حكايات من زمن الوالي .. عيشة الفلاح بائسة


المصدر بوابة الوفد - تحقيقات و حوارات 

كتب:عماد الغزالى

عاش حياة بائسة.. وتعرَّض للظلم من الملتزم والتجار وشيخ البلد وكبار الموظفين

أبو شادوف: كان أكله الدائم هو الشعير والجبن القريش.. والجبرتى: إذا تأخر عن دفع الضريبة جروه من شنبه وضربوه بالنبابيتبعض أبناء الفلاحين صاروا ملاكًا للأراضى.. وكان ظلمهم لذويهم أشد وأقسىقانون الفلاحة: النفى والسجن مدى الحياة لمن يحرق المحصول.. و400 جلدة للمتمردالباشا ألغى «الالتزام» واخترع «العهدة».. والزراعة شهدت فى عهده طفرة هائلة فى الأدبيات المصرية القديمة، كانت أرض مصر كلها منحة من الإله الفرعون، وعندما فتح العرب مصر عام 641م، أبقى العرب أراضى مصر بأيدى أهلها، وأبقوا نظام الحيازة الذى كان قائمًا فى زمن البيزنطيين، وصارت الأرض ملكًا لبيت المال، وكان الفلاح ينتفع بها مقابل دفع ضريبة عنها تسمى الخراج.وفى العصر العثمانى، بالتحديد عام 1658، تم تطبيق نظام الالتزام وقسِّمت أراضى كل قرية إلى قسمين: أراضى الفلاحة وأرض الوسية، الأولى يزرعها الفلاحون، أما أرض الوسية فكانت تمنح للملتزم مقابل ما يتحمله من أعباء.وكانت هناك أيضًا أراضى «الرزق» الموقوفة على دور العبادة وأعمال الخير.. وكان يحق للملتزم أن ينزع الأرض من الفلاح ويعطيها لغيره إذا لم يدفع للملتزم ما عليه.وحاول «مينو» ثالث قوّاد الحملة الفرنسية إصلاح نظام الالتزام فى مارس 1801، وشكل لجنة لذلك، لكن قدوم القوات العثمانية والإنجليزية إلى مصر فى نفس الشهر عطَّل مشروعه فلم ينفذ، وبقيت أوضاع حيازة الأرض الزراعية كما هى حتى تولَّى محمد على حكم مصر فى عام 1805، فأحدث ما يعتبره رءوف عباس وعاصم الدسوقى فى كتابهما «كبار الملاك والفلاحين فى مصر»، انقلابًا فى أوضاع حيازة الأراضى الزراعية، لرغبته فى زيادة موارده المالية، فألغى نظام الالتزام ووضع يده على أموال «الرزق» بخطوات متدرجة بدأها فى 1808 وحتى 1814، إلا أنه استحدث نوعًا جديدًا من أطيان الرزق، فقد أنعم على بعض المقربين منه رجاله وكبار موظفيه وبعض الأجانب وبعض قبائل البدو بأطيان «الأبعادية»، وهى الأراضى التى كانت زائدة فى زمام القرى، وعرف قسم من هذه الأراضى باسم «الجفالك»، وهى مساحات واسعة من الأطيان استولى عليها الباشا لنفسه ولأفراد أسرته، وهكذا وضع محمد على نظام الملكية الخاصة للأراضى الزراعية.وقد عاب «الطهطاوى» على محمد على فى كتابه «تخليص الإبريز» منحه أراضي للأجانب، يقول الطهطاوى: إن العامة بمصر وبغيرها يلومونه غاية اللوم بسبب قبوله الإفرنج وترحيبه بهم وإنعامه عليهم، جهلاً منهم بأنه حفظه الله، إنما يفعل ذلك لإنسانيتهم وعلومهم لا لكونهم نصارى.وقد أدى إلغاء نظام الالتزام فى عهد محمد على إلى ازدياد النفوذ الإدارى لمشايخ القرى، بعد أن أصبحوا يمثلون سلطة الدولة، ومنح الباشا شيوخ القرى حوالى 5٪ من زمام قراهم تحت مسمى «مسوح المصاطب»، نظير قيامهم بأعباء الإدارة واستضافتهم لأعمال الحكومة وعابرى السبيل، وحول هذه النواة قامت ملكيات شيوخ القرى الذين أصبحوا يعرفون بالعمد فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، وسمحت الأوضاع الإدارية لهؤلاء بالتلاعب فى ملكيات الأطيان ووضعوا أياديهم على مساحات واسعة من الأراضى التى لا يستحقونها.وإلى جانب هؤلاء دخلت فئة كبار الموظفين ضمن كبار الملَّاك الزراعيين بعد أن كانت قاصرة على الأرستقراطية التركية التى كانت تضم أخلاطًا من أتراك آسيا الصغرى، والمغرب وتونس والشراكسة والأرمن والأكراد والشوام، وكان الشوام والأرمن هم الفئة الغالبة فى طبقة كبار الموظفين الذين استفادوا من عطايا الوالى للأرض الزراعية.وكانت وظائف الدولة الكبرى هى السبيل للحصول على الملكيات الزراعية الكبيرة، وكان معظم الأراضى الواسعة التى منحت للموظفين من نصيب هذه الفئات، وقد عرف هؤلاء بـ«الذوات»، للدلالة على ما يتمتعون به من ثراء عريض ومركز اجتماعى ممتاز.كان محصلة ذلك كله هو سوء أحوال الفلاحين وتفشى ظاهرة «التسحب»، أى الهرب من الأرض، وبلغ عدد من هربوا من مديرية البحيرة وحدها 12 ألف أسرة.وعلى الرغم من إلغائه نظام الالتزام، فإنه استحدث فى عام 1836 نظاماً يشبهه اسمه نظام «العهدة»، وهو يشبه فى جوانب كثيرة منه نظام الالتزام، حيث يتعهد أحد الأثرياء بسداد ما على الأرض من ضرائب وتوريد محاصيلها للوالى فى عدة قرى.وقبل الحديث عن أحوال الفلاح فى ظل هذا النظام، نشير إلى قانون الفلاحة الذى أصدره الباشا فى عام 1830، والذى تناول الجرائم المتعلقة بتدمير الملكية العامة وزراعة الأرض وسلوك الموظفين العموميين.وينص القانون فى إحدى مواده على أن أى فلاح أو شيخ قرية يحاول أو ينجح فى إحراق جرن، يُغرَّم بما يعادل تكلفة الدمار الذى سببَّه، وإذا لم يستطع يتم نفيه إلى جبل «فيزا أوغلى» بالسودان لمدة سنة إذا كان قد حرق جرنًا، أما إذا كان حرق بيتًا فيرسل إلى الليمان لنفس المدة، وإذا كانت هذه الجرائم ارتكبت بهدف التهرب من ضريبة الأرض، فيتم إرسال المجرم إلى الليمان مدى الحياة.وتحكم مادة أخرى على الفلاحين أو مشايخ القرى الذين يشاركون فى تمرد قرية على سلطة المأمور بإرسال أكبر المفسدين إلى «فيزا أوغلى» لمدة 5 سنوات، وإرسال المحرضين الآخرين إلى الليمان لنفس المدة، أما إذا شارك فلاح أو شيخ قرية فى التمرد فيعاقب بالجلد 400 جلدة، وتعاقب مادة أخرى كل موظف يسرق الأموال العامة بالنفى إلى «فيزا أوغلى» لمدة تتراوح بين سنتين وثلاث ويتم تقييده بسلاسل حديدية إذا كان مقدار ما سرقه يفوق 5 آلاف قرش، أما إذا كان المبلغ يقل عن ذلك، فيرسل إلى نفس المكان لمدة تتراوح بين 6 شهور وسنتين، وذلك بعد أخذ الأموال المسروقة منه.وفى عام 1842 صدرت لائحة الجسور كملحق لقانون الفلاحة، ونصت المادة الأولى منه على أنه إذا ثبت أن أحد مشايخ القرى أهمل فى إصلاح جسر، وأن الضرر أصاب القرى المجاورة، فيجب أن يرسل إلى الليمان لمدة تتراوح بين 6 شهور وسنتين، إذا كان الضرر جزئياً أما إذا كان كليًا، فيحكم عليه بمدة تتراوح بين سنتين وثلاث سنوات، وتشمل حالات الإرسال إلى الليمان السارقين وقطاع الطرق والفلاحين الذين يجرؤون على اقتلاع القطن من الحقول التى يحوذونها ويزرعون الذرة بدلاً منها.وبعيداً عن الحالة المزرية للفلاح التى سنورد تفاصيلها حالاً، فإن الزراعة حققت فى زمن محمد على تقدمًا كبيرًا بسبب هذه الإصلاحات التى أدخلها على نظام الرى والجسور والقناطر التى أقامها، والزراعات الجديدة التى أدخلها.كانت حياة الفلاحين فى هذه الفترة شبيهة بتلك التى عبر عنها الشيخ يوسف الشربينى فى كتابه «هز القحوف فى قصيدة أبى شادوف» والتى تصف حياة الريف فى القرن الثامن عشر، يقول الشربينى إن حياة الفلاح كانت بائسة، فأكله الدائم هو الشعير والجبن القريش والبصل والكشك والفول المدمس والعدس والبيصار والويكة والملوخية، أما اللحوم والطيور فأكلها عنده مميز، وكانت ملابسه كذلك بسيطة من صنع المناسج المحلية التى كانت منتشرة فى العديد من القرى، وكان الفلاح يعد نفسه سعيدًا إذا حاز شيئاً من صنع المدينة.أما «الجبرتى» فيصف حال الفلاحين بقوله: هم دائمًا فى حالة انقباض وطرد وجرى وكر وفر وحبس وضرب ولعن وسب وهوان وشجار وشيل تراب وحفر آبار وخروج إلى السخرة، وتعب شديد بلا أجرة، وإذا كان ذا فضل ضاع فضله، أو ذا عقل ذهب عقله، أو ذا مال أعزوا عليه الحكام، أو ذا تجارة نهبوه فى الظلام.ويقول الدكتور عبدالرحيم عبدالرحمن عبدالرحيم فى كتابه «الريف المصرى فى القرن الثامن عشر»: وجد فى هذه الطبقة -الفلاحين- شرائح تفاوتت فى ثرائها النسبى، فقد استطاع بعض أفراد هذه الطبقة عن طريق اتصالهم بأجهزة الإدارة ومشاركتهم فى الإدارة المحلية داخل القرية نفسها، تكوين شريحة مميزة داخل هذه الطبقة، تمثلت فى مشايخ القرى الذين استغلوا نفوذهم فى القرية وتعالوا على أبناء طبقتهم، بل إن ظلمهم لإخوانهم الفلاحين كان أشد وأقسى من ظلم غيرهم.ويضيف: هذا الثراء النسبى بين أفراد هذه الطبقة أدى إلى أن بعض الفلاحين كان يعمل أجيرًا عند البعض الآخر.وبشكل عام يمكن القول إن الملتزم ومن يشاركونه حق إدارة الأرض، كانوا سوطًا مصلتًا على الفلاح إذا حاول الهرب أو تأخر فى دفع ما عليه من ضرائب، فأقل جزاء يلقاه فى هذه الحالة هو إلقاؤه على الأرض وضربه بالنبابيت وسحبه من شنبه.يقول الجبرتى: كان الفلاح إذا تأخر فى دفع الضريبة جروه من شنبه وبطحوه وضربه رجال الملتزم بالنبابيت، هذا عدا ما كان يراه من عسف الصراف النصرانى من مماطلة فى استخراج ورقة الخلاص، وكذلك الشاهد والشاويش الذين كانوا يسومونه أنواع العذاب.أما أبوشادوف فأنشد شعرًا يصف هذه المعاناة..يا دنية الشوم طول عمرى وأنا اشتدفى هم دى البطن اللى ما يريح حدأضال ابنى وآجى بعد العشا أتمدأقوم الصبح ألقى ما بنيته اتهدوذكر «الجبرتى» أن أحد أبناء الفلاحين ويدعى صالح تمكن من خلال عمله فى بيت الملتزم أن يصبح أميرًا مشهورًا له مماليكه الذين عرفوا بجماعة الفلاح، واعتبر الجبرتى ذلك من نوادر الزمن، يقول:أصل صالح غلام يقيم فى قرية بالمنوفية يقال لها «الراهب»، وكان خادمًا لبعض أولاد شيخ البلد، فانكسر عليه المال فرهنه والده عند الملتزم، وحين فُك الرهن وحانت لحظة رجوعه، قال صالح لا أرجع إلى البلد وبقى فى بيت الملتزم واستمر يخدم مع صبيان الحريم، وكان بينها خفيف الروح والحركة، ولم يزل يتنقل فى الأطوار حتى صار من أرباب الأموال، واشترى مماليك وعبيداً وجوارى وزوَّج بعضهم واشترى لهم الدور والإيراد حتى صار لهم بيوت وأتباع ومماليك وشهرة عظيمة بمصر وكلمة نافذة وعزوة كبيرة.لكن هذه الفئة (الفلاحين) لم تسلم مع ذلك من استغلال فئات أخرى فى المجتمع وليس فقط الملتزمين وكبار الموظفين، يقول «عبدالرحيم»: وقعت هذه الطبقة تحت طائلة استغلال فئات كثيرة، نتيجة لروح الخضوع والإذعان التى مكنتها رهبة الإدارة فى نفوس أفراد هذه الطبقة حتى لم يعد أمر استغلالها مقصورًا على رجال الإدارة والملتزمين، بل تعداه إلى فئة التجار الذين أصبحوا يوظفون أموالهم فى الريف مستغلين جهل هذه الطبقة، وذلك بتقديم بعض المواد الخام إليها لتصنيعها بأيدى الفلاحين والفلاحات تبعًا لمواصفات معينة يضعونها لهم، ولم يكن الأجر الذى يدفعونه لهم يتناسب والجهد المبذول فى تصنيع هذه المواد، وكان التجار يقومون كذلك بشراء حاصلات الفلاحين منهم قبل أوان نضجها بسعر أرخص استغلالاً لسوء أحوالهم الاقتصادية.






اقرأ أيضاً :

=========










تعليقات

المشاركات الشائعة