الحـب العميق


المصدر الاهرام - بريد السبت يكتبه - أحمد البرى


من تعاليم الحكيم بتاح حتب وتوجيهاته للزوج المصرى القديم: «إذا كنت عاقلا فأسس لنفسك بيتا.. وأحبب زوجتك حبا جما.. واحضر لها الطعام.. وزودها باللباس.. وقدم لها العطور.. وإياك ومنازعتها.. فباللين تملك قلبها.. واعمل دائما على رفاهيتها لتستمر سعادتكما».وفى دراسة أجراها عالم الاجتماع د. دافيد بوس، اشتملت على أكثر من عشرة آلاف سيدة ينتمين لسبع وثلاثين حضارة، وجد أن المرأة لا تهتم بمظهر الزوج قدر اهتمامها بما يمكن أن يوفره لها ولأولادها فى المستقبل، من شعور بالأمان والحماية والاستقرار، وحسن الصحبة، وينعكس ذلك على اهتمامها عند الاختيار بشخصية الرجل، ومنزلته الاجتماعية، وإمكاناته المادية، وتظهر الدراسات الاجتماعية والنفسية أيضا أنه بمضى السنوات على الزواج، ينتقل الحبيبان مع حسن المعاشرة من مرحلة الحب الرومانسى الساخن إلى مرحلة الحب العميق المستقر، إذ تهدأ الدوائر المخية العصبية الخاصة بالإلحاح والشوق، وتنشط بدلا منها دوائر الارتباط المسئولة عن الاطمئنان والثقة والركون إلى من نحب، وقد يسيء البعض تفسير هذا التغير ويعتبرونه فقدانا للحب.إن هذا الانتقال من الرومانسية والشوق والإلحاح، إلى الاطمئنان والثقة مطلوب بشدة، وإلا لاكتفى كل من الزوجين بشريكه، ولما فكر فى إنجاب أطفال.. إنها البيولوجيا التى تهدف إلى الحصول على النسل لحفظ النوع.أما إذا حدث ما يهدد الهدوء والاستقرار، وأصبح الارتباط فى مهب الريح، فإن ذلك يؤدى إلى انتعاش الدوائر المخية للشوق والإلحاح مرة أخري، بالإضافة إلى تنشيط مراكز الخوف والقلق، فيشعر المحب بالتوتر الشديد خشية الفراق، أو الانفصال التام، ويؤدى الانفصال بين المحبين إلى أعراض نفسية وعضوية تتراوح شدتها تبعا لصدق وعمق الحب، حتى إن الفحص الإشعاعى للمخ فى هذه المرحلة يسجل تغيرات تشبه ما يحدث للمدمنين كما تسجل نشاطا كبيرا فى مراكز الألم العضوي!!!ويعد الزواج فى جميع الحضارات، باعتباره الشكل الأمثل للعلاقة بين الرجل والمرأة انتصارا كبيرا للمرأة على الطبيعة البيولوجية للرجل.. هذه الطبيعة التى تدفعه إلى إقامة علاقات جنسية متعددة، وميل الرجل إلى هذه العلاقات ليس فى حاجة إلى دراسات لإثباته، فالرجل يشترك فى هذا الميل مع ذكور معظم الثدييات، حتى أصبح الميل للتعدد مدموغا فى شفرته الوراثية، ومخه الذكوري.إن الدافع البيولوجى الأعلى عند الرجل للتعدد هو أن تجتمع جيناته مع أكبر عدد من الجينات الأفضل عند الجنس الآخر، أما المرأة فقد عافاها الله عز وجل من هذا البلاء، بأن جعل رحمها وأمومتها تتفرغ للطفل الواحد لفترة طويلة، وتقبل المرأة على الزواج بعواطفها أكثر من عقلها، إنها تبحث عن صحبة حميمة يظللها الأمان والاستقرار، كما تملؤها الرغبة فى أن يعتمد كل من الشريكين على الآخر، وترى المرأة فى العلاقة الجنسية تجسيدا لكل ذلك.أما الرجل فأقل اهتماما بهذه المعاني. إنه يفضل الاستقلال، وينطلق عادة من اعتبار أن دوره فى مؤسسة الأسرة هو توفير المتطلبات المادية، كما يبحث عن علاقة جنسية مشبعة جسديا تثمر فى النهاية قبيلة صغيرة يترأسها فى بيت مستقر يسمح له بالتفرغ للإنجاز فى حياته العملية.إن السؤال الملح الآن هو: كيف تم ترويض الرجل على عكس فطرته ليرضى بالاكتفاء بامرأة واحدة فى إطار الزواج.. إن ذلك أمر يحتاج إلى تأمل عميق.. ويرجع قبول الرجل المشاركة فى مؤسسة الزواج إلى عدة أسباب شاركت المرأة فى إرسائها، منها شعور الرجل بأن هذه العلاقة تصون له امرأته مثلما تصون منه النساء الأخريات، كما توفر الأسرة للرجل جوا من الأمان والسكينة، وتشبع فيه الشعور بأنه حاكم فى مملكته الصغيرة، ويرجع ذلك أيضا إلى أن الرجل يؤثر الهدوء، وراحة البال التى تكون مهددة بشدة لو أقبل على زواج ثان، وأخيرا يبدو أن وراء ذلك كله سر أنثوى عميق لا يعرف الرجل كنهه.إن الرجل يبدو أمام زوجته كالكتاب المفتوح، ليس بسبب قدرتها على استقراء الغيب والتنجيم، ولكن بسبب قدرة المرأة على قراءة نظرات العيون، وتعبيرات الوجوه، وفهم ما تحمله التصرفات الصغيرة من دلالات، وإذا كانت المفاهيم الاستراتيجية تؤكد أن القوة تعتمد على جمع المعلومات، فإن الزوجة بلاشك هى الأقدر على ذلك.لذلك نقول: إنه إذا كان الزوج هو محرك سفينة الأسرة، فإن المرأة هى الدفة والربان، حيث أنها تملك الخريطة، وتعرف أين تكمن الصخور.. فلى أدركتم أولادى وبناتى بعضا من معنى قول الحق عز وجل: «ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها.. وجعل بينكم مودة ورحمة.. إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون» صدق الله العظيم
د. عمرو شريف


تعليقات

المشاركات الشائعة