تيريزا ماى من «ثاتشر 2».. لأسوأ رئيسة وزراء بريطانية


المصدر الأهرام اليومي . ahram.org.eg . أخبار العالم

قصة «العلاقة العاطفية» المركبة بين السيدة وحزبها..


«لن تسلم تيريزا ماى مفاتيح 10 دواننج ستريت بسهولة» و «أصابع ماى ملصوقة بالصمغ على الجدران»، كما يقول أحد المساعدين السابقين لرئيسة الوزراء البريطانية التى أعلنت أنها ستتنحى خلال المرحلة الثانية من مفاوضات البريكست لإقناع نواب حزبها بالتصويت لصالح خطتها المتعثرة حتى الآن. يعد تنحى أى رئيس وزراء بريطانى من منصبه «القرار الأصعب» فى أى مسيرة سياسية، فالمنصب هو «درة تاج» السياسة البريطانية.

لكن التنحى بالنسبة لماى ليس فقط «قراراً صعباً» بل «تضحية كبري». فالحزب هو كل حياتها، وعندما تطوعت لأول مرة به كانت تبلغ من العمر 12 عاماً فقط وكانت تقوم بتوزيع منشورات الحزب على الأحياء القريبة، ثم أصبحت عضوة وعمرها 16 عاماً فقط. ومنذ ذلك الحين كان الحزب هو حياتها وحياتها هى الحزب.
وإعلانها التنحى عن منصبها خلال الشهرين المقبلين لحماية الحزب من الانشقاقات وتمهيد الطريق لتمرير خطتها للبريكست هو «أكبر تضحية» يمكن أن تقدمها للحزب.
لكن السؤال هو هل ولاء ماى المطلق للحزب هو سبب انتهاء حياتها السياسية بتلك الطريقة المذلة؟.  
 البعض سيقول نعم فقد تعاملت ماى مع ملف البريكست بوصفه «ملفا حزبيا -شخصيا»، أى متعلق بحزب المحافظين الحاكم وبإرثها السياسى الشخصي، وليس بوصفه أكبر أزمة وطنية تمر بها بريطانيا منذ الحرب العالمية الثانية.
وفى سعيها لحماية حزب المحافظين من تناقضاته الداخلية بسبب الخلافات حول العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، نسيت ماى أن انقسامات الحزب أسقطت قبلها ثلاثة رؤساء وزراء على التوالي، وهم ديفيد كاميرون وجون ميجور ومارجريت ثاتشر وهى الرابعة.
لم تصنع ماى إذن الاستقطاب حول السؤال الأوروبي، فهو موجود وحاضر منذ عقود فى حزبها. لكن الطريقة التى أدارت بها ملف البريكست أسهمت فى تعزيز الاستقطاب السياسى فى بريطانيا وإدخال النقاش فى البرلمان حول خطة توافقية لطريق مسدود.


مستشاروها السابقون يقولون إن ماى وضعت دائماً نصب عينيها «التوازنات الداخلية» فى حزب المحافظين، فحاكت خطة بريكست «على مقاس حزب المحافظين وليس على مقاس بريطانيا».
فمنذ الأشهر الأولي، وضعت خطوطا حمراء تتصادم مع ما قد يقبله حزب العمال المعارض بزعامة جيرمى كوربين ومن بين تلك الخطوط الحمراء خروج بريطانيا من اتحاد التعريفة الجمركية والسوق الأوروبية الموحدة من أجل وقف حرية انتقال العمالة.
ثم قامت ماى بتفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة للخروج من الاتحاد الأوروبي، بدون أن تختبر ماذا تريد الأغلبية البرلمانية. وبعد ذلك انحازت للجناح المتشدد فى حزبها المناوئ للاتحاد الأوروبى عند كل أزمة، ثم حددت بشكل «تعسفي» موعد خروج بريطانيا من الاتحاد، 29 مارس 2019، وذلك قبل أن تبدأ مفاوضات حقيقية مع الاتحاد الأوروبي.
ثم نكثت ماى بهديها الكبيرين منذ عام 2016 وهما «لا اتفاق... أفضل من اتفاق سيئ» و «بريطانيا ستخرج من الاتحاد الأوروبى يوم 29 مارس» (شعار رددته أكثر من مائة مرة) بدون أن تنجح فى إيجاد بدائل.
هذه الأخطاء الاستراتيجية فى إدارة ملف البريكست تراكمت تدريجيا، وتركت بريطانيا اليوم فى حالة من الفوضى والانشقاقات غير المسبوقة.  
 تضحية دون طائل
 وحتى بعدما أعلنت ماى أنها ستتنحى من منصبها فى حالة تمرير خطتها للبريكست فى البرلمان، فإن عددا قليلا من نواب حزب المحافظين أظهروا رغبة فى دعمها.
بعبارة أخرى «أطلقت ماى النار على زعامتها» بدون أى طائل، فحظوظ خطتها فى النجاح فى البرلمان ما زالت ضئيلة جدا. ومع ذلك لا حل لدى ماى سوى إعادة تقديم الخطة لتصويت ثالث. وهي ترمى النرد على طريقة «أنا وحظي»، وتدرك أن حظها فى الواقع كان عثرا للغاية حتى الآن وليست هناك أى مؤشرات على أنه سيتغير للأحسن.  
فالمزاج العام فى بريطانيا تغير بشكل جذرى خلال الأسبوعين الماضيين. وبعدما كان هناك كثير من التعاطف مع ماي، تحول إلى استياء وامتعاض بسبب عنادها وضعفها، وهذان مزيجان قاتلان فى السياسة. ثم جاءت القشة التى قصمت ظهر البعير بعدما ألقت ماى الأسبوع الماضى بكلمة لنواب البرلمان تحملهم مسئولية فشل البريكست وتحرض عليهم الشارع البريطاني. وفى أقدم ديمقراطية ــ برلمانية فى العالم، فإن تحريض الشارع على النواب هو «جريمة سياسية» لا تغتفر.
دومنيك جريف، النائب العام السابق والعضو البارز فى حزب المحافظين قال: «لم أشعر فى حياتى بالعار من كونى عضواً فى حزب المحافظين أكثر من اليوم».
آنا سوبري، النائبة التى استقالت قبل أسابيع من حزب المحافظين الحاكم، قالت إن «تقصير ماى فى أداء الواجب هو الأسوأ لأى رئيس وزراء بريطانى فى التاريخ».
 إرث سياسى رديء جداً:
 الآن وماى تستعد لمغادرة مقرها فى 10 دواننج ستريت المكان الذى تحبه أكثر من أى مكان آخر، فإن السؤال حول إرثها السياسى سيكون مؤلماً جداً لها.
فإرث ماى السياسى «رديء جداً»، وهى فى نظر الغالبية «أسوأ رئيس وزراء فى تاريخ بريطانيا». طبعاً لم يحالفها الحظ لأنها تولت السلطة وبريطانيا ما زالت فى حالة ذهول بعد نتائج استفتاء 2016.
لكن ماى لم تساعد نفسها. فالطريقة الفوضوية التى أدارت بها ملف البريكست أسهمت فى زيادة الاستقطاب داخل الحزب والبرلمان والبلد.
وفى تصويت الأسبوع الماضى حول استبعاد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى «من دون صفقة» صوت عدد من وزراء الحكومة لصالح القرار وعلى رأسهم وزير العدل ديفيد جوك ووزيرة العمل والمعاشات أمبر راد، ووزير الأعمال والاستثمارات جريج كلارك.
لكن، وفى التصويت على تأجيل البريكست لما بعد 29 مارس الجاري، صوت ضد القرار عدد كبير آخر من الوزراء على رأسهم وزير البريكست شخصيا ستيفن باركلى ووزير التجارة الدولية ليام فوكس، ووزير الدفاع جافن ويليمسون، ووزير المواصلات كريس جريلينج ووزيرة التعاون الدولى بينى موردنت،  وزعيمة حزب المحافظين فى مجلس العموم اندريا لادسوم.
وهذا يعنى أن الحكومة، وأيضاً الحزب الحاكم والبرلمان والبلد كلها، منقسمة أفقياً وعرضياً إزاء البريكست.
وهذا إرث سياسى لا يشرف.  
يضاف إليه أن ماى بسبب استغراقها فى ملف البريكست لم تول أهمية لأى ملفات أخرى ومن بينها الاقتصاد والجريمة واصلاح برامج الدعم الاجتماعي. أما الفوضى العامة الحالية فقد أضرت بصورة ومكانة بريطانيا الدولية.
طبعاً من عدم الانصاف إلقاء مسئولية حالة الغموض والفشل السياسى الحالية على تيريزا ماى وحدها. فحزب المحافظين منذ دخلت بريطانيا «المجموعة الأوروبية» فى السبعينيات وهو منقسم على نفسه إزاء عضوية المجموعة التى أصبحت لاحقاً «الاتحاد الأوروبي»، وهو مشروع انتقل خلال العقود الماضية من كونه «سوقا مشتركة لتبادل السلع والخدمات» إلى أقرب لـ»الولايات المتحدة الأوروبية» بسياسات خارجية منسقة، وربما قريباً جيش مشترك.
 إسقاط ثانى امرأة من زعامة الحزب
 كان البعض يراهن أن كون ماى امرأة، قد يكون نقطة قوتها أمام معارضيها فى حزب المحافظين.
فلدى الحزب ذاكرة سابقة سيئة عندما أطيح بأول امرأة فى بريطانيا تنتخب رئيسة للوزراء وهى مارجريت ثاتشر. فعلى أرضية الخلافات حول العلاقة مع الاتحاد الأوروبى «تآمر» عدد من الوزراء ضد ثاتشر ونفذوا ضدها «انقلاب قصر». وظلت ذكريات المؤامرة ودموع بعض الوزراء من بينهم مايكل هيزلتين بعد اطاحتها ماثلة فى الأذهان. وكانت المراهنة أن الحزب لا يمكن أن يطيح بامرأتين بنفس الطريقة. لكن ماى خسرت الرهان، فهى وإن لم تتم الإطاحة بها بشكل مباشر، إلا أنها أجبرت على التنحى على غير إرادتها. فالمحافظون كحزب معروف بسمعته الشرسة مع قادته الذين يخسرون دعم الشارع أو الحزب.
تحب تيريزا ماى أن تٌقارن بمارجريت ثاتشر. لكن الحقيقة أنها أقرب إلى رئيس الوزراء البريطانى الأسبق إدوارد هيث، الذى أطاحته تاتشر. هذا التشبيه لا يروق لماى على الإطلاق، فهو ليس مجاملة، بل بالأحرى إدانة لشخصيتها وللطريقة التى تحكم بها. فقد أدخل هيث بريطانيا المجموعة الأوروبية عام 1973 وسط انقسامات سياسية وشعبية حادة، ولم يكترث بسبب طبيعته احادية الجانب لأى رأى آخر، وجعله عناده أسوأ عدو لنفسه حتى تمت اطاحته. واليوم تفعل ماى نفس الشيء، تُخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى بخطتها، رافضة أن تنظر فى أى بدائل أخري، فيما عنادها يجعلها أسوأ عدوة لنفسها. عندما هُزم هيث أمام حزب العمال فى انتخابات مبكرة عام 1974، قيل إنه «انتحر سياسيا ولم يطحه أحد بسبب طريقته المسممة فى ادارة البلاد»، وعلى الأغلب خلال فترة قصيرة سُتتردد نفس العبارة عن ماي، سيقال إنها «انتحرت سياسياً ولم يطح بها أحد».

تعليقات

المشاركات الشائعة