الكلام الجارح
المصدر الاهرام . بريد الجمعة
أبعث برسالتى إليك للمرة الثانية فربما تكون رسالتى الأولى قد تاهت مثلما تاهت بسمتى مع الأيام، فأنا سيدة تجاوزت الثلاثين من عمري، ولدىّ أطفال من تجربة زواج انتهت منذ قرابة عشرة أعوام،
أبعث برسالتى إليك للمرة الثانية فربما تكون رسالتى الأولى قد تاهت مثلما تاهت بسمتى مع الأيام، فأنا سيدة تجاوزت الثلاثين من عمري، ولدىّ أطفال من تجربة زواج انتهت منذ قرابة عشرة أعوام،
وقد تفتحت عيناى منذ صغرى على أبى الذى وجدته بخيلا فى كل شيء حتى فى العاطفة والعلاقات الإنسانية، إذ إنه لا يبالى بمن حوله, ولا يسأل إلا عن نفسه, بل لا يستحى من أن يردد شعار أنانيته لأقرب الناس إليه، وإذا حاول أحد مناقشته فى ذلك أخذته العزة بالإثم، وهاج وماج مدافعا عن موقفه موضحا أسباب أنانيته وفوائدها, فهو رجل يعشق الهمجية, ويسعى جاهدا إلى أن يظهر أمام الجميع بأنه محتاج، ولا يملك شيئا, ويدّعى على غير الحقيقة بأنه مدين لمن نعرفه, ومن لا نعرفه, لدرجة أنه كان يطمس فرحة أى شيء جديد يشتريه لنا، قائلا أنه استدان ثمنه, وحتى الطعام حرص فى أوقات كثيرة على أن يخبرنا بأنه اشتراه على الحساب من أحد البقالين! وهو يفعل ذلك مع أنه موظف كبير فى إحدى الشركات المعروف عنها كثرة المزايا التى تقدمها لموظفيها.
والحقيقة أننى لا أتذكر يوما واحدا سمعته يقول فيه: إننا مستورون، وحدّثنى أحد إخوتى ذات يوم مستنكرا ما يدّعيه والدنا، قائلا: لو أن أحدنا مات الآن، فمن أين سنأتى بثمن الكفن؟!، والمدهش أنه زاد فى ادعاء الفقر حتى بعد أن كبرنا، لكنه كان للأمانة يتحمل ثمن الدروس الخصوصية!
أما العيد الذى يفرح فيه الصغار بالعيدية والملابس الجديدة, فلقد كان هما علينا، وإذا لم تستطع والدتى تدبير مثل هذه الأمور على مدار العام كله كان العيد يأتى ثم ينفض دون أن نحس به أو نشعر بلذته، وأمى على النقيض منه، فهى أقرب إلى الملائكة, وعرفت العمل منذ صغرها, ولم أرها تصرف مليما واحدا على نفسها، وهى قمة العطاء والتفانى وخدمة الآخرين بلا مقابل، ويشهد لها كل من يعرفونها بذلك.
وليت أبى توقف عند حد الأنانية والبخل الشديد, فلقد كان يذيق أمى الأمرين، وكنا نسمع إهاناته المستمرة لها, وهى تواجهها بالصمت والصبر.. الصمت لكى لا يتمادى فى ثورته وعصبيته والصبر لأجلنا، وكانت تفهمنا من عيوننا, ولا أستطيع أن أصف لك سعادتها إذا قال لها أحدنا كلمة حلوة, وكنت أرى ملامح الرضا على وجنتيها, وأشعر بأن الزمن عاد بها إلى الوراء حيث النضارة والبشر والسرور، فهى صاحبة وجه جميل وتتميز بعاطفة جياشة على عكس أبى الذى كان دائم العبوس فى وجوهنا, بينما نراه خارج المنزل كثير الضحك، ولا أتذكر أبدا أنه تحدث معنا عن مشكلاتنا, أو حتى ترك لنا مساحة للفضفضة فى حين كانت أمى معنا كالأسد فى قوته والفراشة فى رقتها، فلقد احتضنتنا ولم تبخل علينا بشيء حتى بعمرها..
وكنت أكثر إخوتى تمردا على هذه الظروف, وكثيرا ما حمستها على المطالبة بحقها مثل باقى الزوجات فى مصروف للبيت, لكنه لم يفعل وكان ما يعطيه لها ملاليم تقل عن المصروف الشخصى لأى تلميذ, وفاض بها الكيل فأقسمت له أنها لن تمد يدها إليه طوال حياته محتسبة ما لها عند الله فلم يتحرك ضميره وتمادى فى إيذائه لها.
ووصلت إلى سن المراهقة, ولأننى جميلة مثل أمي, توافد علىّ العرسان لكنى رفضتهم واحدا وراء الاخر لا لشيء إلا لأن أبى سوف يدعى أنه لا يملك شيئا.. وبمرور الأيام ظهر فى حياتى شاب حسبته طوق النجاة لي, فعقدت قرانى عليه دون علم أسرتي, وفى ليلة الزفاف أخبرت أمى ليلا عن طريق التليفون فانهارت باكية, وسمعت صرخاتها فلم أتمالك نفسى من شدة البكاء, وسمعت أبى وهو يصب عليها لعناته بأنها دللتنى زيادة عن اللزوم, وهذا هو نتيجة ما صنعت!.. فعل ذلك ولم يسأل نفسه عما دفعنى إلى الزواج سرا، وتصورت أننى خرجت من سجن أبى إلى جنة زوجى.. لكنى اكتشفت أنه مدمن وضعيف الشخصية أمام أهله ووقع الطلاق وعدت إلى منزل أبى ومعى طفلان, فلم أجد غير حنان أمى التى هونت علىّ الكثير من المتاعب, وساعدتنى فى تربية ابني.. ثم تزوج إخوتى واحدا وراء الآخر وواحدة وراء الأخرى بعد سلاسل من الفضائح فى أثناء عملية التجهيز.
وبينما نحن على هذه الحال رحلت أمى بعد فترة مرض قصيرة جدا أحسبها أنها كفّرت ما علق بها من ذنوب البشر, وآعتقدت أن أبى سوف يتغير وسيعيش حياته مثل باقى الناس فيعطى ويزرع ليأخذ ويحصد.. ولكن هيهات لمثله أن يتغير. أما أنا فلقد أخذت العبرة من فراق أمى وحاولت أن ألعب دورها معه قدر الإمكان.. لكنه مارس أنانيته معى كعادته, أما مع طفلى فكان أبا رائعا بالكلام فقط وتحملت مسئوليتهما بمعاش والدتى وبالنفقة التى أقاسى العذاب أشكالا وألوانا لكى أحصل عليها من أبيهما.
ولم تفارقنى صورة أمى لحظة واحدة ولاحظ ذلك الكثيرون فأشاروا علىّ بالذهاب إلى طبيب نفسي, فأصبحت زبونة دائمة على العيادات، وانزويت فى ركن من المنزل وقاطعت أبي, وطبعا كان سعيدا بهذه القطيعة.
وفى غمرة الأحزان, اقتربت منى إحدى صديقاتى وتحدثت معى كثيرا ثم قالت لى إن الحل الوحيد لما أنا فيه هو الزواج.. وخرجت من عندى وأنا أفكر فى الأمر، وظللت أدعو الله أن يرزقنى زوجا صالحا حتى ظهر لى شاب لم يتزوج من قبل, وإن كان لا يخلو من العيوب, ففاتحت أخى الأكبر فى الموضوع فظهرت عليه علامات الدهشة وعدم الرضا.. فأنا خادمة له ولن يتخلى عنى بهذه السهولة! واتضح موقفه تماما أمام العريس حيث كبله بعدة طلبات تكفى لتطفيش أى إنسان!.. لكنه تمسك بى, فكان آخر ما قاله له هو أننى أتقاضى معاشا عن والدتى وإذا تزوجت سيتم قطعه وبالتالى لن أجد ما أنفقه على ابني! وظل يتذرع بحجة تلو الأخرى، فطلبت من أحد أقاربنا أن يتدخل بيننا لفض هذا الخلاف, فحثه على أن يقف معي, وقال له ربما تكون فى سن تحتاج فيه إلى زوج فرد عليه الأفضل أن تصبر وسوف يأتيها الأحسن!.. وهنا اتحد أبى وأخى معا, وقررا عدم تزويجى مرة أخري!.. وسمعت من العريس كلاما جرحنى أعف عن ذكره!.. وأسمعنى والدى عبارة يندى لها جبين الحياء خجلا.
وإزاء هذا كله انزويت فى حجرتى ومعى طفلاي, لا أريد أن أرى أحدا ولا أحد يرانى, وفكرت فى أن أقضى بقية عمرى فى دار للمسنين ولكن كيف يقبلوننى أنا وابنائى.. إن التفكير يحطمنى وقد أصبت بالسكر, وفقدت أغلب أسنانى وضعف بصرى.. أما أبى فمازال يتهمنى بالعقوق, واسمعه وهو يدعو علىّ كثيرا.. وقد كتبت إليك رسالتى عسى أن يفيق كل أب فلا يضيع بناته, وأقول لأبى وأمثاله: أبناؤكم أمانة فلا تضيعوها, واسألك وقراءك أن تدعوا لى الله أن يفرج كربتى ويجعلنى أقضى ما بقى لى من عمر فى أمان وطمأنينة.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
ما دام رب البيت قد بنى حياته على الانانية المفرطة والبخل الشديد واللامبالاة بزوجته وأبنائه, فمن الطبيعى أن تنعكس أخطاؤه عليهم, فتكثر المشكلات وتتعاظم المصائب, وأخطرها خروجك على كل الاعراف والتقاليد بالارتباط بشاب بعيدا عن أسرتك ومع ذلك ترين أنك فعلت شيئا عاديا ولا عيب فيه!
لقد أخطأ والدك حينما جعل هدفه فى الحياة جمع الأموال, والبخل على أسرته وأبنائه, وتباهى بذلك أمام الآخرين, ونسى فى غمرة انعزاله عنكم انه يهيئ التربة أمام ابنائه للانحراف والبعد عن طريق الصواب.. وهذا ما حدث بالفعل فاستسلمت لشاب عابث وارتبطت به ووضعت أسرتك أمام الأمر الواقع, ومع ذلك لم يحرك موقفك شعرة فى رأس أبيك, وكأن ما فعلتيه شىء مألوف بالنسبة له, وحتى والدتك التى تصفينها بأنها كانت مغلوبة على أمرها, سايرتك فيما فعلت من باب الحنان على ابنتها, وكان الواجب عليها أن تنبذك من حياتها لكى تتعلمى الدرس, وتكونى عبرة لإخوتك الأصغر منك.. لكنهما لم يفعلا ذلك, وهو موقف ترك أثره السلبى على كل إخوتك الذين تأثروا بفكر الأنانية وسلب حقوق الآخرين!
وكان طبيعيا ألا تستمر زيجتك طويلا لأنها بنيت على غير اساس يضمن لها الاستمرارية والنجاح, ولذلك عدت الى أبيك تجرين أذيال الخيبة والحسرة, واستمر على موقفه معك دون أن يسترعى انتباهه حالة التردى التى تنجرفين إليها بعد أن أصبحت مطلقة وفى عنقك طفلان.. بينما تناست أمك سريعا ما فعلتيه, فآزرتك واقتربت منك ومن طفليك.. وهذا خطأ ثان فى أسلوب تربية أسرتك لكم بعد خطأ أبيك.. وتوالت الاخطاء بما فعله أخوك بحبسك فى البيت لخدمته ورفضه من تقدم للارتباط بك دون أن يدرس ظروفه, ويعرف إذا كان فى استطاعته أن يقيم بيتا وأسرة أم لا.. ولا شك أن رفضه مجرد فكرة زواجك.. لكى يحافظ على المعاش الذى تتقاضينه من والدتك فيه غبن بحقك وأنانية ورثها عن أبيك, ومن شابه أباه فما ظلم!
أما الخطأ الذى دمر حياتك ياسيدتى فهو أنك لم تعيرى أبويك أى اهتمام, وأنت تتزوجين تلك الزيجة الفاشلة التى أثمرت طفلين يصارعان الحياة بلا أب, وقد تعصف بهما أنواؤها إذا تزوجت من آخر, وهكذا نجد أن حياتكم عبارة عن سلسلة أخطاء قاتلة أدت إلى انصراف كل منكم إلى حياته الخاصة!
وأرجو أن تتعلموا من أخطائكم, فكل ما لا يقتل الانسان يقويه, وما أعظم الدروس حين تأتى من رحم الأخطاء.. أما الدرس الأول الذى ينبغى على والدك أن يتعلمه فهو حسب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ان السخى قريب من الله قريب من الناس, قريب من الجنة, والبخيل بعيد عن الله بعيد عن الناس, بعيد عن الجنة, ولجاهل سخى أحب إلى الله من عابد بخيل, فالبخل يولد البغض والكراهية. ويجد البخيل نفسه وحيدا بين الآخرين, ولذلك على والدك أن يعيد حساباته, وأن يدرك مافاته, وكفاه ما جناه على نفسه وعليكم.
أما أخوك فليعلم أنه يرتكب فى حقك ظلما كبيرا بحبسك فى البيت, فمن حقك أن تبنى بيتا جديدا, وإذا كنت قد فشلت فى تجربتك الأولى نتيجة اندفاعك وتهورك فأنت الآن أصبحت أكثر نضجا, كما أنك تنتهجين هذه المرة الطريق السليم بإشراك والدك وأخيك فى أمر زواجك الجديد.. فإذا لم يجدا فى هذا العريس ما يعيبه ينبغى عليهما مؤآزرتك وتجهيزك.
ويبقى الدرس الأكبر لكل الآباء والأمهات بأنهم يحصدون مايزرعون, فإذا زرعوا الحب والتعاون وإيثار الآخرين, فسوف يحصدون ثمار صنيعهم, وإذا زرعوا البغض والتفكك والأنانية فسيحصدون العلقم, ووقتها لن ينفعهم الندم.
والحقيقة أننى لا أتذكر يوما واحدا سمعته يقول فيه: إننا مستورون، وحدّثنى أحد إخوتى ذات يوم مستنكرا ما يدّعيه والدنا، قائلا: لو أن أحدنا مات الآن، فمن أين سنأتى بثمن الكفن؟!، والمدهش أنه زاد فى ادعاء الفقر حتى بعد أن كبرنا، لكنه كان للأمانة يتحمل ثمن الدروس الخصوصية!
أما العيد الذى يفرح فيه الصغار بالعيدية والملابس الجديدة, فلقد كان هما علينا، وإذا لم تستطع والدتى تدبير مثل هذه الأمور على مدار العام كله كان العيد يأتى ثم ينفض دون أن نحس به أو نشعر بلذته، وأمى على النقيض منه، فهى أقرب إلى الملائكة, وعرفت العمل منذ صغرها, ولم أرها تصرف مليما واحدا على نفسها، وهى قمة العطاء والتفانى وخدمة الآخرين بلا مقابل، ويشهد لها كل من يعرفونها بذلك.
وليت أبى توقف عند حد الأنانية والبخل الشديد, فلقد كان يذيق أمى الأمرين، وكنا نسمع إهاناته المستمرة لها, وهى تواجهها بالصمت والصبر.. الصمت لكى لا يتمادى فى ثورته وعصبيته والصبر لأجلنا، وكانت تفهمنا من عيوننا, ولا أستطيع أن أصف لك سعادتها إذا قال لها أحدنا كلمة حلوة, وكنت أرى ملامح الرضا على وجنتيها, وأشعر بأن الزمن عاد بها إلى الوراء حيث النضارة والبشر والسرور، فهى صاحبة وجه جميل وتتميز بعاطفة جياشة على عكس أبى الذى كان دائم العبوس فى وجوهنا, بينما نراه خارج المنزل كثير الضحك، ولا أتذكر أبدا أنه تحدث معنا عن مشكلاتنا, أو حتى ترك لنا مساحة للفضفضة فى حين كانت أمى معنا كالأسد فى قوته والفراشة فى رقتها، فلقد احتضنتنا ولم تبخل علينا بشيء حتى بعمرها..
وكنت أكثر إخوتى تمردا على هذه الظروف, وكثيرا ما حمستها على المطالبة بحقها مثل باقى الزوجات فى مصروف للبيت, لكنه لم يفعل وكان ما يعطيه لها ملاليم تقل عن المصروف الشخصى لأى تلميذ, وفاض بها الكيل فأقسمت له أنها لن تمد يدها إليه طوال حياته محتسبة ما لها عند الله فلم يتحرك ضميره وتمادى فى إيذائه لها.
ووصلت إلى سن المراهقة, ولأننى جميلة مثل أمي, توافد علىّ العرسان لكنى رفضتهم واحدا وراء الاخر لا لشيء إلا لأن أبى سوف يدعى أنه لا يملك شيئا.. وبمرور الأيام ظهر فى حياتى شاب حسبته طوق النجاة لي, فعقدت قرانى عليه دون علم أسرتي, وفى ليلة الزفاف أخبرت أمى ليلا عن طريق التليفون فانهارت باكية, وسمعت صرخاتها فلم أتمالك نفسى من شدة البكاء, وسمعت أبى وهو يصب عليها لعناته بأنها دللتنى زيادة عن اللزوم, وهذا هو نتيجة ما صنعت!.. فعل ذلك ولم يسأل نفسه عما دفعنى إلى الزواج سرا، وتصورت أننى خرجت من سجن أبى إلى جنة زوجى.. لكنى اكتشفت أنه مدمن وضعيف الشخصية أمام أهله ووقع الطلاق وعدت إلى منزل أبى ومعى طفلان, فلم أجد غير حنان أمى التى هونت علىّ الكثير من المتاعب, وساعدتنى فى تربية ابني.. ثم تزوج إخوتى واحدا وراء الآخر وواحدة وراء الأخرى بعد سلاسل من الفضائح فى أثناء عملية التجهيز.
وبينما نحن على هذه الحال رحلت أمى بعد فترة مرض قصيرة جدا أحسبها أنها كفّرت ما علق بها من ذنوب البشر, وآعتقدت أن أبى سوف يتغير وسيعيش حياته مثل باقى الناس فيعطى ويزرع ليأخذ ويحصد.. ولكن هيهات لمثله أن يتغير. أما أنا فلقد أخذت العبرة من فراق أمى وحاولت أن ألعب دورها معه قدر الإمكان.. لكنه مارس أنانيته معى كعادته, أما مع طفلى فكان أبا رائعا بالكلام فقط وتحملت مسئوليتهما بمعاش والدتى وبالنفقة التى أقاسى العذاب أشكالا وألوانا لكى أحصل عليها من أبيهما.
ولم تفارقنى صورة أمى لحظة واحدة ولاحظ ذلك الكثيرون فأشاروا علىّ بالذهاب إلى طبيب نفسي, فأصبحت زبونة دائمة على العيادات، وانزويت فى ركن من المنزل وقاطعت أبي, وطبعا كان سعيدا بهذه القطيعة.
وفى غمرة الأحزان, اقتربت منى إحدى صديقاتى وتحدثت معى كثيرا ثم قالت لى إن الحل الوحيد لما أنا فيه هو الزواج.. وخرجت من عندى وأنا أفكر فى الأمر، وظللت أدعو الله أن يرزقنى زوجا صالحا حتى ظهر لى شاب لم يتزوج من قبل, وإن كان لا يخلو من العيوب, ففاتحت أخى الأكبر فى الموضوع فظهرت عليه علامات الدهشة وعدم الرضا.. فأنا خادمة له ولن يتخلى عنى بهذه السهولة! واتضح موقفه تماما أمام العريس حيث كبله بعدة طلبات تكفى لتطفيش أى إنسان!.. لكنه تمسك بى, فكان آخر ما قاله له هو أننى أتقاضى معاشا عن والدتى وإذا تزوجت سيتم قطعه وبالتالى لن أجد ما أنفقه على ابني! وظل يتذرع بحجة تلو الأخرى، فطلبت من أحد أقاربنا أن يتدخل بيننا لفض هذا الخلاف, فحثه على أن يقف معي, وقال له ربما تكون فى سن تحتاج فيه إلى زوج فرد عليه الأفضل أن تصبر وسوف يأتيها الأحسن!.. وهنا اتحد أبى وأخى معا, وقررا عدم تزويجى مرة أخري!.. وسمعت من العريس كلاما جرحنى أعف عن ذكره!.. وأسمعنى والدى عبارة يندى لها جبين الحياء خجلا.
وإزاء هذا كله انزويت فى حجرتى ومعى طفلاي, لا أريد أن أرى أحدا ولا أحد يرانى, وفكرت فى أن أقضى بقية عمرى فى دار للمسنين ولكن كيف يقبلوننى أنا وابنائى.. إن التفكير يحطمنى وقد أصبت بالسكر, وفقدت أغلب أسنانى وضعف بصرى.. أما أبى فمازال يتهمنى بالعقوق, واسمعه وهو يدعو علىّ كثيرا.. وقد كتبت إليك رسالتى عسى أن يفيق كل أب فلا يضيع بناته, وأقول لأبى وأمثاله: أبناؤكم أمانة فلا تضيعوها, واسألك وقراءك أن تدعوا لى الله أن يفرج كربتى ويجعلنى أقضى ما بقى لى من عمر فى أمان وطمأنينة.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
ما دام رب البيت قد بنى حياته على الانانية المفرطة والبخل الشديد واللامبالاة بزوجته وأبنائه, فمن الطبيعى أن تنعكس أخطاؤه عليهم, فتكثر المشكلات وتتعاظم المصائب, وأخطرها خروجك على كل الاعراف والتقاليد بالارتباط بشاب بعيدا عن أسرتك ومع ذلك ترين أنك فعلت شيئا عاديا ولا عيب فيه!
لقد أخطأ والدك حينما جعل هدفه فى الحياة جمع الأموال, والبخل على أسرته وأبنائه, وتباهى بذلك أمام الآخرين, ونسى فى غمرة انعزاله عنكم انه يهيئ التربة أمام ابنائه للانحراف والبعد عن طريق الصواب.. وهذا ما حدث بالفعل فاستسلمت لشاب عابث وارتبطت به ووضعت أسرتك أمام الأمر الواقع, ومع ذلك لم يحرك موقفك شعرة فى رأس أبيك, وكأن ما فعلتيه شىء مألوف بالنسبة له, وحتى والدتك التى تصفينها بأنها كانت مغلوبة على أمرها, سايرتك فيما فعلت من باب الحنان على ابنتها, وكان الواجب عليها أن تنبذك من حياتها لكى تتعلمى الدرس, وتكونى عبرة لإخوتك الأصغر منك.. لكنهما لم يفعلا ذلك, وهو موقف ترك أثره السلبى على كل إخوتك الذين تأثروا بفكر الأنانية وسلب حقوق الآخرين!
وكان طبيعيا ألا تستمر زيجتك طويلا لأنها بنيت على غير اساس يضمن لها الاستمرارية والنجاح, ولذلك عدت الى أبيك تجرين أذيال الخيبة والحسرة, واستمر على موقفه معك دون أن يسترعى انتباهه حالة التردى التى تنجرفين إليها بعد أن أصبحت مطلقة وفى عنقك طفلان.. بينما تناست أمك سريعا ما فعلتيه, فآزرتك واقتربت منك ومن طفليك.. وهذا خطأ ثان فى أسلوب تربية أسرتك لكم بعد خطأ أبيك.. وتوالت الاخطاء بما فعله أخوك بحبسك فى البيت لخدمته ورفضه من تقدم للارتباط بك دون أن يدرس ظروفه, ويعرف إذا كان فى استطاعته أن يقيم بيتا وأسرة أم لا.. ولا شك أن رفضه مجرد فكرة زواجك.. لكى يحافظ على المعاش الذى تتقاضينه من والدتك فيه غبن بحقك وأنانية ورثها عن أبيك, ومن شابه أباه فما ظلم!
أما الخطأ الذى دمر حياتك ياسيدتى فهو أنك لم تعيرى أبويك أى اهتمام, وأنت تتزوجين تلك الزيجة الفاشلة التى أثمرت طفلين يصارعان الحياة بلا أب, وقد تعصف بهما أنواؤها إذا تزوجت من آخر, وهكذا نجد أن حياتكم عبارة عن سلسلة أخطاء قاتلة أدت إلى انصراف كل منكم إلى حياته الخاصة!
وأرجو أن تتعلموا من أخطائكم, فكل ما لا يقتل الانسان يقويه, وما أعظم الدروس حين تأتى من رحم الأخطاء.. أما الدرس الأول الذى ينبغى على والدك أن يتعلمه فهو حسب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ان السخى قريب من الله قريب من الناس, قريب من الجنة, والبخيل بعيد عن الله بعيد عن الناس, بعيد عن الجنة, ولجاهل سخى أحب إلى الله من عابد بخيل, فالبخل يولد البغض والكراهية. ويجد البخيل نفسه وحيدا بين الآخرين, ولذلك على والدك أن يعيد حساباته, وأن يدرك مافاته, وكفاه ما جناه على نفسه وعليكم.
أما أخوك فليعلم أنه يرتكب فى حقك ظلما كبيرا بحبسك فى البيت, فمن حقك أن تبنى بيتا جديدا, وإذا كنت قد فشلت فى تجربتك الأولى نتيجة اندفاعك وتهورك فأنت الآن أصبحت أكثر نضجا, كما أنك تنتهجين هذه المرة الطريق السليم بإشراك والدك وأخيك فى أمر زواجك الجديد.. فإذا لم يجدا فى هذا العريس ما يعيبه ينبغى عليهما مؤآزرتك وتجهيزك.
ويبقى الدرس الأكبر لكل الآباء والأمهات بأنهم يحصدون مايزرعون, فإذا زرعوا الحب والتعاون وإيثار الآخرين, فسوف يحصدون ثمار صنيعهم, وإذا زرعوا البغض والتفكك والأنانية فسيحصدون العلقم, ووقتها لن ينفعهم الندم.
تعليقات
إرسال تعليق