون» الإيطالي، بجانب «مدرسة القابلات» التى أحضر لها الباشا بعض السودانيات والحبشيات ليتعلمن ويُعلمن فن الولادة والتمريض.
إضافة إلى «مدرسة الموسيقى وأشرف عليها موسيقيون من فرنسا وإسبانيا وألمانيا، عزفوا لأول مرة فى مصر على الآلات الغربية، وقدموا أول معزوفاتهم 29 مايو 1825. وذكر المؤرخ «عبد الرحمن الجبرتي» فى كتابه «مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس» أن جنود الحملة الفرنسية عندما أرادوا احتلال «منطقة أبوزعبل وخانقاه سرياقوس» فى مايو1798 قاومهم أهالى أبوزعبل مقاومة شعبية عنيفة بالفئوس والهراوات، وفتكوا بالكثير من الفرنساويين وطاردوهم حتى خانقاه سرياقوس، واستولوا على كثير من معداتهم الحربية. ويوجد بجوار محطة السكة الحديد فى «أبوزعبل» ضريح الشيخ «محمد فياض» وهو أحد الفلاحين الذين قاوموا الحملة الفرنسية واستشهد مكان ضريحه يوم 17 مايو 1798، ومثله الشيخ «سعيد» وله ضريح قريب منه أيضا. وفى زمن دخول العرب وفدت على «أبوزعبل» قبائل من الحجاز والشام عن طريق السويس والصحراء الشرقية واستوطنوها، مثل «قبيلة بنى سابق» وكان منها أول عمدة لقرية أبوزعبل ويدعى الشيخ حسن سابق، وقبائل «السراج»، و«البدوي»، و«قريش» واتخذوا أحياءعرفت بأسمائهم، مثل «الجرايشة» التى سكنتها قبيلة قريش، و«الحمامصة» نسبة إلى مدينة حمص بالشام، و«السرايجة»، و«السوابقة» و«درب البدوى». وروى أحد المعمرى بالمنطقة حكاية طريفة عن تسميتها، وهى حكاية ليس لها سند تاريخي، وتعد من طرائف الثقافة الشعبية لأهالى أبوزعبل، فقال إنه كان يوجد قديما طريق بين القاهرة وغزة مارا بالمطرية وعين شمس والخانكة وأبوزعبل إلى بلبيس حتى يصل إلى القنطرة والعريش، ونظرا لطوله فقد غرسوا على جانبيه آنذاك شجرا لحماية المسافرين من هجير الصيف ومطر الشتاء، وغرسوا فى كل مسافة نوعا معينا من الشجر، فمن القاهرة إلى المطرية كان الكافور، ومن المطرية إلى أبوزعبل الصفصاف، ومن أبوزعبل إلى بلبيس شجر «العبل»، وكانت أبوزعبل صحراء لا اسم لها، فكان المسافرون عندما يحطون رحالهم عندها للراحة ويسمون المكان «بو زعبيل» اشارة إلى شجر العبل، وتحرف الاسم إلى «أبوزعبل».
ومن الآثار الإسلامية النادرة الموجودة فى أبوزعبل إلى الآن «صهريج» كبير المساحة مقام على أعمدة رخامية بسقف هندسى رائع تتجلى فيه العمارة الإسلامية، ويشير الرواة إلى أنه كان يملأ بالماء فى عهد السلطان «صلاح الدين الأيوبي» عام 1150،، وأصبحت أبوزعبل الآن مدينة صناعية بعدما أقيمت على أرضها عشرات المصانع الكبيرة وارتفعت فى سمائها المداخن وملأت أرجاءها أصوات الآلات، ويرجع اختيارها لإقامة عشرات المصانع المهمة لقربها من القاهرة وسهولة المواصلات منها إلى كل الأنحاء، حيث يربطها بالقاهرة طريقان، المعاهدة الممتد من شبرا إلى بورسعيد، وطريق المرج، وبها طريق ثالث يؤدى إلى مصر الجديدة، وهى تحاذى ترعة الاسماعيلية.
ويربطها أيضا خط سكة حديد أنشىء فى 1910 يصل بين كوبرى الليمون فى رمسيس وشبين القناطر سابقا، وحاليا المرج شبين القناطر.
وأقيمت هناك أيضا أول محطة لإذاعة ماركونى البريطانية، التى منحتها الحكومة المصرية فى سبتمبر 1932 حق إنشاء محطة إذاعية يكون 55% من أسهمها ملكا للمصريين،
وخلد القدر اسمها عالميا فى «العدوان الثلاثي» عندما ألقى عليها المعتدون قنابلهم يوم الجمعة 2 نوفمبر 1956 واندحر المعتدون وعاشت أبوزعبل، وصباح 11 فبراير الساعة الثامنة وعشرون دقيقة عام 1970، فى فترة تغيير وردية العمال، ووفق شهود عيان من أبناء أبوعبل ما زالوا على قيد الحياة حدثت: «ضربة المصنع». حيث أغارت طائرات للعدو الإسرائيلى على «مصنع أبى زعبل»، الذى تملكه الشركة الأهلية للصناعات المعدنية 1970، وكان يعمل بطاقة 1300 عامل، وأسفرت الغارة عن استشهاد سبعين عاملاً وإصابة 69 آخرين، واحتراق المصنع، ضمن قرار الصهاينة بمهاجمة الأهداف المدنية المصرية لإجبار القيادة المصرية على قبول وقف إطلاق النار، ومنع استكمال حائط الصواريخ الذى سيقطع يد العدو وردع طيرانه، ووقع اختيارهم على عمال مصنع أبو زعبل فى 12 فبراير 1970 فى أولى مجازر ذلك العام ضد المدنيين العزل.
وكانت طائرات «فانتوم » إسرائيلية ضربت المصنع بقنابل «النابلم» الحارقة، وصواريخ قضت على أرواح 89 عاملاً، لتكتمل جريمة الكيان الصهيونى ومذبحته الغادرة بحق عمال مصنع أبو زعبل، وكانت حرب الاستنزاف بين مصر وإسـرائيل محصـورة فى حدود المواقع العسـكرية فى جبهة القتال. وإلى الآن اشخاص عاصروا هذا الحدث ويقال إنه خرج أهالى القرية فى هذا اليوم وقامو بإسعاف الجرحى والمصابين كما خرجت جنازة جماعية كبيرة للشهداء من أبناء أبوزعبل.

تعليقات

المشاركات الشائعة