تراب الوطن أغلى من كنوز العالم



المصدر الاهرام - القمص أنجيلوس جرجس

لا شك أننا نعيش فترة عصيبة فى تاريخنا وتاريخ العالم كله، فموازين العالم كله مختلة، ولا توجد معايير ثابتة للقيم تحكم ضمائر الذين يقودون العالم. ولكن تبقى المشكلة الكبيرة فى أبناء الوطن حينما ينظرون إلى حال الوطن بازدراء وسخرية دون أن يقدروا قيمة وطنهم، بل كان لابد أن يكونوا أمناء لتاريخ هذا الوطن ويبنوا الحاضر ليكون مجداً للمستقبل، فإذا تخاذلنا جميعاً فى حق هذا الوطن سيشهد التاريخ أنه عاش فى تلك الفترة بعض الأبناء لم يكونوا أوفياء بل تركوا الوطن يتحمل طعنات الغدر والخيانة ولم يسرعوا فى حمايته.
والوضع الحالى يذكرنى بقصة حدثت فى إحدى قرى سنغافورة كانت تلك الأم التى لها ابن وحيد تعمل فى إحدى المدارس التى كان يتعلم فيها وحيدها وكانت بالكاد توفر له معيشته خاصة أنها كانت بعين واحدة. ولم يعلم أحد كيف أو متى فقدت عينها؟ وذات يوم دخلت الأم على ابنها فى الفصل الدراسى لأنه كان قد نسى طعامه، فعلم الجميع أن زميلهم هو ابن العاملة التى بعين واحدة. فأخذوا يعايرونه، وخرج الفتى من المدرسة وذهب إلى الأم المسكينة وهى متعبة بعد يوم شاق فى العمل وصرخ فى وجهها، ألم أقل لك لا أريد أحداً أن يعرف أنكِ أمي؟ أنى أكره حياتى معكِ، أكره هذا الكوخ المتسخ، أكره رائحة عرقك واتساخ ملابسك. وذهب الولد فى آخر الكوخ وأخذ يبكي. أما الأم فلم تكن تعرف حتى أن ترد عليه، وكانت دموعها تنهمر من العين الوحيدة التى ترى بها. وذهبت إليه بعد أن أعدت له طعام الغداء وقالت له: أعدك يا ابنى ألا أكرر هذا الخطأ، وألا يعرف أحد مرة أخرى أن لك أماً بعين واحدة وملابس متسخة، سامحنى وقم لتأكل.
وتمر الأيام ويجتهد الولد فى دراسته حتى يستطيع أن يترك الكوخ الفقير ويهرب من أمه وكان كلما كبر زادت الأم من ساعات عملها حتى توفر له مصاريف التعليم، ولم تسمع كلمة شكر أو امتنان. وما إن أنهى دراسته الجامعية حتى سافر إلى المدينة. وكانت الأم قد أصابها المرض ولكنه لم يكن يبالى وسافر دون أن يعرفها مكانه فقد قرر أن يقطع علاقته بكل ماضيه خاصة أمه التى كانت سبب سخرية الآخرين بعينها الواحدة. وعمل فى مجال البنوك وتزوج وأنجب أطفالاً ثلاثة وصار مشهوراً. وبعد خمس سنوات أرسلت المدرسة إلى الأم دعوة ليوم لم الشمل وأخبرتها بأن ابنها صار من أهم رجال الاقتصاد فى سنغافورة، وعلمت الأم مكانه، وفرحت لأنها عرفت أنه صار له أولاد وباعت المسكينة ما تبقى عندها من متاع لتذهب إلى المدينة وترى ابنها الوحيد وأحفادها، ولوهلة ترددت وخافت أن يرفضها ولكنها طردت الفكرة سريعاً وقالت هذا كان فى الماضى الآن هو أب ويعرف معنى محبة الأولاد. وعاشت يوماً وليلة وهى تحلم بدفء اللقاء وأنها ستأخذه فى أحضانها. وأخذت تقول لنفسها سأحكى له عن أيام العذاب بعيداً عنه وهو سيمسح دموعي، وهنا وضعت يدها على عينها وتذكرت أنه قد لا يريد أن يرى عينها المفقودة ولكن سرعان ما قالت: لا لا إنها كانت أفكار الطفولة الآن ابنى نضج. وذهبت واقترضت ملابس نظيفة للقاء وأخذت القطار وسافرت، وكم احتملت مشقة السفر والسير وهى قد أنهكها المرض والفقر، ولكن كانت تقول: لا شيء يهم لأنى سأرى ابنى وأستريح أخيراً.
ودقت الباب وفتح أحد أحفادها الذى صرخ أول ما رآها وجرى الأب ليرى سبب صراخ ابنه وتسمرت قدماه فقد رأى أمه واقفة أمامه بعد هذه السنين فصرخ فى وجهها وقال: لماذا جئت لقد أفزعت أولادى أيتها المرأة؟ قد هربت من الماضى ومنك لماذا تلاحقيننى بوجهك المخيف؟ إرجعى حيث كنتِ. ولم تستطع الأم أن تنطق بكلمة واستدارت ببطء شديد وهى تتحامل على نفسها فقد فقدت القدرة على التحرك وأغلق الابن الباب وساعدها أحد المارة على المسير وركوب القطار. وبعد أيام وصلت رسالة إلى الابن بأن المدرسة ستكرمه ووالدته ويطلبون منه الحضور هو وأمه. وسافر الابن إلى قريته كى يطلب من الأم عدم الحضور، وأنه سيذهب بمفرده. وأخذ يقرع على باب الكوخ الصغير فخرج أحد جيرانه وقالوا له: من تطلب؟ فقال: المرأة التى تسكن هنا. فقالوا له: لقد ماتت منذ يومين. فهز رأسه باستخفاف، فسأله الجار: من أنت؟ فقال: أنا ابنها. فقال الجار: حقاً إنها تركت لك رسالة فوقف الشاب وانتظر. فأحضرها له وفتح الرسالة وأخذ يقرأها ووجد أمه تقول له: ابنى الحبيب طيلة عمرك وأنت تشمئز من عينى الواحدة وتحاول البعد عنى حتى لا يسخر أحد من أنك ابن امرأة بعين واحدة، ولم أحك لك أبداً لماذا فقدتها والآن أقول لك لماذا؟ وأنت صغير جداً فقدت أنت إحدى عينيك وأعطيتك عينى لتعيش أنت بعينين وأعيش أنا بعين واحدة. والآن بعد رحيلى أعلم يا ابنى كم كنت أحبك. وما إن قرأ الشاب هذا حتى إنهار وصار كالمجنون ودخل الكوخ يحتضن كل شيء تلامس مع الأم التى كانت كل أملها إسعاده وكان يقابل كل هذا بجحود، وعاش فيما بعد ولم يذق معنى السعادة لما فعله لأمه.
عزيزى القارئ وإن كانت تلك القصة حقيقية ولكننى أرى هذا الجحود أيضاً يتكرر لأمنا الوطن مصر. فكم من أبناء لها يريدون أن يهاجروا ويتركوها، وهى التى كانت رغم فقرها وعوزها تربى وتحمي. وقد لا تكون غنية ولكنها أحبت كثيرا. وهناك من يهاجر ويتنازل عن جنسيته أو يحاول أن يخفى أصله وارتباطه بها. هناك من يمسك سكيناً ويمزق جسدها أو يتآمر عليها، ولا يدرى هؤلاء وتلك كم عانت هذه الأم حتى يصير طفلها المدلل رجلاً. ولا يدرى هؤلاء أيضاً أن مصر هى الأم التى كانت تعول كثير من إخوانها الذين هم الآن أغنياء حين كانوا فى حالة عوز وفقر. ولا يدرى أيضاً هؤلاء أن أمنا مصر هى التى قدمت استنارة الروح والعقل فى زمن كان العالم يحبو فى مضمار العلوم. إن كانت هى الآن فقيرة من الخارج ولكنها تحمل تاريخاً من التضحية والبذل هو دين فى أعناق العالم كله، وإن كانت هى تعانى الآن ولكن معاناتها الحقيقية ليست فى أنها فقيرة ولكن فى جحود بعض أبنائها الذين لم يعرفوا قيمتها بعد.
فتراب الوطن أغلى من كنوز العالم، وكوخ صغير فى الوطن أكثر أماناً من قصور الغربة.
> كاهن كنيسة المغارة
الشهيرة بأبى سرجة الأثرية







اقرأ أيضاً :

-=======

جيش مصر

ضياع الأوطان باسم حقوق الإنسان!

رسالة المخابرات العامة

الأم بشاعة .. وتراجيديا الاستظراف

فى مشهد تاريخى .. حاملة الطائرات «أنور السادات» تنضم ل الأسطول المصرى


الحدأة البريطانية تجود بالكتاكيت !





تعليقات

المشاركات الشائعة