بيقولك الأبنودى مات! ما يقولوا

لكثرة ما أشيع.. لم أصدق أن «الخال» عبدالرحمن الأبنودى مات. فى الشهور الأخيرة تعرّض الأبنودى لأزمة صحية قاسية أوقفته وأوقفت محبيه فى مفترق طرق: «هذه ستكون الأخيرة».. كان يقولها ويبتسم (يحاول أن يبتسم) ويتقلب على سرير المحنة صلباً كما لو كان يعاند الموت. كنت -أنا والصديق محمود مسلم- نزوره فى مستشفى الجلاء العسكرى. أشاد بالخدمة وتحدّث كثيراً عن حسن المعاملة وعن الرئيس الذى اتصل به، وعن مصر التى كتبها شعراً وغناءً، ثم عن الموت الذى يقف على باب الغرفة فى أدب وخشوع، فحين يستضيف الموت شاعراً مثل الأبنودى لا بد أن يكون مهذباً، حنوناً، فهذا آخر «الأصوات».. هذا آخر «الحقيقيين».
لكثرة ما أشيع، لم أصدق، ولن أصدق أن عبدالرحمن الأبنودى مات أو سيموت، فالسيرة أطول من العمر، والشعر أخلد من كل الكتابة. وأنا لا أعرف -تلك مشكلتى- كيف أكتب عن هذا «العالم» الصاخب، الآسر، الموجع... هذا الذى سمّاه الشعر «أبنودى»، وسمته الدنيا «عبدالرحمن». كيف يكتب الواحد عن «76 عاماً» هى كل ما خلقه الله جميلاً وطاغياً واختص به إنساناً واحداً «موجزاً» -بكسر الجيم- و«متسعاً» هكذا؟! كنت خائفاً من أن تأتى لحظة أكون مضطراً فيها إلى الكتابة عن الأبنودى وكأنه «مات»، ليس لأن لحم كتابتى من شعره، إنما لأننى أصغر وأقصر قامة. أى قدرة على الكتابة تستوعب شاعراً فى هذا الحجم؟. هل أكتب عن «صعيد الأبنودى».. عن «عاميته» التى تقف رأس مثلث مع فؤاد حداد وصلاح جاهين.. عن حضوره السياسى فى كل «زعقة» وكل «آهة» وكل «كسرة نفس» وكل «رعشة محب» وكل «طلقة رصاص» من المحيط إلى الخليج.. عن ماذا وماذا وماذا؟!.. وإذا كنت عاجزاً أمام «حياته» فكيف أكتب عنه ويقال إنه «مات»؟ من الأفضل ألا أصدق. من الأفضل ألا أتقبّل فيه عزاء. من الأفضل أن أمارس حياتى وكأنه ينتظرنى فى منفاه الصحى هناك، فى الإسماعيلية، هارباً من «عادم» القاهرة الخانق، ومن زيف شعرها ومشاعرها.
عاش الأبنودى 76 عاماً: قل لى بحق الشعر وقسَمه المقدس كيف تحسبها لتكتب عنها؟. من أين تبدأها، ولا تخمّن أن لها نهاية، لأن أول الكلام يوم القيامة.. «شعر»! عاش الأبنودى كثيراً بحسبة الأيام والسنين، لكن الشعر ليس مسافة ولا وقتاً.. بل «تصحيح» لفطرة خلقها الله نظيفة وأفسدتها حسابات الوقت والمسافة. كنا مثلاً نتوه ونتداعى ونرهق أنفسنا بالجرى وراء صغائر الدنيا، ثم نفرُّ إلى عبدالرحمن الأبنودى ونسمع فى خشوع: نسمع صوته المحرِّض و«نتشعبط» فى لكنة الصعيد كأنها «هوية».. نسمع غناءه الجامع بين خشونة تُلهب نخوتنا، وليونة تشبه سحبة القوس على وتر الربابة. أنا شخصياً مت وبُعثت وأنا أسمع الأبنودى مائة ألف مرة، وتفرَّق دمى بين قصائده. قلت له مرة ونحن نتغدى طبيخاً ولحمة فى بيته الريفى فى الإسماعيلية: كيف كتبتها يا خال؟. كيف كتبت «قلبى ما يشبهنيش» يا خال؟. أنت قاتل متسلسل يا خال! فضحك ولم يرد إلا متأخراً، وقال لى وهو يقسم بهيبة الشعر: أنت أكثر منى موهبة! يا نهار اسود! أنا يا خال؟! أنا نقطة فى بحرك. أنا عابر فى طريقك. أنا درويش فى حضرتك. لكنه أصر وزاد: لو كانت لى سلطة عليك لحبستك فى غرفة وتركتك تكتب. هذا ما قاله لى عبدالرحمن وأعيش وأكتب من وحيه.
سأختم بـ«عاميته»، وبالطريقة نفسها: من هنا، من القاهرة، وإليه فى منفاه الصحى، حيث ينتظرنى: فاكر يا خال، فاكر سيرة الهلالى وسيد الضوى وإذاعة الشعب؟.. (مرة سأله مواطن: فين إذاعة الشعب؟.. فرد عليه: هو فين الشعب؟). فاكر جمال عبدالناصر والسويس والمقاومة وعبدالحليم حافظ؟ فاكر الأحلام المستحيلة وقشف الإيدين فى برد الشتا والكتابة على حيطان السجن؟ أنا عمرى ما نسيت صوتك ولا عمرك نسيت فقرى. كان صوت الفقر عالى يا خال. كان مجلجل.. كان يخوّف. كان كل اللى يسمعه يحبه.. لأنه «حقيقى».. انت اللى علمتنى ما اعرفش أعيش غير «خلف خلاف». انت اللى خليتنى نغمة نشاز. أنا ضلعك المعووج. تصدق يا خال: أنا حبيت الهزيمة عشان «عدا النهار».. ومن كتر ما حبيت «مسيحك».. بقيت «طيب».






المصدر الوطن

تعليقات

المشاركات الشائعة