صباح الدم.. صباح الكآبة
جمال سلطان
أفقنا صباح الأربعاء على الكابوس الذي كنا نتحاشى سماع نبئه ونتهرب من رعبه وكآبته، وكنا نأمل في أن تسير الأحداث السياسية المحتقنة في البلاد بعيدًا عنه، وقع المحذور، وقررت الحكومة الجديدة تنفيذ قرارها بفض اعتصامي رابعة العدوية وميدان النهضة، وحتى هذه الساعة التي أكتب فيها ـ ظهر الأربعاء ـ تقول التقارير المتطابقة إن الشرطة أنهت بالفعل اعتصام النهضة، وتمت السيطرة على المكان باستثناء اشتباكات غامضة بين الأمن ومعتصمين في داخل كلية الهندسة، وهي الملاصقة لحديقة الحيوانات المقابلة لميدان النهضة، وهناك على الطرف الآخر مشهد غير معروف معالمه في ميدان رابعة العدوية، وهو الأكثر خطورة وحساسية، نظرًا لأن أعداده أكبر من ميدان النهضة، كما أن عددًا من القيادات الإخوانية يقيم داخله، وبالتالي يمكن فهم أن المقاومة فيه ستكون ضارية، فهل ستؤجل الداخلية الحسم اتقاءً للمزيد من الدماء؟ أم أن القرار أن يتم إنهاء الأمر أيًا كانت التكاليف؟ وما بين بيانات الداخلية وبيانات وزارة الصحة وبيانات الإخوان تضيع الحقيقة في عدد الضحايا وحقيقة الإصابات، هناك أيضًا أحداث عنف في عدد من المحافظات كاعتداءات على أقسام الشرطة أو حرق سياراتها أو اقتحام بعض المنشآت المدنية مثل المجالس المحلية، وهو غضب متوقع لأن ملايين المتعاطفين مع الرئيس السابق سيشعرون بالإحباط من قمع احتجاجهم بطريقة عنيفة، كما أن هذين الاعتصامين كانا أهم ورقة في يد جماعة الإخوان للضغط على السلطات الجديدة، والحقيقة أن تصاعد العنف بهذه الوتيرة، والمزاعم التي تتردد عن استخدام بعض الشباب الغاضب للسلاح ضد الشرطة وحرق الأقسام ونحو ذلك، يعني أن المواجهة لم تعد تقبل الحلول الوسط، وأن حسم الموقف على الأرض بشكل نهائي سيكون حتميًا، هنا أو هناك، وهذا ما كنا نحذر منه طوال الفترة السابقة، ونؤكد على أهمية ألا ندفع بالأمور إلى حد المعادلة الصفرية، لأن ذلك سيجعل تكاليف المواجهة باهظة، كما سيقطع كل خيوط التسوية السياسية، لأن أحد الطرفين سيكون قد سحب الورقة الأخيرة من الطرف الآخر، فلم يعد هناك ما يدعوه للتفاوض أو الوصول إلى حلول وسط، كما يبدو أن جماعة الإخوان وقعت في المحظور الذي نبهنا إليه أيضًا قبل عشرة أيام، عندما كتبت في هذه الزاوية أن الجماعة تخطئ التقدير في حساباتها مرة أخرى، ويبدو أن زيارة الوفود الغربية أعطت رسالة خاطئة لقيادات الجماعة، وتصورت أن السلطات الجديدة أضعف من أن تتخذ قرارًا بإنهاء الاعتصامات، وأنها واقعة تحت ضغط دولي سيجبرها على تقديم التنازلات القاسية للجماعة، وأن المجتمع الدولي لن يقبل المساس بالوجود السياسي لجماعة الإخوان في مصر، وكل تلك التصورات كانت خاطئة ومدمرة إذا بنيت الحسابات السياسية عليها، كنا نكتب بكل الإخلاص من أجل تنبيه الجماعة وحلفائها إلى خطورة ما هم مندفعون فيه، وكنا ننصح من قلوب تتقطع على ما نراه رأي العين من منحدر خطير يدفع إليه تشنج وجهل بعض "شيوخ" الجماعة وعجائزها الذين كانوا يصنعون أوهامًا يبثونها للشباب في منبر رابعة وعبر شبكات التواصل الاجتماعي فيغيبون عقولهم عن إدراك الواقع ويبنون خططًا وتصورات بناءً على هذه الأوهام التي كانت ـ مع الأسف ـ تجد من يصدقها في الداخل والخارج، ثم تمسكنا بالأمل الأخير في أن يستجيبوا لمبادرة شيخ الأزهر التي استجاب لها كثيرون، وكانت فرصة لحل سياسي مصري يرعاه أحد أبرز شهود وضامني خريطة المستقبل في إعلانها الشهير، ومؤسسة لها هيبة واحترام تجبر الجميع على انتظار كلمتها، لكن الجماعة رفضت الفرصة الأخيرة باستهتار بالغ وأعادت تجريح شيخ الأزهر وإهانته من جديد. لم يعد للكلام معنى، فقد انتهت كل عروض التفاوض والحوار وفشلت كل المبادرات، وأصبحت القوة الخشنة هي التي تحدد المسار الآن، وأعتقد أن لغة السياسة فيما يخص مستقبل جماعة الإخوان ودورها قد انتهت، وأن جيلاً بكامله من جماعة الإخوان المسلمين في مصر خرج من المشروع الدعوي والسياسي معًا، وأن الآمال ربما تنعقد على جيل شاب جديد من أبناء الجماعة يمكن أن يفتتح تاريخًا جديدًا من الحراك السياسي المنفتح على الوطن كل الوطن، وأقل ارتهانًا للماضي وأدبياته المتكلسة ومظلومياته التي تحبط أي انفتاح حقيقي على "العالم" الجديد، .. رحم الله شهداء الوطن من كلا الجانبين، فالمؤسف أن كل الأطراف تعمل بكل تفاني وإخلاص وربما تهور من منطلق أنها تؤدي رسالة تجاه وطنها، وأسأل الله أن يعصم دماء بني وطني وأن يتوقف نزيف الدم الحرام، كما أرجو أن تكون هناك إجراءات لاحقة عاجلة لتفريغ احتقانات النفوس، وأن تتنزه كل القوى والتيارات عن أي قول أو سلوك يعيد شحن الصدور بالكراهية والغضب، لأن عنف الواقع يبدأ شحنًا في النفوس وقهرًا وإحباطًا، ومن يريد بإخلاص أن يحمي الوطن من العنف، فعليه أن يعمل بكل سبيل على تفريغ احتقانات النفوس وألا يدع الملايين من أبناء التيار الإسلامي فريسة لمشاعر الإحباط أو الشعور بالهزيمة السياسية، فذلك خطر كبير.
المصدر المصريون
تعليقات
إرسال تعليق