الرواية التى خذلها الشرقاوى وكمال الشيخ .. وأنصفها بركات وسعد وهبة

فاتن حمامة و عبدالله غيث فى فيلم الحرام
المصدر الأهرام . ahram.org.eg . أخبار الفن
فريق عمل «النداهة» تعامل مع النص بسطحية  .. و«عنبر الموت» تحول من مقال إلى فيلم سينمائى


وحده يقف المبدع يوسف إدريس فى منطقة خاصة جدًا، فالطبيب الوسيم الذى يملك ملامح شديدة الجاذبية تجعله يحاكى النجوم. من الصعب علينا أن نتخيل امتلاكه هذه القدرة المدهشة على تشريح الواقع المصرى، ورصد الكثير من مشكلاته الاجتماعية والسياسية.فكيف للطبيب المبدع أن يرصد مجتمع الفلاحين كما جاء فى فيلمه «الحرام»، وكيف له بنفس الرقة التى تحاكى حد السيف والرهافة والوضوح أن يكشف لنا تأثير الفقر والقهر والكبت الجنسى، فى أكثر من معالجة إلا أنه تجلى حقا فى «بيت من لحم» والتى تم تقديمها فى أكثر من معالجة سينمائية من قبل أجيال مختلفة، وكان من أكثرها لفتا للانتباه تجربة المخرج الشاب رامى عبد الجبار، وهناك أيضا « كان لابد يا لى لى أن تضيئى النور» والتى أخرجها مروان وحيد حامد.

كما صاغ الدكتور يوسف إدريس، سيناريو وحوار بعض الأعمال السينمائية، منها «حدوتة مصرية» مع يوسف شاهين، وشارك فى تحويل بعض رواياته وقصصه إلى أفلام سينمائية فى بعض الأحيان كاتبا للسيناريو فقط أو مكتفيا بصياغة الحوار.


وبنظرة متأنية لما أنجزه الأديب الكبير فى الأدب وما قدمه من إبداع قصصى متفرد فى مجال القصة القصيرة، والمسرح والرواية نستطيع أن نقولها وبوضوح إن السينما لم تعط يوسف إدريس حقه، بل إنها ظلمته وكانت علاقتها بالأديب المبدع ترقى إلى درجة «الحرام» الذى يعنى الظلم فى العامية المصرية ، قياسا بغيره من الأدباء، خاصة أن إبداعاته القصصية هى الأكثر تعبيرا عن البيئة المصرية الأصيلة، كما أن قلمه كان يرسم الشخصيات والأجواء الاجتماعية بعبقرية، لذلك يظل السؤال المطروح هو: لماذا ابتعدت السينما المصرية عن أدب إدريس؟ فلم يظهر اسمه على التترات إلا 11 مرة فقط، منها تسع مرات عن قصص وروايات له، وحتى عندما تعاملت السينما مع بعض إبداعاته لم تقدمها بنفس مستواها الروائى.. فيما عدا «الحرام».

قدمت السينما روايتين ليوسف إدريس هما «الحرام» و»العيب»، إضافة إلى 3 روايات قصيرة وهى «لا وقت للحب» عن قصة حب، و«قاع المدينة» و«حلاوة الروح» عن العسكرى الأسود، وأربعا عن قصص قصيرة وهى «حادثة شرف، و النداهة، وعلى ورق سيلوفان، والعسكرى شبراوى» عن قصة «مشوار»، كما استوحى المخرج أشرف فهمى قصة فيلمه «عنبر الموت» عن مقالات يوسف إدريس والتى تناول فيها قضايا الأغذية الملوثة بالإشعاع، وتظل المرة الوحيدة التى تعامل فيها «يوسف إدريس» مباشرة مع السينما فى قصة فيلم «حدوتة مصرية» والتى كتب لها السيناريو يوسف شاهين فى بداية لسلسلة يوسف شاهين عن أفلامه التى تناول فيها سيرته الذاتية.

من «دعاء الكروان» إلى «الحرام»

هنرى بركات مخرج مبدع قدم ألوانا سينمائية متباينة، فهو صاحب «دعاء الكروان» وأيضا العديد من الأفلام الرومانسية والخفيفة، إلا أنه كان من أكثر المخرجين الذين تعاملوا مع ادب، إدريس بأمانة شديدة ولم يخن النص عندما قرر تقديم «الحرام» فى فيلم سينمائى من بطولة «فاتن حمامة»، وكتب السيناريو والحوار الكاتب المخضرم «سعد الدين وهبة»، صاحب سكة السلامة والذى استطاع بذكاء أن ينقل روح النص.

كما وفق المخرج بركات فى اختيار طاقم الممثلين وإدارتهم، وقد كانوا جميعاً من الموهوبين وعلى رأسهم فاتن حمامة وزكى رستم و عبدالفتاح البارودى، توظيف الموسيقى التى استخدمت آلات معبرة عن تلك البيئة الشعبية، بركات الذى خرج بالفيلم إلى أماكن طبيعية لنقل أحداثه رصد حياة عمال التراحيل. يحكى الفيلم عن عزيزة (فاتن حمامة)، تلك الفلاحة الفقيرة والتى تتحمل قدراً كبيراً من الضغوطات النفسية والاجتماعية والمعيشية، فى سبيل إعاشة عائلتها.. والفيلم يرصد أيضا ذلك السقوط الأخلاقى .. من خلال «سقوط «عزيزة» .. سقوط يقع فى إطار العلاقات السائدة فى الريف، اقتصادية كانت أم اجتماعية. إننا فى هذا الفيلم أمام تراجيديا لمأساة فردية، ولكنها فى الوقت نفسه وسيلة تعرض الواقع المحيط بهذه الشخصية وفرادتها، فالفيلم يتخذ منهجاً موضوعياً شاملاً عندما يضع مأساة بطلته فى إطار ظروف مجتمعها المحيط بها ، وذلك باعتبار أن الفن والأدب بشكل عام يتناول مصائر الأفراد كظواهر اجتماعية وليست حكايات ذاتية منعزلة عن الواقع.

أما بالنسبة للنواحى الفنية والجمالية فى الفيلم، فقد وصل بركات إلى درجة عالية من الإتقان والقدرة على نقل الأحاسيس والتحكم فى كل التفاصيل، كذلك اهتم كثيراً بالإيحاء والتعبير عن الواقعية كصوت وصورة، إلى حد إصراره على أن يتم التنفيذ على الطبيعة، من حيث التصوير وتسجيل الصوت أيضاً.. كما أنه فى سبيل ذلك، زار عدة مناطق فى الريف وأتاح لـ «فاتن حمامة» أن تختلط بالفلاحات للتعرف على أسلوب حياتهن ونوعية لباسهن ودراسة اللهجة الريفية وإجادتها .ثم إن قيادة بركات لهذا الحشد الكبير من الممثلين والكومبارس، إضافة إلى فريقه الفنى، قد أكد قدراته وإمكاناته فى السيطرة التامة على مجمل العمل الفنى لذلك استحق الترتيب الرابع فى قائمة أفضل عشرة أفلام فى تاريخ السينما المصرية، وذلك فى استفتاء مجلة «الفنون» المصرية عام 1984. وقد أتاح لبطلته فاتن حمامة أن تقدم دوراً كبيراً وخالداً، وصلت به إلى مرتبة النجوم العالميين، وكتب عنه الناقد الفرنسى جورج سادول فى جريدة «الآداب الفرنسية» بعد أن شاهد فى أحد المهرجانات: فيلم «الحرام» مفاجأة طيبة بعد ما اعتدنا أن نراه من الأفلام فى المهرجانات السابقة ... وقد كتبت عنه قبل ذلك بعد أن عدت من رحلتى إلى مصر ولكنى خشيت أن يكون إعجابى بالفيلم نتيجة لتأثرى الشديد بما شاهدته هناك, وللقائى بالمخرج هنرى بركات... إلا أننى بعد أن شاهدت الفيلم ثانية فى المهرجان تأكدت من صحة رأيي, وأعتقد أنه يشاركنى فى ذلك نقاد كثيرون أعجبوا جميعا بالواقعية التى عرض بها الفيلم الحياة اليومية فى القرية المصرية. وإن كان الفيلم طويلا بعض الشىء. إلا أنى أعجبت بالتفاصيل التى تجعلنا نعيش مع أولئك الفلاحين فى حياتهم الفعلية ... «الحرام» قصة دون مبالغة أو انفعال ... نقد اجتماعى دون دعاية ... مثل هذا الفيلم يجب أن ينال جوائز المهرجان ... وأنا لا يهمنى أن يكون الفيلم «سكوب» أو بالالوان وإنما يهمنى الإحساس بالواقع.

العيب وتجربة لم تتكرر

أما فيلم «العيب» فهو واحد من الأفلام القليلة التى أخرجها للسينما المخرج المسرحى الشهير «جلال الشرقاوى» وأعد السيناريو له رمضان خليفة وقام يوسف إدريس بكتابة الحوار بنفسه فى تجربة لم يكررها ثانية فى الأعمال المأخوذة عن أدبه.

وعلى النقيض لم يحقق «العيب» نجاحا لا تجاريا ولا أدبيا مثلما حدث مع فيلم «الحرام»، وقد يرجع ذلك لأن جلال الشرقاوى وكاتب السيناريو قد قاما بلى ذراع الدراما وابتعدا عن روح النص الذى صاغه إدريس، فالرواية تصور السقوط الاجتماعى والجسدى لفتاة اضطرتها ظروفها القاسية للتخلى عن مفاهيمها للشرف والكرامة إلا أن الفيلم غير النهاية وجعل الفتاة تواصل الصمود فى وجه الظروف الصعبة .

النداهة

ولم يحقق فيلم «النداهة» أيضا نجاحا كبيرا رغم أن الذى أعد له السيناريو المبدع عاصم توفيق ومصطفى كامل وأخرجه حسين كمال إلا أن فريق العمل ورغم موهبتهم وتميزهم، تعاملوا مع النداهة بسطحية شديدة، تخلو من عدم إدراك كامل لماهية أدب يوسف إدريس، فالنداهة قصة تحكى عن القرية فى مواجهة غوايات المدينة، وترصد أيضا «ترييف المدن وتمدين القرى»، وما يؤدى له من انهيار للقيم وفكرة الأصالة وما فتحية إلا رمز.. لكن الفيلم اختار أن يقتصر على تتبع طريقها للسقوط، الجسدى فقط لا غير حتى مشهد اغتصابها من قبل المهندس لم يكن مقنعا فكريا ولا إخراجيا ولم يفلح الفيلم فى إظهار ما تريده فتحية فهل هى تريد أن تكون امرأة عاملة ذات دور أم أنها راغبة هى الأخرى فى الاستسلام لغواية المهندس؟

قاع المدينة

ويبدو أن الحظ السيئ ظل يلاحق إدريس فبعد أن تحول فيلم «الحرام» إلى أيقونة فى تاريخ السينما المصرية والعربية، الا أن أعماله التى قدمت بعد ذلك كان الفشل من نصيبها أيضا حيث أخذ المخرج حسام الدين مصطفى قصة يوسف إدريس «قاع المدينة» فى الفيلم الذى حمل نفس الاسم إلى منطقة لا تمس النص الأدبى والذى كان يعتمد إلى حد كبير على الجنس بأبعاده النفسية والاجتماعية، وكيف تكون تلك الحالة انعكاسا لمجتمع مقهور بالكامل، ولكن للأسف لم يكن السيناريو موفقا، والذى أعده الأديب أحمد عباس صالح. فالرواية تتناول علاقة القاضى عبد الله الثرى الأعزب العاجز جنسياً مع الخادمة شهرت، يتراءى للقاضى أن شفاءه لن يكون إلا على يدى شهرت أو على حساب جسدها، وحينما يتحقق له الشفاء فإنه يدفع الخادمة إلى طريق البغاء، وهو نفس الحال مع فيلم «حلاوة روح» الذى قدمه المخرج أحمد فؤاد عن النص الأدبى البديع ليوسف إدريس

«العسكرى الأسود»

كما وصل الحال بعد ذلك إلى أن تبرأ يوسف إدريس من فيلم «العسكرى شبراوى» والمأخوذ عن قصة مشوار والمفارقة أن من قدم هذا الفيلم هو المخرج المبدع هنرى بركات صاحب «الحرام» .

وفى ظل ما نراه فى السينما أو الدراما حاليا، نلفت نظر الكتاب والمخرجين إلى أن أدب إدريس يضم كنوزا تحتاج إلى إعادة اكتشاف خصوصا أنها نصوص تملك روح الأصالة، وهو ما أصبحنا فى أمس الحاجة إليه، بعيدا عن الأفلام المنسوخة والمقلدة للسينما الأمريكية.. ظلمنا إدريس حيا فهل ننصفه بعد موته فنيا؟.

تعليقات

المشاركات الشائعة