هالة نعمان عاشور: بعد رحيل أمي .. اكتشفت أن أبي تحول إلى طفل حزين!
جريدة المصور - فن
مَن مِن عشاق الفن والأدب ـ المسرح على وجه الخصوص ـ لا يذكر الأديب والمؤلف المسرحي الكبير نعمان عاشور، الذي يعد واحداً من أبرز الذين كتبوا للمسرح المصري باحترافية وريادة، وترك تراثاً عظيما من مسرحياته المتنوعة التي رصدت حال المجتمع المصري في أعقاب ثورة يوليو 1952في رداء من الكوميديا النظيفة الموجعة..
مولود بمدينة ميت غمر عام 1918، واكتسب حرفية المسرح وهو صغير من والده، الذي كان دائم التردد على مسارح شارع عماد الدين بالقاهرة، وخاصة مسرح الريحاني.. وتوفي في إبريل 1987، وهو دارس للغة الإنجليزية, وأصبح مؤرخ الوطن بالمسرح في الخمسينيات والستينيات، ومن أشهر أعماله المصورة تليفزيونيا: «الناس اللى فوق» و«الناس اللى تحت» بطولة نخبة من نجوم الصف الأول: سناء جميل، حسين رياض، شفيق نور الدين ونور الدمرداش، وهما الأبرز بين أعمال مهمة أخرى له، ومنها: «عيلة الدوغرى» و«برج المدافع» و«المغماطيس» و«سيما أونطة» و«الجيل الطالع» و«بحلم يا مصر» و«صنف الحريم» و«وابور الطحين» و«بلاد بره»..
كانت تجربة نعمان عاشور المسرحية مواكبة للتغييرات الجذرية التي شهدها الواقع المصري بعد الثورة المصرية 1952، من خلال نصوصه التي تغلغلت في تفاصيل الحياة المصرية، لتكون وثيقة اجتماعية نادرة في إطار مفعم بالتفاصيل، ولذلك فهو يعد بحق رائدا للواقعية في المسرح المصري.
وقد التقت "حواء" ابنته السيناريست اللامعة السيدة هالة نعمان عاشور, التي قدمت للدراما التليفزيونية مجموعة من الأعمال الناجحة لعل أشهرها الجزء الثاني من عائلة الدوغري "الدوغري 90" إضافة إلى مجموعة من السهرات، لنتقاسم معها الذكريات في ذكرى رحيله الثامنة والعشرين التي بادرتنا بقولها:
محظوظة بأبي وأمي:
بما أن المقال فى مجلة "حواء" فيجوز الحديث عن المرأة فى حياة أبى الإنسان.. وهى أمى الدكتورة هدى حكيم, وكانت أستاذة فى كلية علوم جامعة عين شمس.. حيث اجتمع الأدب والعلم, والرجل والأنثى فى حياتهما, فنسجا لنا نحن أبناؤهم نسيجا جميلا متشابكا, وكأنهما كانا ينسجان لنا قطعة من الحرير مكتوب عليها.. كيف نحب ونعطى بلا حدود.
بكاء الأديب
أذكر حينما توفيت أمى عام 1981 قبل وفاة أبى بستة أعوام, وكانت جدران المنزل وكيانه قد انهارت معها.. أذكر أننى كنت استيقظ كل يوم على صوت نحيبه فى الصباح يبكيها مثل الطفل الذى فقد أمه.. وتمر الأيام والشهور وتسأله إحدى صديقات العائلة آن الأوان أن تبحث لنفسك عن شريكة عمر جديدة.. ابتسم لها بحزن وبصوت المحب وقال لها: لقد احببتها عشرة أنواع من الحب.. احببتها حب الزوج لشريكة عمره، وحب العاشق الفنان لملهمته، وحب الأب لابنته، وحب الابن لأمه، وحب الصديق لصديق عمره، عشقتها جنسيا، وعشقتها كحب الخطيب لخطيبته، احببتها لأنها أم أولادى، أحببتها حب الشقيق لشقيقته.
وعن وقع هذه الكلمات عليها تقول هالة: فرحت وحزنت لحزنه.. فرحت لأنه لن يتزوج ثانياً وكان هذا مصدر أمان لى، وحزنت لهذا الحب النادر فى الوجود ولحزنه الدفين على فقدانها.. وكانت آخر أعماله, وكان دائما يهدى لها أعماله فكتب لها فى مقدمة الكتاب (أنا أعلم مدى اهتمامك بما كنت أهديه لك من كتب, ياليتك تعلمى مدى اهتمامى بما أهديته لى من ذكريات)، هذا هو أبى الإنسان الطفل الحزين الذى دائما يحمل هموم الوطن.. ويتحمل ثمن صدق قلمه وكلمته وما تعرض له من اضطهاد، ولكنه كان دائما على يقين بأنه رجل يحمل قلما ورسالة.. لم يكن يبحث عن منصب أو ثروة أو جاه.. كان يعشق قلمه.. وكان فى ظهره زوجة عاشقة تحميه وتشد أزره.. أذكر أنه حينما كان يكتب كانت تجلس أمي أمام باب غرفة مكتبه تمنعنا من الدخول أو من التحدث بصوت عال.
استوقفتني هذه الجملة التي قالتها لي هالة نعمان.. ففيها رقة الكاتب وإخلاص الزوجة وصدق الابنة:
"كان كلما كتب عملا جديدا، يخرج سعيدا من الحجرة ليقرأ لها ما كتب وهى تنظر إليه بعين العاشقة مبهورة به وبكل حرف وكل كلمة.. وكنت فى أوقات عديدة تنتابنى حالة غيرة من هذين العاشقين".
صاحب رسالة
كانت أمي تعلم أنه رجل مختلف وموهوب وصاحب رسالة, فكانت تتصدر لنا فى مشاكلنا وتدير حياتنا حتى لا ترهقه.. واكتشفت مع مرور الزمن أنها كانت تستشيره فى كل مشاكلنا ثم تقوم بالتنفيذ.. ودائما ما تردد (أبوكم علمنى يعنى إيه التسامح)، نعم كان معلمها فحينما كانت تتعرض لمشاكل فى عملها تلجأ إليه فعلمها كيف تتسامح مع الآخر بدون تنازل عن موقفها أو مبادئها.. وكان فخورا بها كامرأة عاملة ويشجعها ويقود لها السيارة ويوصلها إلى الجامعة.
إلى هذا الحد كان بينهما حب وعشق ورقة؟
أذكر قبل وفاتها وكنت برفقته ننتظرها وهى تقف وحولها تلاميذها وإذا به ينظر لها بعين العاشق ويقول لى: "انظرى كم هى جميلة ورقيقة وسط تلاميذها".
وحينما كانت تمرض لأنها كانت مريضة بالقلب كان يساعد فى أعمال المنزل بكل فخر ويحضر لها العشاء, وكانت تستحى وتكاد تبكى وتهمس لى "روحى ساعدى باباكى", يبتسم "أنا سعيد لخدمة ملكتى فالعمل بالنسبة لى رياضة".. كانت حياتنا بسيطة وبدون تعقيد, لم نكن نعلم من يقود المركب من يصرف علينا فدخلهما واحد وكأنهما واحد فى كل شيء, ومع ذلك كل منهما يحترم الآخر وحق الآخر فى العمل والخصوصية وإطلاق مساحة من الحرية.. أتذكر دفء صوته على التليفون حينما كان يخرج ويطلب البيت دائما (اسئلى ماما عايزين حاجة.. هتكلم تانى) وكأنه طفل ترك حضن أمه.
ما طقوسه حين يكتب؟
كان يأخذ كوبا من القهوة مع سيجارة ويدخل غرفة نومه لينظر إلى المرآة لمدة خمس دقائق يحدث فيها نفسه، ثم يدخل مكتبه ويغلق بابه، ليتحدث بصوت مسموع بطريقة وأسلوب كل شخصية من شخصياته.
الأب الحنون
لم أكن أعلم مدى عظمة أبى كفنان بقدر إدراكى بعظمته كأب حنون لأقصى درجة وحكيم له رؤية.. ومع ذلك كان طفلا بريئا يغنى ويرقص فى المنزل فى حالة سعادة دائمة.. كانا فى طرق السفر يغنيان وينشدان فى السيارة وهى تنظر له بعشق وأنا فى الخلف استعجب (هو في أب وأم يعملوا كده) ومع مرور السنين................ إنهما كانا فى حالة سعادة وطفولة نادرة فى هذا الزمان, وللأسف انقطع غنائه ورقصه من المنزل مع رحيلها.. وظل السنوات الست بعد رحيلها ينتظر الموت ويقول لى الشيء الوحيد الذى يجعلنى اتشبث بالحياة هو (أنت) لكى أكمل رسالتى التى تركتها لى هدى.. ولكنه ترك لى ولأشقائى رسالة أخرى إذ فوجئنا بعد وفاته ترك لنا شرئط مسجلة فى مكتبه يحدثنا عن حياته وعن رأيه فى كل واحد منا, وطلب منا أن نحتفظ بكل أوراقه وكل أعماله ووصانا أنه حينما يأتى اليوم الذى سيحيا فيه المسرح من جديد فلابد وأن سيعود إلي وإلى أوراقى وإلى مسرحى.. وترك لنا هو وهى رسائل انغرست فينا فى حب هذا الوطن وعدم التنازل عن مبادئ الحق والخير والجمال.. كنت جميلا فى كل شيء أبى الفنان العاشق وكنت أعتقد أننى أعيش مع أبى نعمان ولكنى فهمت أنك كنت أبى الأب والعشق والفنان الزاهد صاحب قلم ورسالة, وفى هذه اللحظة أتذكر منذ سنوات حيث التقيت المرحوم الكاتب العظيم الفريد فرج.. وبحزن قلت له: لم تأخذوا التكريم المناسب، فقال لى: التاريخ سيكرمنا وسيذكرنا، التاريخ لن يذكر الوزراء وأصحاب النفوذ والسلطة سيذكر أصحاب الكلمة الحقيقية.
تذكرت أبى وهو يبتسم ودائما يقول: السعادة فى التحقق تحقق الإنسان مع نفسه وقناعته بما يقوم به، ليست فى المال.. من أحب المال صار له عبدا, ليست فى الكذب والنفاق.. كلمة الحق قاسية ولكنها هى الباقية هى شمس الحقيقة والمعرفة تغيب الشمس ولكنها تعود وتشرق من جديد.
كلمة توجهيها لوالديك؟
أدين لك يا أبى ويا أمى بدين الحب والتسامح والمعرفة, وقول الحق, وحب البشر بدون أحكام مسبقة, واحترام الآخر, وحرية الآخر, وحب هذا الوطن العميق جدا بتاريخه وشعبه.
كلمة حق:
ما اسعدنى أننى ابنة هؤلاء العظماء وجزء من نسيج هذا الوطن.
المصدر : مجلة المصور - الصادرة عن دار الهلال
www.daralhilal.com.eg
تعليقات
إرسال تعليق