قنديلة [3] للشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى
إلي فاطمة قنديل، التي أنّثوا القنديل إكراما لها...!! «عبد الرحمان..!!«
انتظر قنديل ثلاث سنوات احتضن وملس وقرأ الفواتح وولج ثم ولج ثم ولج ولكن بطن ست ابوها (المشوهرة) بفعل اقتحام «سكسك» لغرفتها أثناء الرضاع لم تستجب للدعوات ولا الاحجبة ولا الاستحمام بالدمسيسة والغبيرة والرجلة التى كانت تأتى بها من على حواف النهر مدعية رغبتها فى الخروج لملء الجرار مع النسوة رغم اعتراضات قنديل الرقيقة التى كانت تخفى رفضا حقيقيا إذ إنه كان يعلم الكثير عن عيون الرجال تحت السقيفة التى لابد أن تمر عليها النسوة اللاتى لابد وأن تهتز أجسادهن تحت ثقل الجرار الطويلة وهو لم يكن يحب أن يتعرف أحد على ست ابوها فى موكب النساء الملثمات كان يقول باحتجاج: إذن لماذا طفحنا المرّ فى فحت وبناء البئر؟ هل ذاق أحد طعم ماء كالذى يخرج منها؟
«فترد باسمة مخفية حنكتها البريئة «طين النيل يخصب البطن كما يخصب الأرض»فيسكت.
كانت تقوم فى الفجر مثلهن تطعم طفلتها جيدا وتحل المبلل لتضع اليابس وتوصيها جيداً«لاتصح يافاطنة من أجل أمك حبيبتك ست أبوها ظلى نائمة لاتنوحى وإلا استيقظت البومة التى فى الحاصل والتى قطعت عنك لبن بزى حذار يافاطنة أنا أخرج من أجل أن أخاويك من أجل أن يكون لك أخ فى هذه الدنيا الواسعة التى لاترحم الفرادي«تحمل الجرة وتمضى الى مكان اللقاء وتلحق بالسرب وهناك حين يكن مشغولات بحك الجرار بالحجر الرملى تتبع هى خطوط النباتات البرية التى تمنع دماء الحيض الشهرية، لتنفك «المشوهرة» وتنشغل بطنها لما خلقها الله لأجله بطن المرأة هنا لا لطعام ولا لشراب لكنه وعاء الحمل وقفة الأطفال الخيرة.
كانت تلمح شماتة خفية فى عيون «سكسك» وكانت تأمل أن يشكشك الله عيونها بإبر محماة فى نار جهنم هذه التى ضيقت عليها اتساع البيت، ونصبت حاجزا حجريا خفيا بينها وبين زوجها الذى ليس كمثله رجال، وقصرت عمر فرحتها فى الدنيا..
حبت فاطمة على تراب البيت المرشوش، بدأت يدها تعبث بأشياء الأرض، تأكل «ذبل الحمام» و«بعْر» الماعز والأرانب، تطارد الفراريج التى امتلأت بها الدار بعد أن وفر لها شعير الكرم زادها، وقد كانت هواية ست أبوها منذ كانت طفلة فى بيت أبيها أن تبنى «كنانا» للحمام، ومصاطب طولية طوبية للأرانب تحفر تحتها لتلد صغارها بالعشرات ومن بيض الفروج تأكل إناث وذكور «المالطي» والأوز الصغير، تفتح لهم باب الكرم ليعوم فى مصب الماء إلى جوار البئر من يجد لذته فى العوم ويشرب من يشرب وفى المساء تقودهم إلى فتحات المنامات «والأصفاط» التى بناها قنديل لتخزين الغلال التى فاض بها الكرم كان الخير ينبع من كل شبر فى هذا البيت المعطاء إلا من عيون هذه المرأة الغامضةلم تجرؤ أن تصارح قنديل بضيقها من أخته الوحيدة، لم تجرؤ أن تطالبه بعودتها للبيت الآخر عند مقام «سيدى الشيخ سعيد» فقبلت على مضض هذا الاحساس الذى لازمها وخنق حريتها منذ خطت الأقدام اليابسة سكسك الذى يذبح الطير داخل عتبة بيتها.
لم تعيّرها «سكسكة» بإنجاب البنت دون الولد لكن عيونها ومشاعرها نحو فاطنة كانت تفضح ذلك بعلنية لا سبيل إلى تجاهلهافحين كان قنديل يدلل طفلته ويمرجحها على ركبتيه ويمتدح شقارها وعيونها الملونة ووجهها الأبيض، كانت «سكسك» تصدر صوتا كالآهة متعللة بوجع الظهر وتغادر المكان، كانت ست أبوها تستقبل رسائلها الشامتة فى تجاهل وصبر.
كان «فصا» البلح قد زَرّع الآنخرجت من كل مطرح خوصة واحدة قوية حادة متجهة لأعلى فى خط مستقيم تبعته ست أبوها وفاطنة وهو يمسك بالمقص الحدادى ويتجه إليها خوصة خوصةيكشف التراب برفق حتى يصل إلى النواة التى زرعها فيكشفها جيدا لاحظت ست أبوها أن كل خوصة تخرج من ثقبين بفرعين يتوحدان فى خوصة واحدة وما كانت رأت مثل ذلك من قبل فكل النباتات تخرج من ثقب واحد فى البذرة وينبثق الجذر من الأسفل للأسفل يميل قنديل بحذر فيقص أحد الفرعين ثم يردم ويسقى هكذا دار على كل الخوص النابت إلا واحدة ظنت أنه نسيها فنبهته إليهاقال ضاحكا بصوته المجلجل«أعرف ياست أبوهاقنديل لاينسى هذه الخوصة هى الذكرهل تريدين خمسة عشر نخلة «نتاية» بلا ذكر؟ من أين «تذكرّينها» إذن؟ لقد قصصت حبْل الحَبل الكذاب لتصبح النخلات إناثاأما هذه فمكانها معرّض لأيدى العابرين والجيران فلتكن الذكر الذى تطرّحين منه الطرْح كل عام بيدك إن النخل يختلف عن فراريجك التى تكسّر عليها الديوك لكل طريقته فى ملاقحة نسائه!!.
صمتت، وحملت طفلتها، وتبعته قالت لنفسها«لم يقصد شيئا، قنديل رجل صريح واضح، لو أراد أن يقول قولة لنطق بها فى عين الشمس لا يرمى الكلام ذا الوجهين كالنساءأنا الذى تعلمت التلفت خلفى عند كل كلمةكله من هذه المرأة العقرب التى اقتحمت عليّ الغرفة فشاهرتنى جففت لبني، وقطعت خلفى منها لله!!».
قرر قنديل العودة إلى السويس إلى بوابة رزقه هناك يتاجر فى الجناين والبساتين يشترى طرحها وهو بعد زهر أو أول ما يعقدخبرته بالفصول والرياح التى تطير الزهر وبالحرّ وبالبرد بالشهور القبطية وألاعيبها جعلته لايخطئ أبدا فى تقدير طرح كل جنينة وما سوف ترميه من محصول هذا عمله الذى خبره جيدا فأعطاه أسراره ورزقه وجعله متميزا عن كل الأبنوديين الذين رحلوا من قبله عمل لا يحتاج لرأس مال يحتاج إلى رجل فى شهامة واستقامة قنديل رقبته معلقة بحبال كلمته ويشترى وإذا كان يملك مالا دفع منه القليل ربطا للكلام، وبمجرد ظهور الخير، ونزول عربات الكارو محملة بالمشنات إلى المبيع الكبير فى السويس لايدخل إلى بيته مليما قبل أن يسدّد ما عليه قرشا قرشاكان يقيم فى الحدائق التى يكتريهايستجلب الخفراء من قريته، وخلال مواسم المانجو والبرقوق والبرتقال والبلح يتنقل بينهم من حديقة إلى بستان حاملا لهم احتياجاتهم وطلبهم، وفى آخر الموسم يغدق عليهم بكرم وعفة نفس يكسوهم ويحملهم سلامه لأهاليهم وأهل البلدةلذا كانوا يسارعون بالسفر إليه حين يرسل فى طلبهم بل إن كثيرا منهم استقر هناك وعمل فى «المبيع» وصار معلما كبيرا أو أشترى قطعة أرض أذاب جبسها وغسل جيرها وصرّف ملحها وزرعها مشمشا وبرقوقا وزرع تحتها الخضر وظلوا دائما يدينون له بالفضل ويذكرون مآثره مختلطة بالدعاء.
فى الصباح الذى غادر فيه قنديل إلى السويس غادرت سكسكة إلى بيتها فى غرب البلدلم تغادر إلا حينما تأكدت أن أخاها، نور البيت، وعمود الخيمة قد غادرالفرح والحزن غادرا المكان الشوك والظل، النعمة والنقمة، وبقدر ما نزلت دموع ست أبوها الساخنة على وجه فاطنة النائمة فى حجرها بقدر ما أحست بفرحة الانعتاق والاحساس بالحرية، واستردادها بيتها من جديد، وسرت الراحة الى قلبها كمياه الفيضان فى شقوق الأرض العطشي!!
حين وقع بصرها على الحفرةارتاعت وجمت ونشف ريقها فكأن لسانها يبس وأصبح قطعة فخارية جافة فقد ليونته فقدت صوتها وتشبثت مخالبها بلحم ابنتها الطريلقد دخلت وخرجت كثيرا وتمشت فى ساحة الفرن لتجمع أشياء قنديل قبل سفرهكيف لم تكتشف وجود هذه الهوّة الرهيبة التى يتسع طولها لانسان واقف؟من حفرها جان أم إنس؟ وهل حفرت فى ليلة الأمس أو فى هذا الصباح؟.
فكرت فى (أبوالحصين ثم استبعدت الفكرة فأبوالحصين يفحت جحورا ذات منافذ عدة راقبتها وراقبته كثيرا فى الحى الغربى فى بيتهم القديم ولكن هذه الحفرة التى تشبه حجرة حفرت من أعلى إلى أسفل وكومت أتربتها بعناية كأنها تمت بفعل فاعل ضبع؟.
ربما، فقد سمعت كثيرا عن (بورة الضبعةحفرة رهيبة تحفرها إناث الضباع تلد فيها وتقيم وتدافع كان الناس يبلغون الناس فترتج القوى وترتعد ويخرجون جماعات بالمقاريط والفئوس لقتلها.بل إن قرى كثيرا سميت (الضبعية نسبة لنزول الضباع إليها وسكناها، وكان الناس يحذرون بعضهم البعض من المرور الليلى عليها ليلا أو الاقتراب منها فى حماة الظهيرة جلست ست أبوها بابنتها فاغرة الفم مشبوحة العينين تنظر إلى قاع«البؤرة» وهى جالسة على بقعة من سور التراب التى يحيط بالحفرة المفرغة مصلوبة متصلبة الأطراف بائسة الذاكرة والارادة غير قادرة على الاتيان بأى فعل أو حركة.
هل يجسر الوحش على حفر كل ذلك فى الصباح والبيت ملئ بالمودعين وراسلى الرسائل إلى الأبناء والأزواج والآباء فى الغربة والحركة دائبة والنشاط على أشده، والاقدام تقطع مساحات الأرض طولا وعرضا..؟ أى وحش جسور هذا الذى لايهرب من البشر ولا يهاجمهم؟ لابد أنه حفرها ليلا لكن «سكسك» تنام على السرير الجريدى فى الفضاء بين الحاصلين والفرن؟ إنها تتسمع تقلباتنا وهمساتنا فى «الغرفة» العلوية وأذناها تسمعان دبة النملة على صخر الجبل، فكيف لم يوقظها صوت الحفر وأنفاس الوحش وقد استغرق وقتا وأى وقت فى حفر «بورة» كهذه؟ كيف لم تتنبه للحفرة قبل أن يغادر قنديل، فلاشك أن لديه إجابة فهو قصاص أثر وقاتل وحوش وكان سيبلّ ريقها ويفسر لها الأمر التفسير المعقول..؟
ظلت ست أبوها طويلا تدور الدنيا بهالم تصح إلا على اقتراب فاطنة التى حبت على ركبتيها مستغلة غياب الأم التائهة وأطلت من فوق التراب الناعم على «البورة» ساعتها استيقظت ست أبوها فزعة وصرخت وارتمت على فاطنة تجرها من قدمها لتنزلق مع التراب الناعم على الأرض حين اكتشفت أن لها
صوتا صرخت صرخة الاستنجاد المعروفة (بو.. و.. وصرختها بصوت غريب عليها، وبكل ما لديها من عزم، ومن سمع الصوت لم يميز صاحبته ولامكانه فلم يكن أحد قد سمع صوت ست ابوها يرتفع من قبل لكن يامنة أبو العلا جارتها ميزته وقدرت أن«البنت« قد تكون انزلقت الى البئر أو شب لديها حريق أو تصرخ من فراغ الدار بعد رحيل زوجها.
أزاحت يامنة الباب واندفعت للداخل وتبعتها زوجة الحسانى وبزادة ونساء كثيرات بل تدافع سيد ابو العلا وطلب الحداد وإن ظلا فى الديوان متحرجين غير قادرين على تجاوز عتبة الديوان إلى السوباط ثم إلى الفناء المكشوف وقفا فى انتظار أن تعود إليهما النسوة بالخبر.
كانت يامنة أول من رأت الحفرة ثم تلتها الأخريات وقفن جميعا وكأنهن واقفات على قبر عزيز مات.
لفت ست ابوها رأسها ووجهها بالطرحة السوداء ليدخل الرجال لم يستطع أحد حل اللغز ظلت البورة فاتحة فمها الرهيب وظل الرجال والنساء كرسوم المعبد ثابتة ظلالهم على الجدران.
تعاون الرجال على ردم البورة مقررين أنها من عمل الوحش إذا لم يكن قنديل قد حفرها فلابد أن الضباع عرفت طريق البيت حذروها ونصحوها بعدم ترك فاطنة وحيدة فهذه الحفرة نذير شؤم ومنفذ شر!!.
انطلق الجميع لينقلوا حكاية الحفرة ونزول الضباع وينبهوا أهل القرية لكى يغلقوا أبواب بيوتهم وحظائرهم جيدا ويضعوا أسلحتهم تحت رؤوسهم.
بينما ملأت يامنة دلوا من البئر رشت ماءه على التراب المفتت وداسته بأقدامها وقفزت فوقه عدة قفزات حتى يعود إلى استقراره القديم، ثم غسلت رجليها على البئر وعادت لتصعد السلم الطوبى حاملة فاطنة التى ما كانت ذراعا ست ابوها المرتعشة المتصلبة قادرة على حملها.
جلستا على السطح امام الغرفة صامتين سقتها شربة ماء وسألتها ألم تسمعى شيئا ليلة البارحة؟ ردت ست ابوها بخجل ووضوح كانت آخر ليلة كما تعلمينه هل كان يمكن لى أن أنصت لغير صوته؟ أوصانى كثيرا إلى أن نام حتى بعد نومه ظللت أستمع إلى أنفاسه ودموعى تهطل كالمطر نعم إسمعى لقد سمعت صوتا واحدا قويا.
كأنه آت من بعيدكأنه ليس فى بيتناصوت ليس له بدنكالأصوات التى نسمعها فى الأحلام صوت كالضوء ومضى وانطفأ لكن، ربما لم أسمع شيئاكنت فى هم لايسمح له إلا بسماع أنفاس قنديل.
فجأة سألت يامنة أين سكسك؟ قالت ست ابوها»عادت إلى بيتها مع رحيل قنديل قالت يامنه فى شبه غياب»لقد وجدته«سألتها ست أبوها فى ذهول»وجدت ماذا؟« قالت يامنة هل سمعت صياح ديك؟« ردت ست ابوها مستغربة «لقد سهرت لما بعد الفجر، وهل فى ليلنا أكثر من ضوء النجوم وصياح الديوك؟»
قالت يامنة»أنت طيبة ياست ابوهاالرزق رزقك والذى استولت عليه هذه المرأة الفقرهيا بنا مرة أخري«.
حملا فاطنة ونزلتا إلى الحفرة مرة أخرى شملهما صمت عجيب فجأة صاحت يامنة مختلطا صوتها ببعض جنون لم يكن الصوت صوت يامنة أبو العلا الذى تعرفه ست ابوها جيدابل كان خليطا من صوت عدة أشخاص رجالا ونساء»هذه الحفرة لم يحفرها بشرأين الفئوس؟ وكيف يدقون ويحفرون كل هذه البورة ولا تسمعان؟ وليست من فعل وحشأين أثر أقدامه؟ ولماذا اختار بيتكم بالذات، هل كان يتمرن على قفز أعلى الأسوار فى البلدة؟ لم لم يهشم الزرب الجريدى على سور الكرم؟ هل جاء ليبيض؟ اين كانت تنام هذه الملعونة؟« أشارت لها ست ابوها إلى مكان سرير الجريد قائلة»هنا تفرش سرير الجريد كل مساء، وفى الصباح ترفعه وتسنده على جدار الحامل كما ترينه«.
قالت يامنة أبو العلا فى ثقة العارف وثبات المتأكد» لابد أنك سمعت صوت الديك ليلة الأمس قرب الفجرإنه ليس كصوت ديوكنا بل صوت ذهبى يزغرد ولا يصيح ولايؤذن يزغرد كما تزغرد طيور الجنة إنه ديك من ضوء نعرفه أيتها الصغيرة وننتظره كل حياتنا الديك المرصود حين يظهر لواحدة منا أو واحد نتبعه الى أن يقونرشه بالتراب لابطوبة ولا بحجر فقد لانصيبه التراب ينفرش فى الهواءلابد أن تصيبه ذرة من هذا الترابساعتها يحدث الصوت الذى سمعته بالأمس.
الصوت الذى ليس كالأصوات، فتنفتح حفرة فى الأرض كالبورة هذه ليطل منها الكنزجرة أو بلاص أو مقطف مملوء بالقطع الذهبية لقد كان الرزق رزقك وسرقته هذه العرسة الماكرة لذا غادرت البيت مخبئة جرتها تحت ملائتها هل رأيتها ساعة الرحيل؟».
ردت ست ابوها بيأس كان قنديل راحلا وعيونى معلقة به هل لدى عيون أخرى؟ ثم إنى لا أحب النظر إليها«ختمت يامنة الحوار بقولتها«ياخيبة» فى تلك الليلة لم تنم ست ابوها دفعتها كلمات يامنة لمحاولة استرجاع ليلة الأمس لقد حضرت حلة الماء الساخن والطشت والليفة والصابونة المعطرة ووضعتها جميعا فى ركن الغرفة تهيأت لرجلها وتهيا لهاأطفأت لمبة الجاز أم «بنورة» خلعت ثوبها فى الظلام وكذلك فعل كان ضخما وكانت دقيقة العود قليلة اللحمحين اعتلاها كان فى ثقل حجر الطاحونة، لكنه لامسها وداعبها فبدأ ثقله يخف رويدا رويدا حتى لم تعد تشعر بثقل وأصبح ذهابه وأيابه فوقها كحركة المروحة الخوصية أمام الوجه ذهابا وإياباكان جسده كان يعرف أنه على سفر، فغاب كأنه نسى أن لكل مشوار نهايةكانت أطول مضاجعة منذ دخل بها وأخذ يحايلها ويلاطفها ويطرد غربتها ويعقد الصداقة بين الجسدين كانت »رقدة« الأمس مشروعا كبيرا وليست كرقدة أية ليلة سابقة.
كان جادا كأيام حفر البئر أو زرع الشعير أو بناء السوركان يبنى ويهد ما بناه ليعود لبنائه، يروح ويجيء كالنخل فى الريح كدبور يبحث بدأب عن رحيق فى نوارة بريةلم يكن يبدو عليه أنه سينتهى ارتعش جسدها مرتين فى كل مرة كانت تحس بالدنيا تدور وعظامها تتفكك وتتطاير وكان يحس بذلك كأنه يقرأ جسدها فيحتضنها مرة أخرى يلملمها ويعيد ما تطاير منها كلا فى موضعه، وحين يحس أنها استجمعت عظامها تحت جلدها الأملس يبدأ فى معالجته من جديدوكأنها البداية كادت روحها أن تزهق والرجل يسجل وداعه العميق، يدفن فيه قلق الأيام المقبلة ليبعث فيها بعضا من الطمأنينة للمستقبل ويوصيها بابنته وبالحفاظ على غيبته دون أن ينطق بكلمة قال كل شيء فى هرسه ومرسه وعنفه ورقته وتربيته وملامسته لمناطق السماع فى جسدها ثم فجأة اهتز كجبل يرتج أو سفينة موشكة على الغرق وظل يغوص ويغوص إلى أن صعدت روحه فى أنين حاول أن يكتمه اهتز جسدها وارتجف قلبها لسماعه فهى المرة الأولى التى تسمع رجلها الشامخ الجبار يئن!!.
ارتدت قميصها، وأشعلت لمبتها مرة أخري، وقام هو الى الطشت محاولا التماسك فصبنته وليفته وجففته وألبسته قميصه فرقد على الحصير نائما كجدارمهدود!!.
انتظمت أنفاسه واحتدت وهى مائلة على كوعها إلى جواره تنهمر دموعها بلا توقف، وكأن فاطنة التى كانت نائمة فى انزواء الغرفة كانت تدرك الأمر فلم تتقلب، ولم تصدر صوتا حتى الصباح.
ربما سمعت الصوت الذهبى أثناء انغماسها فى سماع أنفاسه.
ربما سمعت زغرودة الديك ثم صوت انفتاح «البورة» بل لابد أنها سمعت الصوتين وشغلها الفرق فى هم رحيل رجلها عنه اشغلها التفكير فى المرأة التى لاتحبها والتى لايبدو أنها ستغادر، وإذا كان وجود قنديل هو الذى يخفف من إرابة عيونها وثقل خطوها على أرض قلبها فكيف سيكون الأمر بينهما بعد رحيل قنديل؟!!.
لابد أنها سمعت زغرودة الديك الذى جاء من أجلها وصوت «البورة» وهى تزفر ترابها الدائرى بل وربما صوت خشخشة الذهب فى جرته ولكن همها كان أقوى من أن تلتفت إلى أصوات غير صوت أنفاس زوجها إلى بعيد بعيد!!.
تعليقات
إرسال تعليق