الاهرام : ثورة جمال عبد الناصر الثانية

مما لاشك فيه أن نجاح مؤامرة انفصال سوريا عن مصر فى 28 سبتمبر 1961، كان أول هزيمة سياسية لعبد الناصر ولمبادئه فى القومية العربية والوحدة العربية. ولكنه استطاع بحيويته وقوة روح الثورة فيه وكان فقط فى الثالثة والأربعين من عمره أن يحول هذا الموقف المضاد الى دفعة للأمام، خاصة فى المجال الداخلى.


لقد بدأ عبد الناصر بإعادة تشكيل حكومة الجمهورية العربية المتحدة، وفى أول جلسة لمجلس الوزراء، فى 19 أكتوبر 1961، «كل محاضر جلسات هذه الوزارة موجودة على موقع www.nasser.org»، تحدث عن الوحدة ومتاعبها؛ فقال: « لقد فرضت علينا الوحدة سنة 1958، وكنا نعتقد أنها لا يمكن أن تتم بهذه السهولة، وأنها إذا بدأت ستبدأ معها المتاعب. وقد ضحت مصر بالكثير لتنقذ سوريا من الضياع والانهيار الحتمى الذى كانت معرضة له. وتمت الوحدة، ثم بدأت العناصر التى طلبتها، كل منها تريد استخدامها لتحقيق أهدافها؛ الرأسماليون والبعثيون ورجال الجيش أيضا.
وقد رفضنا أن تكون الوحدة مطمعا أو مغنما لأى كان؛ لأن لنا مبادئ سياسية نسير عليها.
وكانت مصوبة الينا مدافع لا حصر لها؛ سواء من الرجعية العربية أو من الملوك أو من الذين يخافون من انتشار المد العربى بما يؤثر على مصالحهم أو حكمهم ووجودهم، ويؤثر على الصهيونية واسرائيل والاستعمار. ويضاف الى ذلك السياسيون القدامى الذين كانوا فى سوريا. وقد كانت القاهرة تضرب عن طريق دمشق!
ثم استطرد عبد الناصر قائلا: «ونحن نمر بفترة من أدق الفترات؛ لأن جميع القوى ضدنا». وبشجاعته وصراحته المعهودة، بدأ عبد الناصر يعدد العقبات التى قابلها أثناء الوحدة أمام مجلس الوزراء، فقال: «من المشاكل التى قابلناها السلبية واللامبالاة التى وجدت فى بعض العناصر نتيجة خطأ أساسى كنا نمارسه؛ وهو الاهتمام بالخطة ومشروعات العمل فقط دون الاهتمام بالعمل السياسى التنظيمى، ودون الاهتمام بتطوير كل أمورنا السياسية حتى نعبئ كل القوى فى جانبنا.
لقد أقمنا فى سوريا سد الرستن ومشاريع كثيرة جدا؛ مثل سد الفرات وخطوط السكك الحديدية وغيرها، ولكن هل هذا يكفى؟! إننا لم نكن ننبه الناس الى ما نعمله من أجلهم... وأعتقد أننا إذا لم نتلاف هذا الخطأ فى مصر، سنقابل صعوبات فى المستقبل».
ومضى عبد الناصر يحلل ما حدث.. «إن التصور الأساسى الخاطئ الذى أظهرته أحداث سوريا؛ هو الاعتقاد بأننا يمكن أن نقيم تنظيما شعبيا يجمع كل الفئات والطبقات، وكنا نقول: إننا نهدف الى القضاء على الصراع الطبقى فى إطار من الوحدة الوطنية وفى إطار سلمى!
ولكن نوايا الآخرين والحوادث أثبتا غير ذلك؛ فمن أعداء الوحدة كان أعضاء بارزون فى الاتحاد القومى ونقابة المحامين، ومنهم من أشاد بالوحدة واشتركوا فى الحركة الانفصالية! وقد أخذنا بالمظهر وكان اتجاهنا دائما الى حسن النية! لقد تجمع أعداؤنا؛ جمعتهم المصالح المشتركة وعمليات الصراع الطبقى التى كانت موجودة فى البلد، لقد كانوا يخدعوننا حتى يجدوا الفرصة للانقضاض علينا!
لقد أثبتت الأحداث أن طريقة تشكيل الاتحاد القومى كانت خطأ، وهذه الدروس يجب أن نتعظ منها فى مصر».
أولا: لمصلحة من الثورة واستمرارها؟
وتدرج عبد الناصر من هذا التفسير الى نتيجة منطقية؛ وهى «ضرورة تجميع قوى الشعب الوطنية، فإن الذين أخذنا منهم الأرض وأممت مؤسساتهم، مهما تظاهروا بالرضا، فإنهم لن ينسوا ذلك».
وبدأ عبد الناصر يشرح لمجلس الوزراء ما يتصوره لقوى الشعب الوطنية.. «إنها أساسا العمال والفلاحون والمثقفون وخريجو الجامعات والطلبة والنقابات المهنية والجمعيات النسائية؛ أى كل الشعب ما عدا الإقطاع والرأسمالية والانتهازية، الذين يتقربون حتى يصلوا الى مكاسب معينة. وهكذا لن يكون هناك تناقض ولكن أهداف واحدة نعمل من أجلها».
وأكد عبد الناصر فى حديثه أنه «لابد أن تكون الثورة سياسية واجتماعية، فإنها كانت فى سنة 1952 سياسية، وكان هدفنا أن يخرج الانجليز ونقضى على الاستعمار، وكانت العناصر الرأسمالية تجد فيها الطمأنينة لأنها زادت أرباحها.
أى أن ثورة 1952 استمرت ثورة وطنية للتخلص من الاستعمار، ولكنها فى نفس الوقت ثورة برجوازية لم يتأثر منها أصحاب رءوس الأموال. وفى سبتمبر 1952 أصدرنا قانون تحديد الملكية، فأثرنا على الاقطاع ولكن العناصر البرجوازية لم تتأثر، كذلك فإن القوانين الموجودة فى الدولة هى قوانين رأسمالية!
واعتبر أن الثورة الاشتراكية بدأت فعلا بالقرارات التى أعلنت فى يوليو 1961؛ الخاصة بالتأميم والضرائب التصاعدية وتحديد الملكيات فى المؤسسات الصناعية والملكيات الزراعية... إلا أن الطبقات التى نعمل من أجلها فى حاجة الى وعى سياسى لتعبئتها وتوجيهها».
ثانيا: حتمية تغيير إطار التنظيم السياسى الجديد:
كتب عبد الناصر بخط يده تقدير موقف بعد شهرين من الانفصال؛ متناولا آثار أحداث سوريا فى مصر كما يلى: «إن هذه الأحداث شجعت الرجعية المصرية وأعطتها الأمل، فكشفت نفسها. وفى نفس الوقت حدث شىء من التردد لدى المثقفين، ولكن الشعب أثبت متانة وصلابة، وكان أشد وعيا وهو بدون قيادات فرعية، رغم أن حياته لم تستقر من الناحية الاقتصادية؛ السكن، التموين.. إلخ، ورغم أنه لازال يقاسى من الاستغلال. كما أن الجيش صلب العود لم تؤثر فيه كل الحملات التى وجهت ضد الجمهورية العربية المتحدة...
ولن تكون دولتنا متينة إلا باستئصال المناهضين للثورة تماما. إن القضاء على أعداء الثورة مطلب شعبى. وهذه العناصر تركن الى التستر، ولكنها لن تعدل عن خططها بل إنها ستنتهز كل فرصة مواتية لتحقيق أهدافها متعاونة مع الاستعمار».
وفسر عبد الناصر التناقض مع الأعداء، فكتب.. «إن الخلافات مع أعدائنا تستدعى تعيين الحدود بيننا وبينهم... بالاختصار.. لا حرية لأعداء الشعب».
وعن التناقض داخل الشعب، تساءل.. «من هو الشعب؟... إن التناقضات داخل الشعب ليست متعارضة؛ أى التناقضات بين الطبقة العاملة والبرجوازية الوطنية. إن الدولة تستند الى الشعب، لذلك يجب أن تُمارس الديمقراطية داخل الشعب، كل الحرية للشعب».
وفى جلسة مجلس الوزراء السابق الإشارة اليها، قال عبد الناصر: «إن مهمتنا صعبة جدا... والتنظيم السياسى الجديد له شقان.. الأول: الخاص بالجماهير، وذلك يتم بمعرفة المشاكل ثم حلها. والشق الثانى وهو غير الموجود: العناصر القيادية المؤمنة التى تستطيع أن توجه ثم تفسر ثم تقود هؤلاء الناس.
إن من أخذ القيادة فى هذا البلد هى العناصر المتشككة، فإن العمل المطلوب أساسا هو إيجاد هذه العناصر القيادية المنظمة... ثم إيجاد صلة بين القيادة والقيادات الفرعية المختلفة فى جميع النواحى».
ثم أقر عبد الناصر.. «أنه لا توجد وحدة فكرية ولا تنظيم مع ضرورة وجودها فى كل مكان.
من هنا وصل عبد الناصر الى النتيجة الآتية؛ وهى حتمية تغيير النظام كله..
أولا: تغيير الدستور، فالعودة الى دستور 56 تعتبر خطوة الى الوراء. وكان من رأيه وضع دستور يتماشى مع التطور فى الخطوات الاشتراكية، وعليه تقرر أن يُعمل بالدستور المؤقت حتى يتم وضع دستور دائم.
ثانيا: إعادة تنظيم مجلس الأمة على أساس تجميع قوى الشعب الوطنية، والبدء بوضع تعريف لها، على ألا تدخل العناصر الرجعية فى التنظيم السياسى.
وأخيرا: إعادة تنظيم جهاز الحكومة، وضرورة تغيير القوانين».
ثالثا: العمل الداخلى فى إطار صراع خارجى:
تطرق عبد الناصر أيضا الى القوى الخارجية التى تحارب الجمهورية العربية المتحدة، فقال: «هناك حلف مقدس جمع كل المتناقضات، ولا هدف لها كلها إلا التخلص منا؛ لأن وضعنا الفكرى قوى جدا، وله أثر فيما حوله.
وفى عام 1955 طُلب منا أن نبتعد عن العرب، وهم يعطوننا المساعدات التى نطلبها!ولكننا رفضنا لأننا كنا سنصبح دولة تابعة كتركيا أو تايلاند.
إننى أعتقد أن الدفاع عن مصر لا يكون فيها وحدها، ولكن فى الدائرة المحيطة بها... إن بعض الناس يقولون: ما شأننا نحن بالعرب؟! لقد كانت سياستنا دفاعية ولم تكن هجومية، ولكن حلف بغداد كان الغرض منه العزل؛ فالشرق يعمل للعزل وكذلك الغرب!الشرق؛ لأنه يعتقد أنه يستطيع أن يمكن للشيوعيين هنا، والغرب يعتقد أنه يستطيع أن يمكن للموالين له تحت اسم الديمقراطية البرلمانية؛ وهى أشد أنواع الديكتاتورية البرلمانية، فإيران بها برلمان ولكن الغرب يستخدم هذه الديمقراطية البرلمانية من أجل تدعيم عناصر معينة وقتل باقى العناصر!
إننا لا نستطيع أن نقول لا شأن لنا بما حولنا؛ وذلك حتى لا يتمكن أعداؤنا من الدائرة المحيطة بنا. إنهم لن يتركونا أبدا إلا إذا وضعونا داخل مناطق النفوذ».
وبالنسبة لسياسة الجمهورية العربية المتحدة تجاه الولايات المتحدة، فرق عبد الناصر بين السياسة الرسمية الدبلوماسية والاقتصادية، ووسائل الدعاية ووسائلها؛ وهى الاتصال بالرأى العام، والاستفادة من الخطابات التى تصله من الولايات المتحدة - 30 ألف شهريا - ومن العالم 32 ألفا يوميا!
«والسبب الأساسى بالنسبة لمناؤة السياسة الدولية؛ أنهم لا يقبلون أن نسير على سياسة عدم الانحياز، ونحن لا نقبل أن ننحاز. وهذا لا يرضى عنه المعسكر الشرقى ولا الغربى».
وفى هذا الإطار الدولى المعاكس، كتب عبد الناصر عن خطوات العمل الداخلى..«عقد مؤتمر منتخب للقوى الشعبية يمثل فكر الشعب وتجاربه فى شتى الميادين؛ ليضع ميثاقا للعمل الوطنى، يكون أساسا للانتخابات العامة التالية؛ لاختيار القواعد الشعبية التأسيسية للتنظيم الشعبى، الذى ينبثق منه المؤتمر العام للتنظيم السياسى، الذى يضع الدستور الدائم للجمهورية العربية المتحدة. وبهذه المهمة يضع الخطوة الأولى لقيام التنظيم الشعبى القادر على دفع الثورة الاجتماعية».
وحدد عبد الناصر مفهوم الحرية الاجتماعية.. «أن يكون لكل مواطن حق فى نصيب من ثروة وطنه طبقا لجهده الخاص، لكن الفرصة يجب أن تكون متكافئة».
وتساءل «المشروعات الصناعية وثروة البلد فى يد من؟ إننا فى سنة 1960 وصلنا الى حد الخطر؛ الرجعية تسيطر وتوشك أن تجند الثورة الوطنية لحسابها؛ وذلك حتى تبعدها عن أهدافها الثورية. إن سيطرة رأس المال على الحكم ليس معناها تأليف مجلس وزراء من أصحاب الملايين، إنهم لم يدخلوا الوزارة، ولكنهم كانوا يضعون الوزارات»!
وعن أسطورة رأس المال الأجنبى... «لم يجئ الينا إلا 8.7 مليون جنيه فى 10 سنوات!... إن اتجاهنا الى القروض وليس الى فتح البلاد لرأس المال الأجنبى، لماذا؟ رأس المال الأجنبى سيحول أرباحه للخارج الى الأبد بالعملة الصعبة، أما القروض فسندفعها فى وقت محدد وتنتهى، وتبقى الأرباح للشعب».
وفى الميثاق تناول عبد الناصر مبدأ جماعية القيادة، ثم تنازل عن سلطات رئيس الجمهورية الى مجلس الرئاسة، من منطلق أن الحكم الجماعى يحقق ممارسة الديمقراطية على جميع المستويات. وينتهى عمل المجلس بوضع الدستور الدائم الجديد.
ورئيس الجمهورية فى ظل هذا النظام يصدر القوانين والقرارات، ويعين رئيس المجلس التنفيذى ونوابه والوزراء، ويعين ويعزل نواب رئيس مجلس الدفاع الوطنى وأعضاءه، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة ورئيس مجلس الدفاع الوطنى.
رابعا: الواقع السياسى العملى الذى تحقق:
وفى 1963 أصبح الاتحاد الاشتراكى يضم 5 ملايين عضو، ولكن فى داخله أنشئ جهاز سياسى كان ضروريا لتأمين الثورة ضد الاستعمار والإقطاع والرجعية ورأس المال المستغل؛ هو التنظيم الطليعى.
وفى لقاء عبد الناصر بقادة حزب البعث السورى الذين جاءوا الى القاهرة للمطالبة بالوحدة تحت ضغط الجماهير السورية، فى 19 مارس 1963، قال لهم: «فى البداية كنا نفكر فى تحديد عدد الاتحاد الاشتراكى 300 أو 400 ألف، ولكن عجزنا عن ذلك؛ والسبب أن البلد كلها تقول: نحن معكم!...
وبالنسبة للقطاع العام، عملنا نسبة فى مجلس الإدارة للعمال لمواجهة مشكلة البيروقراطية، ثم الاشتراك فى الأرباح للعمال بنسبة 25%، ثم النقابة العمالية والاتحاد الاشتراكى فى المصنع، وكانت النتيجة أن زاد الانتاج. وقد تم تحديد الحد الأقصى للأجور ... والباقى أرباح، وتحديد الحد الأدنى للأجور أيضا...
ولضمان عدم طغيان الطبقة القديمة أو الجديدة التى من الممكن أن تتكون على حساب حقوق العمال والفلاحين، وضعنا فى الميثاق أن 50% من أعضاء مجلس الأمة والمجالس والمنظمات الشعبية للعمال والفلاحين... حتى نتلافى أساليب الرجعية والإقطاع فى أى انتخابات قادمة؛ لأنه مازالت الرجعية والإقطاع لهما نفوذ عصبى، عشائرى، طبقى. بهذا نضمن أن الطبقة التى حكمت لمدة طويلة والتى ورثت النفوذ والمال، مهما عملت تأخذ فقط 50%».
وفى الواقع فإن عبد الناصر قاد كل هذه التغييرات وسط ثورة مضادة « تحركت بعد الانفصال وقالوا: فرصة». وأخيرا نبه.. «طالما فيه ثورة، فيه ثورة مضادة».
خامسا: المطلوب ثورة على الثورة!
فى 25 مارس 1964 صدر الدستور المؤقت فى الجمهورية العربية المتحدة، حتى يتم مجلس الأمة الذى يبدأ عمله فى اليوم التالى مهمته بوضع الدستور الدائم، وطرح مشروعه على الشعب.
وقرب أواخر عام 1964 شعر عبد الناصر بحسه السياسى الوطنى بأن الجو العام أصبح غير موات، فكتب بخط يده.. «ما سبب الجو الموجود حاليا»؟ ثم عدد الأسباب؛ زيادة الأسعار، إطلاق حرية النقد بغير موازين، عدم وجود مواجهة كافية».
ثم كتب.. «الجهاز الحكومى كله مضاد!... والسلك السياسى فى الخارج كله مضاد، خصوصا بعد التخفيضات الأخيرة فى الدخول»!
وعن جو الريف دون عبد الناصر.. المفاتيح التقليدية ضائعة، الأعيان القدامى أو بعضهم يتزلف للمحافظين، وجود إحساس بطبقة جديدة، «أين فلاحى الاصلاح الزراعى»؟! ثم سجل عبد الناصر أخطاء التسويق التعاونى، ومصاعب التعامل مع بنك التسليف.
وعبر عبد الناصر عن شعوره فى نفس الوثيقة.. «إن فقدان الثقة مخيف»! فيوجد فساد أو محاولات، وهناك ضيق بالنقد وحساسية على القمة، وأن موضوع الحراسات وما جرى فيه أوجد «طبقة طُحنت، وهى تتكلم الآن بغير حساب على مرأى من بقايا الطبقة القديمة الزميلة لها، وعلى مشهد من طبقة أخرى تتكون»!
أما الشيوعيون «فلم ننفذ أى خطة فيما يتعلق بتفكيكهم، والنتيجة... الآن يتجمعون»!
وفى نفس الوقت «التنظيم السياسى كاد يموت»، ثم تساءل عبد الناصر.. «كيف يمكن بث الحياة فيه فى ظروفه الحالية»؟
وتحت عنوان «تمزق الحكم» دون ملاحظاته.. وجود مجموعات فى مجلس الأمة وعدم الاجتماعات وعدم التناسق، السلبية والخوف، الأحاديث المتضاربة، وجود كراهيات عنيفة...
وعن الموقف فى الجيش، سوف يعكس الموقف الشعبى بالتأكيد، وهو غير متماسك، ولا يمكن الحياة على أساس القديم وحده.
وبدأ عبد الناصر وضع خطة عمل لثلاثة شهور؛ تتضمن برنامجا لخفض الأسعار، وتسوية موضوع الحراسة، وحملة فى الريف، وتشكيل لجنة مركزية للاتحاد الاشتراكى.
ومضى عبد الناصر يفسر.. «ما هو المطلوب فى النهاية؟ ثورة على الثورة؛ إما من داخل الحكم بتغيير شامل، وهل هذا ممكن؟ وإما من الاتحاد الاشتراكى بتكوين نواة جديدة، والانتقال الى الشعب ابتداء من بيان مجلس الأمة القادم».
وحدد عبد الناصر كتابة أيضا عملية وضع الأمور فى نصابها، وعودة النقاوة الثورية الى التصرفات اليومية. وهنا أثار مسألة الحساب؛ فلابد أن تنحى رءوس فى المحافظين، فى رؤساء المؤسسات، فى مديرى الشركات، أو حيث يوجد أن الحاجة والحساب يدعوان الى ذلك.
وحدد عبد الناصر معالم خطة بالنسبة للحكومة تضمنت؛ تغيير رئيس الوزراء ونوابه الخمسة، وأن يجتمع نواب رئيس الوزراء بوصفهم مجلس وزراء مصغر Cabinet كل يوم صباحا، وممكن أن يكون هناك مدير مكتب لرئيس الوزراء فى درجة وزير للاتصالات السريعة، ويحضر اجتماع مجلس الوزراء المصغر. وكل يوم يرسل محضر الاجتماع الى رئيس الجمهورية.
كما يوضع نظام للحكومة فى مكاتب المحافظين؛ ليكون المحافظ كل يوم على اتصال برئيس الوزراء ومجلس الوزراء المصغر.
وقد تمت فعلا استقالة الوزارة فى 27 مارس 1965، وتولى زكريا محيى الدين رئاستها. وكان عبد الناصر قد ترشح رئيسا للجمهورية وانتخب لمدة 6 سنوات فى 16 مارس 1965.
وفورا دعا عبد الناصر الى اجتماع فى بيته فى 30 مارس 1965؛ لتقييم المرحلة الماضية، وتكلم عن كل الظواهر السلبية فى الحكم كما رآها، وطالب بمرحلة ثورية جديدة بالمواصفات السابق ذكرها، وطلب تقريرا من كل وزير عن أسباب المشاكل فى قطاعه وعلاجها.
وفى بداية هذه الفترة تم إلغاء الأحكام العرفية من مارس 1964، وخرج من عليهم أحكام سياسية من السجون، ومنهم الشيوعيين والإخوان المسلمين. وفى 7 إبريل 1965 أعلن الشيوعيون المصريون قرارا بإنهاء الشكل المستقل للحزب الشيوعى المصرى، وأرسلوا نسخة منه الى عبد الناصر.
وفى شهر يوليو تم اكتشاف مؤامرة جديدة للإخوان المسلمين، فقد شكلوا تنظيما سريا، وجمعوا سلاحا ومفرقعات، ووصلت لهم أموال من الخارج، واستعدوا لقلب نظام الحكم.
وتعليقا على ذلك قال عبد الناصر فى خطاب له فى الطلبة العرب من النادى العربى بموسكو فى 29 أغسطس 1965: «لا يمكن أن نقابل ذلك باللين، هل نعفى كما فعلنا قبل ذلك؟! لقد عفينا مرة [عن مرتكبى محاولة الاغتيال فى 26 أكتوبر 1954] ولن نستطيع أن نعفى بعد ذلك، وكلُ مسئول عن عمله. إذن المؤامرة سنقابلها بشدة ونسحقها. كيف كشفت هذه المؤامرة؟ مواطن بلّغ»!
وظل عبد الناصر يرصد الثورة المضادة وتحركاتها، فكتب مرة أخرى بخط يده عن خطورة الوضع الداخلى فى 2 فبراير 1966.. «آخر مرة كان فيها تعبئة حقيقية وصلت الى الذروة فى مارس 1965، الوضع اليوم فيه خطورة. بعد التعبئة جمد الموقف، التغيير لم يرتبط موضوعيا أو تنفيذيا بالبرنامج المرسوم. أين الجيل الجديد؟! سؤال للناس!... كما أن هناك حملة ضد ضباط الجيش وتلاقى صدى، وهى ليست جديدة، الجديد هو الصدى!... وهناك شعور بأنه توجد طبقة مميزة؛ لها كل الميزات ولا تحس بالشعب! وهناك ضغط فى الريف؛ تحصيل أموال.
الشىء الايجابى الوحيد كان موضوع السد العالى!
ما العمل؟ يجب أن نأخذ المبادأة ونعود للدق على نقطة الانجاز الذى حدث حتى الآن، ونركز على معالم النجاح لا الفشل».
وأكد عبد الناصر.. «يجب أن تسير معى الجبهة الداخلية حين أدخل أى معركة عربية، ويجب أن يكون تأثيرى فى الخارج بنجاح التجربة فى مصر... نحن الآن لأول مرة نحارب البرجوازية العربية كلها، يجب جذب الطبقة الوسطى فى مصر وخارجها».
هكذا واجه عبد الناصر بحسه الشعبى مشاكل الثورة الاجتماعية والسياسية، واتخذ إجراءات حاسمة لإحداث التغيير، ولم يكتف بذلك بل كان متابعا دقيقا لكل أحوال البلد، وميزانا للمحافظة على مكتسبات الشعب وزيادتها.


المصدر الاهرام



=======


اقرأ أيضاً -




تعليقات

المشاركات الشائعة