"الألعاب النارية".. الموت أو الإعاقة بخمسة جنيهات

ألعاب نارية تنطلق لتزيين سماء العاصمة، أعناق مشرئبة تراقب ألوانها الزاهية، صيحات تتعالى من الحاضرين تعلن معها استقبال عام جديد.. هذا هو المشهد الخارجى الذى عكسته شوارع المدن فى مصر وخارجها منذ أيام قليلة، ولكن هناك مشهد آخر خفى لم ينتبه إليه سوى أطباء الاستقبال فى قسم الجراحة والتجميل بمستشفى الدمرداش يسمعون صراخ أهالى أربعة أطفال وبالغين قُدر لهم أن يتأهبوا لاستقبال الساعات الأولى من هذا العام بدون أطراف بسبب تلك الألعاب. لم تكن الحالات الأربع السابقة وإن كانت الأحدث هى الوحيدة التى خسرت أطرافها وتعرضت لعجز كامل بسبب فرحة وقتية تتسبب فيها تلك الألعاب، فقد سبقها فى سجلات قسم الجراحة والتجميل بالمستشفى نفسه 166 حالة فقدت أجزاء مختلفة من جسدها خلال الستة أشهر الأخيرة ليصل عدد المصابين إلى 170 حالة»، وفقا لما ذكره الدكتور محمد السيد نائب رئيس القسم، موضحا الوضع الذى يشهده مكان عمله، حيث يستعد بشكل يومى لاستقبال حالة جديدة، يقول: يوميا أنتظر مكالمة من عاملى الاستقبال يخبرونى فيها عن قدوم حالة مصابة بعجز تام فى أطرافها، من الحالات من يمكننا إنقاذه، ومنها من نضطر آسفين لرفضه أو بتر عضوه بشكل كامل. «ياسمين» فقدت أصابعها بعد خطبتها بأسبوعين فى منزل متواضع بمنطقة مساكن السلام وداخل غرفة لا تتجاوز مساحتها بضعة أمتار، لازمت «ياسمين» ابنة التسعة عشر عاما فراشها مكتفية بالحديث وتحريك رأسها يمينا ويسارا لتتواصل مع أهلها، بعدما أخبرها الأطباء بضرورة مكوثها فى الفراش لحين التئام الجرح. «ياسمين» كغيرها احتلت رقما فى تلك السجلات وسط الحالات المصابة، عندما قررت أن تحتفل مع صديقتها بصاروخ - أحد أصناف الألعاب النارية - لم يتعد طوله 10 سنتيمترات فكانت النتيجة أن فقدت أصابع يدها اليسرى. وتقص ياسمين واقعة إصابتها قائلة: اشتريت صاروخا وذهبت لحضور فرح إحدى صديقاتى أشعلته فانفجر فى يدى، وكانت هذه هى المرة الأولى ولم يخبرنى البائع بطريقة استخدامه، لم أشعر وقتها بأى شىء ولم أر سوى أصابعى تتطاير أمام عينى، ولم أسمع سوى صراخ أهلى حولى، ذهبنا على الفور لأحد المستشفيات فرفضوا استقبالى فتوجهنا لمستشفى الدمرداش وأجرينا الفحوصات والأشعة المطلوبة، ومكثت هناك يومين بعد إجراء عملية ترقيع ليدى بالاستعانة بشريحة جلدية من ساقى. ياسمين التى لم تتخيل يوما أن يتسبب صاروخ لم يتجاوز ثمنه خمسة جنيهات فى إحداث إعاقة لها تقول: أحذر كل من يريد شراء تلك الألعاب النارية فمن الممكن أن تدمر حياتك، ففى ساعات قليلة تحول يوم كامل كان من المفترض أن تسوده البهجة إلى حزن وصريخ وبكاء، وتتساءل أمها: كيف يتحول مصير ابنتى التى لم يمر سوى أسبوعين على خطبتها إلى هذه الحالة، لا أقول سوى حسبى الله ونعم الوكيل فيمن يجلب هذه الأشياء إلينا. «طارق» محروم من أصدقائه ويتمنى الموت كل لحظة بالرغم من حداثة سنه، لكن لسانه لم يكف عن الدعاء والتوسل إلى الله بأن يقبض روحه بدلا من أن يعيش بشكل غير طبيعى محروم من مشاركة رفاقه لحظات الجد والمرح.. هذا هو حال طارق ابن الأحد عشر عاما، والذى فقد أصابع يده بسبب صاروخ كياسمين. الأول من نوفمبر الماضى، تاريخ راسخ فى ذهن والديه، تتذكر أمه الكلمات التى وقعت على سمعها عندما أخبرها أحد الجيران قائلا: «أصابع ابنك طارت»، تقول الأم: فى السابعة مساء وجدت أحد الجيران يهاتفنى ويقول ما حدث، بعدما حصل ابنى على الصاروخ من رفيق له وقام بإشعاله مستغلا عدم تواجدنا فى المنزل، ذهبنا بطفلى إلى مستشفى الدمرداش بمعاونة أهل الخير، وجدت يد طفلى تنفجر منها الدماء من كل جزء ولم أسمع سوى صراخه بعدما نجح الجيران فى إطفاء النيران التى اشتعلت فى أصابعه بعد انفجار الصاروخ فى يده. وتضيف: ظل ابنى ينتظر قرابة الساعة والنصف لحين قدوم الطبيب، فى هذا الوقت كانت دماؤه قد أغرقت ممر المستشفى، أجروا له الفحوصات اللازمة والأشعة، وحاول الأطباء تنظيف مكان انفجار الصاروخ وأجروا له العملية، وتم احتجازه داخل المستشفى لمدة أسبوعين أجرى خلالهما 5 عمليات. وتستكمل وصف حالة صغيرها قائلة: أجروا له عملية ترقيع بالاستعانة بشريحة جلدية من ساقه اليسرى، وبعد ذلك اضطر الأطباء لزراعة ما تبقى من صوابعه فى الطبقة الأولى من جلد البطن حتى تتم زراعة جلد اليد، وحاليا طارق يعانى من مشكلة كبيرة فى ساقه ولا يمكنه السير وينزف دائما، وبسبب ضعفه الشديد قام الأطباء بإعطائه مجموعة مقويات أحدثت له مشاكل عديدة فى المعدة بعد ذلك، والغريب أنه بعد كل هذه الإصابات والضحايا فإن تلك الألعاب يتم بيعها علنا فى الشوارع. فى الوقت الذى يستعد فيه رفقاء طارق لامتحانات نصف الفصل الدراسى الأول، ينتظر طارق دوره لإجراء العمليات التالية وبعدها يبدأ جلسات العلاج الطبيعى: يقول الابن الوحيد لهم: أنا بحب الامتحانات أوى، نفسى أرجع أذاكر وألعب مع أصحابى، أنا أول مرة أمسك صاروخا فى إيدى ومعرفش بيولع إزاى، أنا عايز كل الأطفال فى سنى يسيبوا الحاجات الوحشة دى. الأضرار تبدأ ببتر الأصابع وتصل إلى العمى يؤكد الخبراء من المجلس الوطنى للسلامة فى مجال الألعاب النارية فى الولايات المتحدة الأمريكية، أن مخاطر الألعاب النارية تشمل الحروق والإصابات معظمها فى اليدين والعين والوجه، ووفقاً لتقرير أعدته الجمعية الأمريكية للجراحة التجميلية والترميمية، فإن الأطراف تعد أكثر المناطق تعرضاً للأذى. ويستند التقرير إلى دراسة إحصائية أجريت فى الولايات المتحدة الأمريكية، أظهرت أن ثلاثة وخمسين فى المائة من حوادث الإصابة الناجمة عن استخدام المفرقعات والألعاب النارية تكون فى الأطراف، بينما شكلت إصابات الرأس والوجه ما يقارب من %42 من حالات الإصابة، أما الإصابات فى العين فقد بلغت %21، وانتهت فى العديد من الحالات إلى فقدان البصر. كما بلغت نسبة إصابات الحروق نحو %60 من مجموع الحالات. «المشكلة ليست بسيطة، فهذه الألعاب تباع علنا وفى أغلب الأحياء وتصبح فى يد الجميع بسبب رخص ثمنها الذى لا يتجاوز 5 أو 10 جنيهات، بمعنى أنك تقول للشخص بهذا المبلغ الزهيد ستصبح عاجزا وهو ما تتم ترجمته إلى زيادة عدد المصابين والوافدين إلى قسم الاستقبال بسبب الألعاب النارية».. بهذه الكلمات بدأ الدكتور محمد السيد، نائب رئيس قسم الجراحة والتجميل بمستشفى الدمرداش حديثه، مضيفا: مع كثرة الإصابات والحالات يكون المتوقع قبل معاينة الإصابة أنه سيحدث هناك بتر فى «أصبع أو اثنين»، وهذه مشكلة تتم مواجهتها يوميا وهو أمر يضع المريض فى عدة مشاكل لا تتوقف عند البتر وإنما العجز، أى أنه تحول إلى شخص عاجز يخضع إلى عدد كبير من العمليات لأن مريض أو مصاب الألعاب النارية لا يمكن التعامل معه بسهولة، والمشكلة أن حالات الإصابة متزايدة فى الأطفال، لأنهم أكثر الشرائح استخداما لتلك الألعاب الخطرة، وهناك أيضا علاقة وطيدة بين المناسبات السعيدة وتزايد معدلات الإصابة، وذلك بسبب استخدام تلك الألعاب، سواء فى الأعياد المختلفة أو أعياد الميلاد. ويتابع: خلال عيد الأضحى الماضى حضر طفل يبلغ من العمر 7 سنوات بعد حصوله على «العيدية» قام بشراء ألعاب نارية بمبلغ 10 جنيهات تسببت فى بتر كف يديه من تحت الساعد، وكتب عليه أن يتحول إلى شخص عاجز طوال عمره، إذن من المسؤول عن ذلك؟ هل الطفل الذى كان يريد أن يفرح أم الشخص الذى قام باستيراد شحنة من هذه الألعاب أو الشخص الذى قام ببيعها وهدفه فقط الربح؟ ويسرد السيد قصصا مختلفة عاصرها فى محل عمله قائلا: رامى أحد المصابين فى القسم متزوج حديثا ورزق بأول مولود له، من شدة فرحته قام بشراء صاروخ وأشعله فانفجر فى يده، لم ير ابنه لمدة شهر، والآن ما تبقى من يده مجرد عُقلة أصبع فقط، ومريض آخر انفجرت يده ولم يتلق العلاج لمدة عام كامل بعد بتر أحد أصابعه، وكان البديل هو أخذ أحد أصابع القدم وزرعها فى اليد كبديل عن الأصبع الذى تم بتره». «الجمارك» بوابة تهريب الألعاب النارية لمصر فى تقرير صادر عن مصلحة الجمارك مؤخرا، تم الإعلان عن ضبط 622.9 ألف من الألعاب النارية فى حاوية قادمة من الصين، وفى عام 2013 أعلنت المصلحة نفسها عن ضبط 21 ألفا و480 كرتونة تتضمن 205 ملايين و290 ألف قطعة ألعاب نارية تقدر قيمتها بـ106 ملايين و353 ألف جنيه. فى حكم المفرقعات حالات الضبط السابقة تأتى كنتيجة طبيعية لإدراج هذه الألعاب النارية فى جدول المفرقعات، وحظر استيرادها أو المتاجرة فيها قبل الحصول على تراخيص من الجهات المعنية، وذلك وفقا لقانون العقوبات، حيث تنص المادة 102 منه على أن كل الألعاب النارية تدخل فى إطار المفرقعات، وتصل عقوبة من يتاجر فيها إلى السجن المؤبد أو الحبس ستة أشهر، وتضاعف فى حالة بيعها للأطفال. ولكن القوانين والتشريعات السابقة وإن كانت غير رادعة من وجهة نظر كثيرين على رأسهم أهالى المصابين، لم تمنع دخول تلك المحظورات مصر. أرصفة كثيرة فى المناطق الشعبية يفترشها تجار الألعاب النارية، فى الظاهر يعرضون أدوات الزينة وأعياد الميلاد، وفى الباطن بمجرد أن تسألهم عن الألعاب النارية تجدهم يسارعون فى الرد عليك موضحين الأسعار والكميات التى يمتلكونها.. وهذا ما حدث مع أحد الباعة بمنطقة مساكن السلام، فداخل مخزن فى الدور الأرضى بأحد العقارات المجاورة لمحل عمله، يحتفظ «و.ل» بكميات كبيرة من الألعاب النارية، تتنوع أسماؤها ما بين «تورتة الشيطان، البازوكا، الحجاب، العصا» وغيرها وكذلك تتفاوت أسعارهم لتبدأ من 5 جنيهات وحتى 250 جنيها. «و.ل» الذى قدم لنا نصائحه بصفتنا مجموعة شباب نريد البدء فى هذا النوع من الأنشطة – المتاجرة فى الألعاب النارية – كان على دراية تامة بعدم جواز الاتجار فيها، وبالرغم من ذلك فهو مستمر فى هذا النشاط لأنه مربح من وجهة نظره قائلا: أخفى هذه الألعاب هنا لأنها ممنوعة، وبمجرد أن يراها أفراد الأمن سيقومون بتحريزها، فمؤخرا قاموا بأخذ بضاعة يصل ثمنها إلى 72 ألف جنيه. وتابع: إذا أردتم البدء فى هذا النشاط عليكم المخاطرة أولا بمبلغ صغير لا يتجاوز ألف جنيه، وفى هذه الحالة سأخبركم عن تاجر الجملة فى أحد الأسواق المعروفة لتجهيز الكمية التى ترغبون فيها. «و.ل» كغيره من الباعة البسطاء الذين يكتفون بافتراش الأرصفة فى المناطق الشعبية، أما «م.ع» فهو التاجر المورد له، والذى استقبلنا فور إخباره بالقصة نفسها وبدأت معه سلسلة العروض. بعيداً عن أعين الشرطة إخفاء الألعاب بعيدا عن رجال الأمن هو السمة المشتركة بين الممارسين لهذا النوع من التجارة، فالشىء نفسه فعله « م.ع » المستورد الذى اصطحبنا فى ممر ضيق بسوق الموسكى ونصحنا بالبدء بالألعاب السماوية أى التى يصل مداها للسماء مثلما يحدث فى الأفراح والمناسبات العامة برأسمال يبدأ من 1000 وحتى 5000. ويقول: فى البداية ستعرضون مجرد نماذج وإذا سألكم الزبون عنها سيكون لديكم الكميات التى تخفوها فى الداخل مثلما أفعل أنا وغيرى، وهكذا تقدم الكمية حسب الطلب، وبسؤاله عن كيفية دخول هذه الألعاب مصر إذا فى حالة حاجتنا لتوريد كميات للباعة فقال: إذا كان لديكم من يعاونكم فى الجمارك فهذا أمر هين، أنا أفعل ذلك وكل منا له طريقته فى إدخال هذه الألعاب، وحذارى أن ينكشف أمركم ستحدث مشكلة كبيرة. 21 مركبا كيميائيا فى مكونات الألعاب النارية قائمة طويلة من المركبات الكيميائية تدخل فى تصنيع تلك الألعاب وينجم عنها جملة من الأضرار والإصابات السابق ذكرها، ومنذ أن اخترعت الصين البارود الأسود، فى القرن الثامن عرف العالم الألعاب النارية، وتلاها بعد ذلك مجموعة دول مثل اليابان وإندونيسيا وباكستان والبرتغال وتايلاند والفلبين وجنوب إيطاليا وإسبانيا. وتعتبر تلك المادة هى أحد المكونات الأساسية لتلك الألعاب، وهى عبارة عن مزيج من الفحم والسولفر ونترات البوتاسيوم المعروف أحيانا بملح البارود. ومن أبرز مكونات تلك الألعاب أيضا الليثيوم والكربون والأكسجين، الصوديوم، المغنيسيوم، الألمونيوم، الفوسفور، الكبريت، الكلور، البوتاسيوم، الكالسيوم، التيتانيوم، النحاس، الخارصين، الأنتيمون، الباريوم، السيزيوم، الحديد والروبيديوم. ووفقا لقرار وزير الداخلية رقـم (1872 لسنة 2004) فقد تضمن جدول المواد التى تعتبر فى (حكم المفرقعات) وهى: البارود الأسود (الذى هو أساس صناعة الألعاب النارية)، والقطن الأسود، وثالث كلوريد النيتروجين، وغيرها من المواد. وبشراء عينتين من قبل أحد الباعة والرجوع إلى العقيد إبراهيم حسين، نائب مدير المفرقعات بالجيزة، قال: غالبية الألعاب يدخل فى مكوناتها البارود الأسود، ويشكل خطورة كبيرة على المستخدمين، لأن ضررها قد يصل إلى بتر عضو كامل فى الجسد، وعلى الرغم من أن القانون يجرم دخول مثل هذه الألعاب أو المتاجرة فيها إلا أنها للأسف مازالت تجارة رائجة تضاهى فى مكسبها تجارة السلاح والمخدرات، ولكنها تظل «جريمة»، وما نحتاجه فعلا هو تغليظ العقوبة، وتجفيف منابع هذه المواد لأنها أصبحت فى غاية الخطورة.

- تورتة الشيطان والعصا والحجاب أشهر أنواع الألعاب النارية والأسعار تبدأ من 5 إلى 250 جنيهاً
- «ياسمين» فقدت أصابعها بعد خطبتها بأسبوعين.. و«طارق» يتمنى العودة للمدرسة أو الموت بعد إعاقة يده





المصدر اليوم السابع



تعليقات

المشاركات الشائعة