الوطن - اخبار مصر - عمر سليمان
صدر أمس فى الولايات المتحدة الأمريكية، كتاب لنائب مدير المخابرات المركزية السابق «مايكل موريل»، حمل عنوان «الحرب الكبرى فى زماننا: حرب المخابرات المركزية ضد الإرهاب من القاعدة إلى داعش».. كشف الكتاب للمرة الأولى عن تفاصيل الاتصالات السرية بين الإدارة الأمريكية ورئيس المخابرات المصرية الراحل اللواء «عمر سليمان» فى الأيام الأخيرة لحكم «مبارك»، وهى تفاصيل حملت انطباعات نائب مدير المخابرات الأمريكية، وتفسيراته ووجهة نظره فى التحركات التى ينسبها لرجل لم يعد ينتمى لعالمنا لكى يرد عليها، وإن كان من الممكن أيضاً قراءتها من أكثر من زاوية، بفرض صحتها من الأساس. تنشر «الوطن» أخطر فصول كتاب «موريل»، خاصة تلك التى تتعلق بموقف «محمد مرسى» من مكافحة الإرهاب، أو بمعنى أدق، من عدم مكافحته. إنها أيام حالكة السواد، يصعب رؤية ما هو حقيقى فيها، ويسهل فيها إطلاق المعلومات المغلوطة والمختلطة بالحقائق، وإن كان كتاب المسئول الأمريكى السابق، هو أول اعتراف صريح بأن الإطاحة بـ«مرسى» كانت أمراً جيداً فى صالح مصر، وأنه بحكمه كان يقود البلاد إلى هاوية الخراب والتطرف وعدم الاستقرار، وأن المنطقة بأسرها، والعالم كله من ورائها، يدفع ثمن تغول الإرهاب فى عهد الإخوان حتى اليوم، وربما لسنوات طويلة أيضاً فيما بعد.
يبدأ مايكل موريل كتابه باستعراض ما جرى فى أحداث ٢٠١١. يقول: «التنبؤ بالثورات والمسار الذى يمكن أن تتخذه، أمر يصعب تحديده بدقة. لقد كنا فى المخابرات المركزية الأمريكية نملك مهارات كبيرة فى تقديم تحذيرات من الناحية الاستراتيجية، لكننا لم نكن نملك المهارة نفسها من الناحية التكتيكية. لقد كان المحللون فى المخابرات المركزية يحذرون لسنوات طويلة من وجود ضغوط عنيفة فى الشرق الأوسط، وأنه فى حالة عدم حدوث تغييرات جذرية فى سياسات قيادات العالم العربى، فإن سياسة «بقاء الحال على ما هو عليه» لا يمكن أن تستمر.
قدم هؤلاء المحللون ثروة من التحليلات والتقارير، رصدت كلها عدة عوامل سكانية واقتصادية واجتماعية، أشارت كلها إلى أن هناك اضطرابات مؤكدة فى طريقها لمواجهة أنظمة الحكم السلطوية فى المنطقة، فى الوقت الذى لا ترقى فيه حكومات تلك النظم إلى مستويات تطلعات شعوبها. كانت هناك فى الأساس مشكلتان فى تلك الدول، انتبهنا فى المخابرات المركزية إلى إحداها لكننا لم ننتبه إلى الأخرى. أدركنا أن الشباب الذين تلقوا تعليماً عالياً لا يجدون وظائف تتناسب مع مؤهلاتهم، وأنهم يشعرون بالقلق لأنه لا يوجد مستقبل أفضل فى انتظار أبنائهم. إلا أننا لم ندرك أن وسائل التواصل الاجتماعى كانت تسهم فى نشر آراء هؤلاء الشباب بسرعة وعمق، لم يحسب أحد حسابهما.
فشلنا أيضاً، كمخابرات، فى أن نقدم تحذيراً تكتيكياً من نوعية: «هناك شىء خطأ وخطر سوف يحدث فى تونس خلال الأشهر القليلة المقبلة»، أو: «لقد وصلت الضغوط التى كنا نناقشها منذ أشهر إلى مستوى عالٍ من الخطورة على امتداد المنطقة بأسرها». وعلى الرغم من أن كثيرين انتقدونا لأننا لم نقدم تحذيرات من هذا النوع من التحذيرات الأولية، فإنه فى الواقع كان من المستحيل تقريباً القيام بذلك. لا يوجد جهاز مخابرات فى العالم كله قادر على التنبؤ بسلسلة الأحداث التى تداعت بعد أن أشعل التونسى «محمد بوعزيزى» النار فى نفسه، ليسقط بذلك نظام حكم الرئيس الأسبق «زين العابدين بن على» ويطلق معه الشرارة التى أشعلت المنطقة كلها. كل ما أمكننا فعله هو أننا قلنا فى الأيام الأولى للثورة التونسية إن سقوط «بن على» هو إحدى نتائجها المتوقعة، وبمجرد سقوط تونس، بدأنا نحذر من أن الموجة سوف تمتد لباقى المنطقة، فى تقرير حمل عنوان: «ثورة الياسمين تمتد للمناطق المحيطة بتونس».
كانت هناك مشكلة أخرى فى تلك الفترة، تتمثل فى أن المخابرات الأمريكية لم تقم بالجهد الكافى للتنقيب فى ذلك الكنز من المعلومات التى تقدمه وسائل التواصل الاجتماعى. تلك الوسائل التى لم يعد دورها مقصوراً على نشر الأفكار، وإنما امتد ليصبح أداة فاعلة فى تنظيم المعارضين للنظام. لقد كانت المفاجأة التى تسبب فيها الربيع العربى بشكل عام، ودور وسائل التواصل الاجتماعى فيه بشكل خاص، سبباً جعلنا نضاعف جهودنا لمراقبة حجم المعلومات الهائل الذى يتدفق من خلال وسائل التواصل الاجتماعى باعتبارها مؤشراً على اتجاهات التغير السياسى. لقد كنا معتادين على سرقة واختلاس الأسرار، إلى الحد الذى جعلنا نغفل كل تلك المعلومات المتطايرة على «تويتر» لكى يراها العالم على الملأ.
فى نهاية الأمر، لا أظن أن نجاح المخابرات فى تقديم «تنبؤ» بثورات الربيع العربى -كما اصطلح على تسميتها فيما بعد- للإدارة الأمريكية كان يمكن أن يغير من مسار الأحداث فيما بعد، لكن ضمن كل الأخطاء التى ارتكبناها فى تلك الفترة، فإن أكثرها فداحة من وجهة نظرى، هو ذلك التصور الذى منح الناس آمالاً زائفة بسبب سوء تقديرنا لما سوف يحدث بعد أن ثار الشارع. لقد تصورنا، وأبلغنا صناع القرار، أن اندلاع هذه الثورات الشعبية يمكن أن يضر تنظيم «القاعدة» من خلال إضعاف الخطاب الذى تستخدمه. رأى المحللون فى المخابرات المركزية أن المتظاهرين فى الشوارع نقلوا رسالة توضح أن التغيير السياسى أمر ممكن من دون أن يكون تحت قيادة تنظيم «القاعدة»، ومن دون اللجوء لاستخدام العنف الذى تقول إنه ضرورى. كان هذا هو ما تصورناه، إلا أن الواقع، أن نجاح الناس فى أن يكون لديهم الحق فى تأكيد إرادتهم، قد أدى إلى نتيجة غير متوقعة، هى فشل الدول الرئيسية فى المنطقة بشكل مفاجئ فى التعامل مع تنظيم القاعدة وغيره من التنظيمات المتطرفة والمسلحة، إما بسبب عدم قدرتها، أو غياب إرادتها لذلك.
باختصار، يمكن القول إن الربيع العربى كان فرصة كبرى للمتطرفين الإسلاميين عبر الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، خاصة فى مصر وليبيا، وبالصدفة وجدت نفسى فى قلب الأحداث فى هذه الدول فى تلك الفترة.
لقد اندفع عشرات الآلاف من المتظاهرين إلى شوارع القاهرة فى يناير ٢٠١١، مطالبين برحيل الرئيس الأسبق حسنى مبارك، متأثرين بما حدث فى تونس. كانت العديد من مطالب المتظاهرين مشروعة، فظروف الغالبية العظمى من الناس لم تكن ترضى أحداً، فى الوقت الذى أدى فيه غياب العدالة الاجتماعية إلى تفاوت رهيب بين الطبقات، وفى الوقت الذى كان فيه الغرب معتاداً على تأمل صور الأهرامات والمنتجعات الجميلة على شواطئ البحر الأحمر، كان الفقر المدقع يدمر حياة ملايين المصريين.
كانت تلك الفترة واحدة من أصعب الفترات بالنسبة لصناع القرار فى أمريكا الذين كانوا ينظرون لـ«مبارك» على أنه حليف مخلص للولايات المتحدة، وأنه، باعتباره رئيساً لأكبر دولة من حيث عدد السكان فى العالم العربى، يلعب دوراً محورياً فى المنطقة، ولم يكن من الممكن بالنسبة للمسئولين فى الولايات المتحدة أن يتجاهلوا حقيقة أن استمرار معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، أقرب حلفائنا، لا يستند إلا على عدد محدود من القادة فى المنطقة، مثل مبارك.
تزايدت الاضطرابات، وصار عدد المتظاهرين فى الشوارع يتضاعف يوماً بعد يوم، مع موجات متفرقة من العنف يأتى معظمها من جانب الحكومة، التى كانت تحاول وضع حد للمتظاهرين. وراح البيت الأبيض يعقد اجتماعات يومية لبحث ما إذا كان من الممكن أن تسهم الولايات المتحدة فى التوصل لحل سلمى يضمن الاستقرار فى الفترة المقبلة. كنت أنا ممثل المخابرات المركزية فى هذه الاجتماعات، ولم نكن نملك إجابة واضحة.
اتفق المشاركون فى اجتماعات الإدارة الأمريكية على أمرين، أولهما هو أن أحداً لا يمكنه أن يلقى بنفسه أمام قطار ثورة الناس السريع، كان من الواضح أن النتيجة النهائية لما يحدث سوف يتم حسمها فى مصر وليس فى الولايات المتحدة. الأمر الثانى الذى اتفقنا عليه هو أن واشنطن تقدر دعم «مبارك» طيلة سنوات حكمه فيما يتعلق بعملية السلام فى الشرق الأوسط وجهود مكافحة الإرهاب، إلا أن الوضع الداخلى فى بلاده قد تجاوز المرحلة التى يمكن إنقاذه فيها. وبدا وكأن أيامه قد أصبحت معدودة. لكن، ظلت وجهة النظر السائدة تقول إنه من الممكن أن يلعب «مبارك» دوراً فى عملية انتقال سلمى للسلطة لنوع جديد من الحكومات فى مصر.
اتفق ممثلو وزارات الخارجية والدفاع ومجلس الأمن القومى الأمريكى، على أنه لا توجد وسيلة يمكن للحكومة الأمريكية أن تدعم بها مباشرة أياً من مبارك أو هؤلاء الذين يريدون الإطاحة به. كان أفضل ما يمكننا عمله هو أن نقول علناً إن الولايات المتحدة تسعى لحل سلمى، ثم نعمل على المستوى الدبلوماسى من وراء الكواليس مع «مبارك» لكى نصل لنتيجة نهائية نتجنب فيها تفجر أى حمام دم، وتضمن فى الوقت نفسه، انتقالاً لحكومة جديدة، مستقرة.
طلب منى أن أسهم فى تحقيق ذلك. فعلى امتداد عقد كامل من الزمن، كانت لدى عدة لقاءات مع عمر سليمان، رئيس المخابرات العامة المصرية. كان رجلاً طويل القامة، متحفظاً، يجيد التعبير عن نفسه وآرائه. كان جنرالاً سابقاً فى الجيش يرتدى دائماً بذلة مدنية، وكان أيضاً، رجلاً بالغ الحكمة فيما يتعلق بالشئون الأمنية فى المنطقة، وكنا نلجأ لطلب استشارته دائماً فى أمورها المعقدة. كان بإمكانك أن تسأل عمر سليمان سؤالاً واحداً حول أى مسألة إقليمية، ثم اجلس بعدها لتنصت إلى ما يمكنه أن يتحول فيما بعد إلى محاضرة تستمر نصف ساعة مفعمة بوجهات النظر العميقة. لم يكن هناك ما يقطع ملاحظاته إلا سعاله الخفيف بحكم العادة، الذى كان يستفيد منه كل بضع دقائق لجمع وترتيب أفكاره، تمهيداً للتوسع فى مناقشة الموضوع.
المصدر الوطن
تعليقات
إرسال تعليق