« المعذبون» داخل قطارات الصعيد !!

المصدر الاهرام . تحقيقات و ملفات
الأهرام» ترصد معاناة الركاب على الطبيعة فى رحلة سفر من بنى سويف للقاهرة:
. تأخر القطارات عن موعدها لعدة ساعات يوميا .. والركاب يصرخون

  • تفشى ظاهرة التسول .. والباعة الجائلون خارج السيطرة
  • تعطل أجهزة التكييف وتساقط المياه من فتحاتها على رءوس الركاب فى بعض العربات


إذا كنت ترغب فى الذهاب إلى عملك مبكرا، أو تحتاج لإنجاز بعض الأمور فى مصلحة حكومية أو شركة خاصة، فلا تلجأ أبدا لاستخدام قطارات الصعيد .. لأنك سوف تندم .. فالمشهد مأساوى بكل المقاييس.. والمواعيد مرتبكة..
والتأخر فى الوصول يصل لعدة ساعات.. ناهيك عن الممارسات السيئة التى تجعل من القطارات وسيلة مواصلات فوضوية، لا تتوافر بها أدنى معايير الاحترام ولا الراحة للراكب، حيث الباعة الجائلين، الذين يلقون ببضائعهم على الراكب.. والمتسولون الذين يستخدمون كل الحيل والألاعيب، للحصول على المال، سواء كان ذلك بخطبة جهورية، أو بأوراق مطبوعة، يلقونها على الراكب أيضا، فإذا اعتذرت لبائع أو متسول فلا تلومن إلا نفسك!!

تبدأ رحلة العذاب من شباك التذاكر، حيث لا يوجد حجز فى نفس اليوم، فما يكون من الراكب إلا التوجه للمحطة فى انتظار وصول أى قطار ، وهنا تجد المشهد العشوائى أمام أبواب العربات، إذ لا تستطيع تمييز الداخل من الخارج، الاثنان يزاحمان بعضهما البعض فى النزول من العربات أو الصعود إليها، وما بين شد وجذب بين الطرفين، يدخل الراكب العربة التى يقصدها، بعد معاناة شديدة وتدافع على الأبواب، فإذا كنت قد عثرت على مقعد قبل أيام من السفر فأنت بلا شك من المحظوظين، بالرغم من المعاناة التى ستواجهها داخل العربة، حتى إذا كنت جالسا على مقعد، فهذا يصدم رأسك أو كتفك بحقيبة، أو يسقطها عليك أثناء رفعها للمكان المخصص للحقائب أعلى المقاعد، بالاضافة إلى الركاب الواقفين فى الطرقات أو بين المقاعد ، وكأنك تجلس فى أتوبيس للنقل العام داخل القاهرة أو الجيزة.

الباعة الجائلون ينتشرون

ما إن ينطلق القطار، حتى يفاجئك بائع اللب، أو الأحزمة الرجالية، أو بائع شواحن الهواتف المحمولة، أو بائعة العسلية، أو بائع « لضامة الخيط» ، أو بائع السبورات الذكية، يمرون بين الركاب الواحد تلو الآخر، ينادون على بضائعهم، ثم يلقون بضائعهم على وجه الراكب أو قدمه ، ويروجون لبضائعهم، بشكل يستفز الركاب، وقد ينتهى بمشاجرة مع البائع.

بعدها ، يمر بائع الشاي، وهو ينادى بصوته الجهوري: شاى .. «أسيون».. عناب .. حاملا فوق يديه صينية بها العديد من الأكواب الورقية، و» كولمن» الماء الساخن، فإذا طلب منه أحد الركاب مشروبا، وضع معداته على الأرض، وأخذ يصب الماء الساخن فى الكوب مع المشروب ، ثم يغادر إلى عربة أخري.

ينصرف بائع الشاي، ليظهر من بعده بائع شواحن الهواتف المحمولة، والباور بنك (الشحن الالكترونى المسبق) لشحن الهواتف المحمولة فور نفاد الشحن، وينادى هو الآخر، حد عاوز باور بنك، حد عاوز شاحن.. إنها فوضى عارمة بكل المقاييس.

«حد عاوز ميه معدينة ساقعة.. حد عاوز حاجه ساقعة».. هكذا ينادى البائع بين الركاب، وكأنك تجلس فى سوق داخل منطقة عشوائية، إذ لا توجد رقابة، ولا أحد يتدخل من مسئولى القطار أو من الشرطة المكلفة، لمنعه وغيره من الباعة الجائلين، أو المتسولين من التجول فى العربات .. القطار بلا مسئول ولا صاحب.

المتسولون خارج السيطرة

وبين هؤلاء وهؤلاء، يصعد المتسولون، فهذه سيدة تحمل طفلتها الرضيعة، وقد علقتها على صدرها، وتلقى خطبة عصماء، تبدأ بالصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم، ثم تتلو الأحاديث النبوية الشريفة، حول فضل الصدقة، وجزاء المتصدق عند الله، ثم تتلو بعض الآيات القرآنية وتختم خطبتها بقولها» ما عندكم ينفد وما عند الله باق، وهى تمر بين المقاعد انتظارا لمن يتصدق عليها، بدعوى أنها أرملة، وتربى عددا من أبنائها الأيتام، وهى تتجول بين القطارات يوميا، ولا تكل ولا تمل من الحديث عن ظروفها الصعبة، وحاجتها الملحة، دون أن يتصدى لها أحد من شرطة مباحث القطار، ثم تحصل على المال، وتغادر القطار بعرباته كاملة، بحثا عن قطار آخر، تمارس فيه هوايتها فى التسول.

مشهد فوضوي

بعد فترة من انطلاق القطار، يظهر لك المحصل ومن خلفه فرد شرطة القطار، لتحصيل قيمة التذاكر من الركاب الذين لم يجدوا حجزا فى شباك حجز التذاكر، هنا تجد «خناقات» بين المحصل والراكب، وتنشب المشادات، فالمحصل يريد تحصيل قيمة التذكرة، والراكب يفاوض المحصل على قيمة المطلوب.. وركاب المقاعد تائهون بين الاثنين، أو يحاولون فض الاشتباك بين المحصل والركاب.. فى مشهد فوضوى لا يحدث فى التوك توك.. أو عربات الكارو.. وليس فى مرفق حكومى ينبغى أن يكون محترما.. أو يتعامل مع الركاب باحترام، ويوفر لهم سبل الراحة لحين وصولهم على وجهتهم المقررة.. لكنك تشعر أنك تتعامل مع مرفق لا يراعى حق الراكب فى الراحة، ولا يحترم حقه فى استقلال القطار فى الموعد المحدد على تذكرة الذهاب ، ولا يحترم حقه أيضا فى الوصول إلى وجهته فى المواعيد المقررة.. هو مشهد عبثى وفوضوى بكل المقاييس، ولا يحدث فى أى مكان فى العالم، ولا حتى فى اكثر دول العالم تخلفا ..

أما المنطقة بين العربات، فحدث ولا حرج، حيث المدخنون وكأنهم أقسموا على إيذاء حاجزى المقاعد، سحابات هائلة من الدخان، ينطلق نحو الركاب ، الذين يطالبونهم دائما بغلق الأبواب، حفاظا على التكييف، وهم يصرون على فتحه بدعوى أن الجو حار بين العربات، هم يريدون التدخين ، ويريدون الهواء البارد ، وليذهب الركاب من حاجزى التذاكر إلى الجحيم..

مأساة العربات المكيفة

داخل كل قطار ، تجد فنى صيانة التكييف، وهم يترددون بين العربات، وكأنهم فى مهمة صعبة، بينما المحصلة صفر، إذ تجد العربات أحيانا بدون تكييف، أو تجد الماء يتساقط من فتحة التكييف على رؤوس الركاب، ولا أحد من فنى الصيانة يستجيب لصرخات الركاب، الذين دفعوا قيمة التذكرة حاجزين على قطار مكيف، ومن ثم فإن أبسط حقوقهم أن يجلسوا فى عربات مكيفة، ولكن هيهات هيهات، وإذا سألتهم عن التكييف : مرة يقولون التكييف ضعيف.. ومرة يقولون هذه أعلى درجة تبريد.. ومرة ينقطع التبريد تماما، ويظل الركاب يعانون حرارة الجو، بسبب عدم وجود نوافذ، أو بسبب التكدس والزحام بين العربات.

إذا صعدت إلى قطار الدرجة الثانية المكيفة، فلا أحد يمنعك من الدخول بالأجولة والكراتين، ولا أحد يمنع المتسولين ولا الباعة الجائلين، وكأن هيئة السكك الحديدية قد اتفقت معهم على تعذيب الركاب، والنيل من راحتهم، وجعلهم يندمون على اليوم الذى قرروا فيه استخدام القطار كوسيلة للتنقل بين المحافظات المختلفة.. تجد الركاب يصعدون معهم حاجاتهم، من حقائب سفر ضخمة أو كراتين أو أجولة.. حيث لا رقيب ولا حسيب.. وكأنك تستقل قطار بضائع!!

الهروب من المحصل

داخل «دورة المياه» فى القطار، قرر شابان الهروب من المحصل، فأغلقا الباب من الداخل، وما إن اكتشف المحصل ذلك، ظل هو ورجل الشرطة المصاحب له، يدقان على الباب فى محاولة يائسة لفتحه، وأخد كلاهما يصب الشتائم والسباب وأبشع الألفاظ ، لكى يخرج الشابان من دورة المياه، مما أثار سخرية الركاب وضحكهم مرة ، من تصرف الشابان، وتحايلهم «للتزويغ من المحصل» هربا من دفع قيمة التذكرة.. كما أثار ذلك غضب الركاب من تلك الألفاظ التى وصلت لمسامع بعض السيدات داخل العربة، فتخدش حياءهم، وتؤذى أسماعهم، حتى خرج الشابان من دورة المياه، وكان الأمر يحتاج قدرا من الحكمة، والتعامل بهدوء مع الشابان المخالفين، ومن ثم اتخاذ الإجراءات القانونية ضدهم فى هدوء تام.

أزمة جرارات

سألنا محصل القطار رقم 871، الذى تم الحجز على تذكرته فى موعد 6,57 دقيقة صباحا، ولم يصل إلا بعد ساعتين من موعد الوصول المقرر، قال لنا القطار وصل إلى أسيوط متأخرا،عندما هم بالعودة تعطل الجرار، فاستدعينا جرارا تلو الآخر، حتى قام القطار، وكان من الطبيعى أن يصل متأخرا.. فهم راكب آخر بالسؤال: لماذا عندما يقع حادث تظل القطارات كلها متأخرة ساعتين أو 4 ساعات، فقال المحصل: عندما يقع حادث يحدث ارتباك فى مواعيد قيام القطارات كلها حتى لو كان الحادث بسيطا كخروج عربة أو اثنتين من على القضبان، والمهم عند السائق أن يصل القطار إلى محطة الوصول، ولا يعنينا إن وصلت القطارات متأخرة ساعة أو اثنتين أو حتى 10 ساعات .. المهم أنه يصل لمحطته الأخيرة..

قلنا له:: وما ذنب الركاب الذين لا يستطيعون الوصول لأعمالهم فى المواعيد المقررة؟..

أجاب: فليبحثوا لهم عن وسيلة أخرى غير القطارات..

معاناة ركاب بنى سويف

داخل محطة قطارات بنى سويف، يجلس موظفو حجز التذاكر، وهم يتصببون عرقا ، بسبب تعطل جهازى التكييف فى غرفة الحجز، لايجدون من يحنو عليهم أو يرفق بهم، ويتولى إصلاح التكييف، وإذا صعدت إلى الدور الثاني، للسؤال عن موعد وصول القطار، لا تجد إجابة قاطعة، حيث يجلس عيد عبد العظيم رئيس الحركة على الهاتف، يتابع تحرك القطارات، ويتردد الركاب على مكتبه ، بين الحين والآخر ، قلقين من تأخر القطار ، يسألون عن موعد وصوله، فى بعض الأحيان يكون لديه إجابة، ويرد على الركاب بأن القطار سيصل بعد ساعة أو ساعتين، أو خرج من المنيا، أو لم يصل إلى المنيا بعد، وفى أحيان أخرى لا تكون لدى الرجل إجابة، ويظل اليأس يسيطر على حاجزى القطارات.. إما بسبب تأخر وصول القطار عن موعده المقرر لمدة تصل فى بعض الأحيان إلى ساعتين أو ثلاث أو حتى أربع ساعات.. أو بسبب عدم وجود معلومه حول موعد وصول القطار أصلا.. وبينما يقوم بعضهم بإرجاع التذكرة واسترداد قيمتها والانصراف إلى محطة أتوبيس بنى سويف أو موقف الميكروباص.. والنتيجة إهدار الكثير من الوقت والجهد بحثا عن وسيلة مواصلات تنقذهم من فوضى القطارات، أيا كانت تكلفتها أو ابتزاز سائقيها، داعين الله أن يرحمهم من سوء حالة القطارات، وتردى أوضاعها، وارتباك مواعيدها.

رحلة عذاب

داخل القطار 871 المتجه من أسيوط إلى القاهرة، قال لى الدكتور عيد عزام الأستاذ بمعهد بحوث البترول، وهو ممن يستقلون القطار ذهابا وإيابا منذ ما يزيد على 20عاما، إن مشكلات السكك الحديدية قديمة جديدة، و تكاد لا تنتهي، فبعد أن كانت رحلة ركوب القطار تعد نزهة و راحة لأى مسافر دون أى وسيلة مواصلات آخري، كما كنا نشاهدها فى الأفلام القديمة، و نتذكر معها كيف كانت سكك حديد مصر تضاهى نظيرتها فى الدول المتقدمة ، ولكن حدث العكس تماما، حيث أصيب هذا المرفق الحيوى على مدى أكثر من 40 عاما بحاله من الإهمال و الشيخوخة، وحاصرته المشكلات من كل جانب، الأمر الذى جعل ركوب القطار والسفر فيه، رحلة عذاب بمعنى الكلمة، ومعاناة لا تنتهي.

مواعيد مرتبكة

ومن أهم تلك المشكلات، التأخير المستمر فى مواعيد القطار ، ويصل لعدة ساعات يوميا، وكأنه مطلوب ممن يريد ركوب القطار ألا يرتبط بأى موعد، أما حالة العربات وخاصة المكيفة فهى مزرية، فإذا دخلت عربة القطار الذى يسمى مكيفا لن تجد تكييفا ، وإن وجد فهو لا يعمل ، كما أن الراكب لا يجد كرسيا مريحا وسليما، ولا يجد أيضا ستائر على الشبابيك لتحميه من شمس الصيف الحارقة، ناهيك عن كثرة الباعة الجائلين و المتسولين، وكأنك فى سوق، وذلك كله تحت أعين المحصل ومندوب الشرطة، والويل لك لو اعترضت على أحد الباعة او المتسولين، وهناك من يزاحم الركاب على مقاعدهم ، فضلا عن فوضى الركاب فى أثناء النزول والصعود ، ومثال ذلك القطار رقم 871 أسيوط- القاهرة- والقطار رقم 990 القاهرة- سوهاج.

وهناك قطارات يجب دمج مواعيدها ، إذ تجد - مثلا - الفرق بين قطار وآخر لا يزيد عن نصف ساعة ، ما يتسبب فى الأعطال و الحوادث مثل القطار رقم 164 إسكندرية- أسوان المميز ، وموعد قيامه من القاهرة الساعة 3.30 مساء ، ومن بعده قطار القاهرة- الفيوم المميز الساعة 3.45 ، ومن بعده القطار 990 القاهرة -سوهاج المكيف الإسبانى الساعة 4 مساء ، وبعده قطار القاهره أسيوط مميز الساعة 4.20 .

وهناك محافظات قريبه من القاهرة كما يقول الدكتور عيد عزام - مثل محافظة بنى سويف، ويستقل القطار من محطة بنى سويف، عدد كبير من الموظفين من مختلف التخصصات، بداية من السادة القضاة، وأساتذة الجامعات، والمراكز البحثية، بالإضافة لمهندسين، وأطباء، و موظفى الضرائب، و فئات أخري، و كثير من طلبة الجامعات و المعاهد، وكل هؤلاء يذهبون يوميا لأعمالهم فى القاهرة، ويعودون فى اليوم نفسه، فى رحلة معاناة يومية، على الرغم من قصر المسافة من بنى سويف إلى القاهرة ، فلماذا لا يتم تخصيص قطار من بنى سويف إلى القاهرة، أو على الأقل من المنيا للقاهرة، مثل قطار الفيوم- إسكندرية ، الذى يعمل بشكل منتظم ، لأن القطارات التى تأتى من الصعيد يحدث بها تأخيرات كثيرة، كما يتعطل هؤلاء عن الذهاب لأعمالهم ،علما بأنه - حتى وقت قريب- كان هناك قطار من المنيا للقاهرة ، وتم إلغاؤه.

مطلوب حلول جذرية

على الجانب الآخر، يجلس الدكتور مؤنس عزوز من المركز القومى للبحوث، وقد أصابه اليأس والإحباط ، بسبب تأخر القطارات عن موعد وصولها ساعات، مما ادى إلى وصوله إلى عمله متأخرا، مشيرا إلى أن الكثير من الموظفين يستخدمون القطار وسيلة للسفر من بنى سويف للقاهره، وأن تأخر وصول القطارات يعرضهم للمساءلة أمام جهات عملهم، الأمر الذى يستلزم البحث عن حلول جذرية لتلك الأزمة التى تفاقمت خلال الفترة الأخيرة.

ويبقى السؤال: إلى متى ستظل حالة الفوضى التى تحكم قطارات الصعيد؟.. ومتى يحصل الركاب على حقهم فى استقلال قطار آمن، يصل إلى محطته فى المواعيد المقررة؟


ssaleh@ahram.org.eg


تعليقات

المشاركات الشائعة