تجليات الحب والحرب فى مسلسل «شوق»



المصدر الاهرام - اخبار الفن

معلوم أن الدراما التليفزيونية تشترك مع غيرها من الفنون الأدبية الرئيسية، كالشعر والمسرح والرواية والقصة القصيرة فى مجموعة من الخصائص والسمات إلا أنها تتميز كنوع أدبى عن مختلف الأنماط الكتابية فى استخدام اللغة البصرية كوسيلة للتعبير، ومن ثم فهى تمثل موقفاً خيالياً فى نفوس المشاهد، بما لها من تأثير قوى فى تحريك مشاعره ووجدانه نحو قضايا معينة تمس مجتمعه بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك عن طريق الاتصال بعواطف المشاهد والتعبير عن مشاكله وهمومه وآلامه وطموحاته.وشئ من هذا القبيل لامسته عن قرب من خلال مشاهدتى لحلقات مسلسل «شوق» للمخرجة «رشا شربتجي» والتى أراها على قدر كبير من الوعى بوظيفة الدراما، فمن حلقة لأخرى حتما ولابد أن تصيبك متعة خاصة بهذا المسلسل، بطولة النجمة «نسرين طافش»، والتى صارت رقما صعبا فى الدراما العربية، فقد نجحت مجدداً فى إثبات تميزها على الشاشة الفضية، رغم أنها جازفت بالرهان الخطير الذى قبلته فى «شوق»، وألقت على عاتقها مسئولية فنيّة جادة فى تجسيدها للشخصية المحورية بمشاعر فياضة وأداء استثنائي، كتب لها جدارة وجسارة أول من يأخذ بيد العمل الدرامى إلى النجاح كبطلة مطلقة تنسجم بحرفية مع جميع أسرة العمل على اختلاف خبراتهم حين بادلوها حبا بحب فجاءت البطولة جماعية بامتياز.





يحسب لكل فريق العمل تميزه الواضح بنوع من التوافق والتفاهم، وفى القلب منهم جميعا تأتى المخرجة الرائعة «رشا شربتجي» بكاميرا ذكية للغاية، وببراعة استثنائية نجحت فى رصد التفاصيل، وصناعة لحظات تزيد من حجم المتعة على جناح الإبهار بالغوص بمهارة فى نفوس الشخصيات بعقل واع وقدرة فائقة على جناح الدهشة البصرية، خصوصا غوصها العميق إلى حد التماهى فى عالم السبايا، الذين أوقعتهم ظروفهم التعسة فى قبضة داعش، لتقدم لنا كشفا مغايرا بشغف التفاعل فى كل مرة منذ الوصول لشارة النهاية التى أخرجها إبراهيم أبو لبدة، وبصوت معبر لزياد برجى من كلمات أحمد ماضي، ولعل السبب الرئيسى فى ذلك الشغف يحسب لمونتاج «معتز ورؤف ظاظا» الذى جاء ذكيا للغاية، فى القطع والوصل بميزان حساس وانسيابية تتوازى فيها المشاهده بشكل مبهر مع موسيقى المبدع «إياد الريماوي» ليتحرك نبض الكاميرا على مستوى المكان والزمان والحركة برشاقة أدت لإحكام لعبة الحب والحرب.




ما يعنى بوضوح أننا أمام دراما شديدة الاتساق مع الواقع المعاش فى سوريا حاليا فى مواجهة أعتى التحديات، ويكمن التحدى الأساسى فى أن ظاهرة تسمية الأعمال الدرامية على اسم شخصية محددة، ربما يكون امتيازا لم يحظ به الكثيرون من نجوم العرب الكبار سينمائيا أو تليفزيونيا حتى أصبح الامتياز بيد «نسرين طافش» ، وهو ربما يفرض عليها خيارات أكثر صعوبة وأكثر فنيةً فى المقبل من تألقها، والذى تؤكده يوما تلو الآخر مستندة إلى موهبة واستعداد فطرى يجعلها دوما فى محطة الوصول بامان ودون منازع، كما توافر في«نشوق» بمعدل الآمان المطلوب، حين شدّت المشاهد بإطلالتها العفوية إلى حد البساطة المتقنة، فعلى قدر الشخصية المحملة بانفعالات معقدة للغاية، جاءت حواراتها معبرة بصدق عن تلك المشاعر المتقلبة التى تحفزك على حصة كبيرة البهجة والرومانسية القادمة من قلب المعاناة بمهارة فى جميع تفاصيل الحركة، وفى لغة اللسان والجسد طاغيا ومتسقا مع النبرة الحزينة التى تصاحب صوتها بدرجات متفاوتة، ونظرات العين الحائرة فى ذبولها تارة، وتألقها المصحوب بلمعان الأمل تارة أخرى فى غوصها الحى مع «شوق» فى قلب بيوت دمشق القديمة بسماتها المميزة من الداخل.
هنالك رمزية تبدو مقصودة من جانب المخرجة فى اختيار القديرة «منى واصف» التى كانت طيفا هادرا ومبهرا ممثلا لأمهات سوريا اللاتى يمثلن عمود الخيمة فى الحياة الشامية الآنية، كما ظهر بخبرتها المعتقة بمشاعر الغربة والضياع، ولسان حالها فى جميع المشاهد يخبرك عن حجم الخوف فى حسرتها على البلد والناس، مع خلفية أصوات الانفجارات التى عمد لها المونتاج الاحترافى لتتوازى التراجيديا مع حالات الرومانسية التى برعت فى تجسيدها نسرين ، بميزان حساس يعكس براعتها فى الأداء العذب بطلاقة الحس العاطفى إلى حد مذهل، ومن ثم بعدها تتسع عين الكاميرا بطريقة الـ «كلوز أب» فى غيها نحو رصد مثير لجمال الشوارع العتيقة، والتى تعكس إصرارا وتحديا من جانب أهل المدينة رغم ما ذاقوه من عذابات الغربة والإرهاب، والعصف بمقدرات جيل جديد مشبع بالألم والشجن فى آن واحد.




على نفس الوتيرة من الأداء الاستثنائى يأتى «أداء باسم ياخور» بحس إنسانى غاية فى العذوبة المقرونة بالخبرة لإخراج الإنسان الحقيقى من داخل المشاهد المكبل بالقيود الاجتماعية، والفعل القاسى وسيلة لتحرير الذهن كى يصبح أكثر صفاء وكفاءة فى تلقى العواطف النبيلة والأفكار السامية التى تنطوى عليها الأساطير العظيمة فى حبه لـ «روز»، تماما كما فعلت النجمة الكبيرة «سوزان نجم الدين» بشخصية «روزا» لتقدم دروسا معتبرة فى فن الأداء الذى يعكس الخبرة، ولايعرف الترهل فى جرأة متعمدة لغياب «المكياج»، وكأنى ألمح فى أدائها الصعب فهما عميقا لتعليمات المسرحى الفرنسى «أرتو» المعروف بمسرح القسوة، فى قوله « إن الممثل لا يجد غير الجسد وسيلة للتعبير، وحينها يتجاوز بأشكاله التعبيرية حدود الأشكال التى تضعها الكلمات»، وعلى شاكلتها جاءت «إمارات رزق» رغم ما يعترى أداؤها من مبالغات فى بعض الأحيان.
وفى درب الإجادة أيضا جاء «أحمد الأحمد» بشره البغيض، لينفض عن نفسه غبار الكوميديا التى برع فيها لوقت طويل بأداء مغاير يثبت براعته وصلاحيته لجميع الأدوار، وبحضور طاغى يضعه فى مكانة تليق بنضجه - المفاجئ لى على الأقل – رغم تتبعى الدقيق لمسيرته الإبداعية الطويلة، وربما طيف من نفس براعته لمسته فى أداء غاية فى الشفافية لـ «ليلى جبر» هذه المرة، وكذلك فى أداء «مرام علي» الواعدة، حين لعبت بأكثر من وجه فى ملامستها للمأساة فى قالب تراجيدى كتب لها التفوق، ومن بعدها «جوى خوري» التى قدمت الرومانسية بعذوبة ورقة متناهية، وهنا لابد لى من الإشادة بأداء «أنس طيارة» الذى جاء سلسا ومعبرا بشفافية عن براءة جيل متمرد على واقعه الألم يبرر نزعته للغربة والترحال.
أما النصيب الأكبر من الإشادة فيجيء للمسات «رشا شربتجى » فى فتنة سحرية متعمدة استطاعت الوصول إلى الذروة فى إراحة أعيننا بنعومة، وصولا إلى حد لملمة الأروح المتكسرة والمتمردة ،فى جنوح لين لالتقاط أنفاسنا المشحونة بالغضب من حين لآخر، عبر مشاهد متناثرة فى كامل السياق التراجيدى يشهد لها بالبراعة، وكأنها ترد بطلاقة على أولئك الذين يتحدثون عن تراجع المستوى الفنى للدراما السورية، فالحرب التى تعيشها سوريا منذ عدة أعوام أثرت سلبًا على هذا الفن الشعبى الذى كانت ترفضه بالأصل بعض النخب الثقافية المتعالية، الذين يرون أن الدراما السورية اليوم تسير من سيئ إلى أسوأ، معتبرين المرحلة الحالية هى الدرك الأسفل الذى وصل إليه هذا النوع من الفن الاستهلاكى الرخيص- على حد زعمهم - فى حين تجد أنصار هذا الفن يتحسرون على ما آلت إليه الدراما فى بلادهم، فالدراما السورية التى عاشت عصرها الذهبى فى بداية الألفية الثالثة دمرتها نفس الحرب التى دمرت سوريا بأكملها.
بالتأكيد لا أخفى وجعا كبيرا يعترينى جراء تلك الآراء الانفعالية التى لم تر «شوق» على وجه اليقين بمنظور موضوعي، كى تدرك أن هذه المعالجة الدرامية الواعية فى غيها نحو رصد تفاصيل الدمار، والانفجار سرعان ما أمكنها تبديد تلك النظرة التشاؤمية، بعودة اضطرارية لكاميرا «رشا» – بعد غياب مؤقت - وسط الشوارع والحارات التى تعكس الأصالة الدمشقية فى فتنة وجمال لايذبل أبدا، حتى ولو كانت الجدران مشبعة بالرطوبة، فهى تقوى دوما على التهام لوعة القلوب فى غمدها، مستبدلة حكايات الحب القادم من لهيب المأساة، كما تجسد أمام ناظرينا فى «شوق» بحنين جارف يقوى على احتمال اللحظات العصيبة، وتلك والله هى الوظيفة المتعارف عليها بـ «أن الدراما المرئية تقوم على مبدأ إعادة صياغة الفعل الواقعى ماضياً أم آنياً فى بناء جمالى يتأسس داخل السياق الاجتماعى القائم، ويستهدف التأثير فى المجتمع الحى فيخاطب جمهوراً يعرفه ويكون حاضراً فى هذا البناء الجمالى بزمنه وقيمه».




هى إذن ليست مجرد طاقة إيجابية تلك التى أمدتنا لكل من «نسرين ورشا» وباقى فريق العمل من مشهد إلى آخر، بعزف شجى على المشاعر الداخلية للشخصيات، كاشفة حقيقة وطن لم يفقد خصوصيته رغم كل ماجرى على التراب المخضب بدماء شهداء اغتالتهم الأيدى الآثمة فى غيبة من وعينا، وهى فى الواقع متعة ربما لم أقترب منها شخصيا فى الدراما السورية التى تأتى فى إطار مايسمى «دراما الأزمة»، منذ مسلسلات «حلاوة الروح - سنعود بعد قليل - بانتظار الياسمين - فى ظروف غامضة»، وكلها أعمال تشهد بكفاءة الدراما السورية فى التفاعل مع الأزمة فى رصد الواقع المر، وبدهشة بصرية برعت فى تشريح كل ملامح المجتمع السورى المصاب بجرح غائر فى قلب الذاكرة، من خلال سيناريو «حازم سليمان» الذى وضع نصه بحرفية عالية تغالب فعل الأزمة، وبخيال مغاير أمكنه إضفاء بهجة للغربة - على مرارتها - فى تجليات خاصة، صاحبها عزف شجى واستثنائى على إيقاع كاميرا رشا شربتجي، فى غوصها بنعومة وسلاسة لتحقق لنا كعادتها تلك الدهشة البصرية التى نتوق إليها بعد غياب طال هذه المرة.
ملاحظة أخيرة جديرة بالذكر، يقول الناقد الفنى حسن عطية، أستاذ الدراما ونظريات النقد فى أكاديمية الفنون المصرية ، فى كتابه «الدراما التليفزيونية... تحضير التاريخ... تأريخ الحاضر»: يدرك المبدع الواعى غير المتعصب لأعماله أن ما يبدعه مهما تقدم به العمر ليس الأفضل فى ساحة الإبداع، وأن طرحه لما يبدعه على القراء والمشاهدين سيخضع للتحليل والتفسير والتقويم، بل والاختلاف على ما أبدعه، فالإبداع الإنسانى ليس نصاً مقدساً بمقدار ما هو عمل جمالى قابل للتحاور حوله والاختلاف عليه»، لذا أقدر جيدا وضع رشا لنهاية مفتوحة رغما عنها، كما أوضحت فى تعليقها بأنها اضطرت إلى مونتاج الحلقة الأخيرة بشكل سريع يتلاءم مع شرط العرض الذى تفرضه المحطة بألا يتجاوز عدد حلقات المسلسل الـ 33 من أصل 40، ومع ذلك يبقى الأجمل أنها قدمت «سباياها» برؤية أكثر نضجا فى كشف المستور الذى جلب التمزق الذى لحق بوطنها بوعود مزيفة على موائد «جنيف وروسيا»، فعبثا ظلوا يتراقصون على الأطلال دون جدوي، فى وقت انحازت فيه «شربتجي» لعبق المكان والزمان اللذين لم يغادرا الذاكرة بعد، كى يتجدد الأمل فى غد يقوى على محو القادم من عمق المأساة على جناح الأمل، مستبدلا إياه بنشيد فرح كرنفالى حتما سيمحو آثار خطوات الإرهاب والجبروت الذى لحق بسوريا فى غيبة من وعى «أمة اقرأ التى لاتقرأ» فصول تاريخ الأجداد الذى مزقه الأحفاد والأضداد، غير عابئين بصلات الدم والقربى واللغة ومن قبل الدين والوطن، على صخرة الحمق والجهل، وكلها موبقات أدت بالضرورة إلى جرائم السبى والنهب وتجارة البشر، لكنها لم تقو أبدا على إفساد المتعة الخاصة للمبدعتين «نسرين طافش» و «رشا شربتجي» فى غزلهما لشريط سردى يضع الأولى على عرش الأداء الصعب، والثانية فى مصاف مخرجى دراما هذا الزمان، وكأنهما يذكران بأغنية جارة القمر العظيمة فيروز
«خذنى بعينيك» من كلمات سعيد عقل وألحان الأخوين رحبانى لنردد جميعا:
طالَتْ نَوَيً وَ بَكَى مِن شَوْقِهِ الوَتَرُ
خُذنِى بِعَينَيكَ وَاهْرُبْ أيُّها القَمَرُ
لم يَبقَ فى الليلِ إلا الصّوتُ مُرتَعِشاً
إلا الحَمَائِمُ، إلا الضَائِعُ الزَّهَرُ
لى فيكَ يا بَرَدَى عَهدٌ أعِيشُ بِهِ
عُمري، وَيَسرِقُنى مِن حُبّهِ العُمرُ
عَهدٌ كآخرِ يومٍ فى الخـريفِ بكى
وصاحِباكَ عليهِ الريحُ والمَطَرُ
هنا التّرَاباتُ مِن طِيبٍ و مِن طَرَبٍ
وَأينَ فى غَيرِ شامٍ يُطرَبُ الحَجَرُ؟
شامُ أهلوكِ أحبابي، وَمَوعِدُنا
أواخِرُ الصَّيفِ ، آنَ الكَرْمُ يُعتَصَرُ
نُعَتِّقُ النغَمَاتِ البيضَ نَرشُفُها
يومَ الأمَاسِى ، لا خَمرٌ ولا سَهَرُ
قد غِبتُ عَنهمْ وما لى بالغيابِ
يَدٌ أنا الجَنَاحُ الذى يَلهو به السَّـفَرُ
يا طيِّبَ القَلبِ، يا قَلبى تُحَمِّلُنى
هَمَّ الأحِبَّةِ إنْ غَابوا وإنْ حَضِروا
شَامُ يا ابنةَ ماضٍ حاضِرٍ أبداً
كأنّكِ السَّيفُ مجدَ القولِ يَخْتَصِرُ
حَمَلـتِ دُنيا عـلى كفَّيكِ فالتَفَتَتْ
إليكِ دُنيا ، وأغضَى دُونَك القَدَرُ

تعليقات

المشاركات الشائعة