بالفيديو| "الوطن" في قرية "الدم" و"النار".. "كرداسة" تعيش في عزلة بعد المذبحة







الطريق المتعرج إلى قرية كرداسة، لن يلهيك عن مظهر الأهرامات الثلاثة التي لا تبعد عن القرية إلا بضعة كيلو مترات، فالقرية التي تعد الأكبر بين قرى الجيزة، تبتعد عنها بقرابة ساعتين، تحيط بطريقها فيلات الأثرياء تجاور بيوت المزارعين الطينية، فيما يفضي عن تدرج طبقي تعيشه القرية.. "قرية كرداسة ترحب بكم" لوحة كاذبة تستقبل الزئارين على أطراف الطريق، وفلم يتخيل من خطها أن يأتي اليوم، لا تعبر فيه عن نفوس أهلها، فالغرباء محل "شك" دائم.. والكل يستقبلك "جي لمين يا أستاذ".
مدخل القرية الريفية الذي طالها السواد في كل مكان، المسجد.. الطريق.. الموقف وعربات الفاكهة.. وحتى الوصول إلى أطلال قسم الشرطة ولم يتبق منه إلا السواد وأوراق انتخابات حل مجلسها، وعزل رئيسها، وذكريات ليلة دامية، شهدها الأهالي، ولم ينبسوا بكلمة، فالكل في صمت من فرط الخوف، يستندون بظهورهم إلى جدران القرية التي تعج بشعارات الطائفية والعدوان، واتهامات الكفر والإلحاد والخيانة.
ظهور ملثمين وحصارهم القسم بـ"الأر با جى".. وسيطرتهم على ممر خلف القسم أنهى المهمة
القرية التي تعود تسميتها "كرداسة" إلى كونها "مركز تكدس شون القمح" وكانت تسمى قديما "كلداسة"، يربطها عداء قديم مع الداخلية، هكذا يتحدث "س.ح"، عما روى له جده صغيرا، فأبناء القرية ممنوعين من الالتحاق بالكليات العسكرية، لحادث قديم، يعود لعصر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، حين قتل أهالي القرية ضابطي شرطة، جاءوا للقبض على أحد معارضي "ناصر"، ولكنهم لم يجدوه فقرروا القبض على زوجته وهو ما رفضه الأهالي وتصدوا للضباط في مشاجرة انتهت بمقتلهم.
"أ .ش" أحد أصحاب المحال المجاورة لقسم الشرطة، يؤكد أن القسم كان يهابه الجميع قبل ثورة 25 يناير، ولكن الهجوم عليه وتدمير مقر أمن الدولة الملاصق له، حول القسم لمجرد حاصر لضحايا الأحداث لا يتدخل في اشتباكات الأسلحة النارية بين العائلات، ولكن عادة ما يأتي بعد الحادث للمعاينة وعمل الإجراءات الشكلية.
بصوت متهدج، وملامح يظهر عليها الخوف والتوجس، يقول "أ.ش" لـ"الوطن"، "الناس هنا خايفة، والجهادين اللي ظهروا مع الإخوان ليلة المذبحة ميعرفوش ربنا، والدم عندهم سهل، واللي هيتكلم مهدد بالقتل، إحنا بالنسبالهم فلول عشان هربنا الضباط والعساكر ساعة ما هجموا القسم في 25 يناير، ورجعنا هربنا كتير منهم قبل الليلة الأخيرة".
طيلة الحديث، والذي بدأ مع "أ.ش"، بلحيته الخفيفة، وقوله الدائم "الله ستار" ينظر ما بين يمينه ويساره، يتحدث بصوت خافت يكاد لا يظهر، يتوقف عن الكلام بين الحين والآخر، حينما يمر أحد الملتحين بجانب المقهى المجاور لقسم الشرطة المحترق، ويؤكد "مش هنقدر نتكلم كتير إحنا هنا على خط النار، وأخونا البعدا بيتجمعوا كل يوم بالليل حولين القسم في انتظار هجوم الشرطة للتصدي لها".
وعلى بعد أمتار.. وبجوار عربة "الفول"، يجلس "س. ن"، يحتسي كوبا من الشاي بعد وجبة الإفطار، وينتظر مجيء الأتوبيس الخاص بعمله، فمن هنا يمر، يتوقف لحظات، يحدد أن المذبحة بدأت بعد ساعتين من بدء قوات الشرطة في فض الاعتصام، ويؤكد أنه العنف المفرط من جانب قوات الأمن هو السبب في تلك المذبحة، والشره الدموي لدى قاتلى ضباط الشرطة، ويشير إلى مشاركة العديد من العناصر من خارج القرية بالليلة الدموية بعد مقتل زويه خلال فض الاعتصام، ويتذكر عندما حاول منع أحد الملثمين عن قتل أحد العساكر الفارين أمامه، قائلا: "هي الشرطة الي قتلت أخويا ولازم أخد حقه".
سقوط قسم الشرطة لم يكن متوقعا، كلمات يرددها "ن.ع"، وهو يسير متوسط الخطى ينظر إلى موطئ أقدامه، وما حل بها من سواد، يتجه لمحيط القسم، يتجنب نظرات المارة، خوفا من الاصطدام بأحد "الإخوان".. يقول "ليلة المذبحة لم يكن الهجوم الأول على القسم"، مشيرا إلى بداية الهجوم عليه منذ سقوط مرسي في الثالث من يوليو من جانب مسيرات "الإخوان"، وتنشب اشتباكات ثم تهدأ بعد تبادل قنابل المسيلة للدموع والحجارة، وبعض رصاصات الخرطوش.
جغرافيا.. موقع القسم سهل على القاتلين مهمتهم، فيقع على رأس شارع عبد الحميد عيسي السياحي، فاستطاعوا محاصرته من جميع الجوانب، هكذا يردد "ن.ع" وهو يتجه إلى القسم، ويؤكد أن الاشتباكات بدت في بدايتها طبيعية، مناوشات بين "الإخوان"، الذين خرجوا بعد عمليات فض الاعتصام في التاسعة صباحا تقريبا.. اشتباكات وكر وفر بين الشرطة و"الإخوان"، تبادلوا فيها الخرطوش وقنابل الغاز.
الأقباط هجروا القرية.. وما تبقى منهم يعيش في عزلة داخلية
ويستكمل "ن.ع" سرد المعركة، مشيرا إلى أنه مع اقتراب عقارب الساعة من الثانية بعد الظهيرة، وصلت عربتان يحملان عددا من الملثمين ذو اللحى الكثة، مدججين بالبنادق الآلية، وعدد أربعة "أر بي جي".
وقف "ن.ع" ويشير إلى جراج يواجه القسم ويقول: "جلس أحدهم وسط الأهالي، وعدهم بعشرة دقائق وينهون أمر الاشتباكات لصالحهم، طالبهم بالابتعاد، وأطلق الدانة الأولى صوب المصفحة التي تستقر أمام قسم الشرطة، والتى أشعلت النيران بدورها في جميع ما حولها من عربات الشرطة والمصفحات".
تستمر المعركة وسط عمليات كر وفر بين الشرطة والملثمين، الذي حاولوا استخدام ممرات الشارع السياحي لاقتحام القسم، ولكن تصدوا لهم، رافضين استخدام الممر لاقتحام القسم، ويسرد "تغافل الأهالي مكن الملثمين من محاصرة القسم بالكامل واقتحامه وقتل من بداخله والتمثيل بالجثامين بدم بارد".
"هذا جزاء الظالمين.. وانتصرت إرداة الله.." كلمات خطها "الإخوان" ومن عاونهم بعد المذبحة على ما تبقى من جدارن القسم، وفي الأعلى يتوارى "مرسي" داخل صورة انكمشت بفعل الهواء بعدما رفعها أنصاره أعلى المبنى المحترق، وكتبوا إلى جانبها "يسقط النصارى".
تتراص عربات ومصفحات الشرطة المتفحمة إلى جانب القسم، وقد تهدم سوره الأمامي، بعد إطلاق إحدى الدانات عليه، مازلت بناية القسم تحتفظ بهيكلها، في الدور الأولى ما تبقى من أوراق الانتخابات التي سقط مجلسها، ورئيسها، وإلى جانبه حجرة السجل المدني، وقد تعثرت بداخلها أوراق من قدموا من أهل القرية لاعتمادهم بطاقتهم كمواطنين لهم بها، إلى جانب عدد من شعارات أحازب كانت تتصارع فيما سبق على كراسي زالت.
رائحة الدخان مازال يحتفظ بها الطابق الثاني، غرفة المأمور، يتوسطها "مقعده الوثير"، وقد عمها السواد، وإلى جانبها غرفة عساكر الخدمة والتي طالتها نيران لم تفرق بين المأمور والعسكري، وغرفة أخرى لم تحتفظ حتى بما أكلته النيران.
كنيسة الملاك ميخائيل
يقف أحد الأشخاص بالطابق العلوى ويلتف حوله عدد من الصبيه، يجمعون كل ما طالته أيديهم ولم تلتهمهم النيران، أسلاك نحاس.. يقول أحدهم "موسم لمينا كتير أمبارح ولسه في حاجات تانية كتير ناقصة"، ويحمل ما بين يديه عدد من الأسلاك النحاسية وأخشاب ومصابيح سيارات.
أمام القسم طريق ممتد يشهد على عمليات القتل والتنكيل بضباط القسم، طول الشارع لم يمنعهم من سحلهم حتى الوصول إلى قرابة نهاية القرية، وضعوهم على حائط لإحدى ورش "الميكانيكا" وبدأو في تصويرهم.. وتركوهم بعد ما لفظوا أنفاسهم الأخيرة، وهم يرددون "أنتوا اللي عملتوا في نفسكم كده يا كفرة"، ولكن لم يرد أحد، حسب رواية "ن.ع".
"ن" يستكمل شهادته على الأحداث قائلا "بعد الانتهاء من القسم، قال أحدهم يلا بينا يا رجاله على الكنيسة، واتجوها صوب كنيسة الملاك ميخائيل، والتي تتواجد في نهاية أحدى الحواري الضيقة".
الصليب منكس .. منكسر، وصورة مشوه للعذراء مريم، وفجوة قطرها المتسع شقق ما تبقى من جدران، وعبارات "إحنا هنعرفكوا الإرهاب شكله إيه"، "مصر إسلامية"، "ولسه"، "إنتوا الي عملتوا في نفسكوا كده"، هكذا يظهر المشهد الخارجي للكنيسة.
بحذر مبالغ فيه يظهر رجل، في أحد البنايات المجاورة للكنيسة، يطالبنا بالابتعاد من خلف قضبان باب حديدي، يرفض الولوج للخارج، والحديث لـ"الوطن"، المارة ينكرون معرفتهم بالسبب الرئيسي في حرق الكنيسة، الكل في سكون.. شارع الكنيسة كأن قد سكنه الأموات.
"م.س" مسلم يعيش بالقرب من الكنيسة، يؤكد أن مقتحمي القسم هم نفسهم حارقو الكنيسة، مؤكدا أنه لم يكن هناك أي عداء طائفي بين الأقباط في القرية والمسلمين.. ويشدد أن مسألة الهجوم على الكنيسة غير مفهومة وغير مبررة.
منذ ميلاده لم يغادر "م.س" القرية الريفية، يتحدث عن تاريخها في التعايش السلمي بين الأقباط والمسلمين في حبور، يؤكد أن المسألة سياسية بحته، وأن الإخوان يشفون غليلهم في رحيل مرسي بالاعتداء على الأقباط.
يرفض "م.س"، الحديث عن عودة "الأقباط" والعاملين بالكنيسة إلى القرية خشية على حياتهم المهددة، خصوصا بعد ما خطه أنصار الرئيس المعزول على جدران وعقول شباب القرية بعداء الصليب للهلال، ويشيرا إلى وجود أحد أعضاء مجلس الشعب الإخواني يساعد في صناعة فتنة مختلقة بين الأقباط والمسلمين الهدف منها إشعال البلاد.
قسم كرداسة بعد احتراقه
القرية تمتلئ بالحواري والأزقة، الكل يدلف إليها، بحثا عن دفئ فقدوه بعد الليلة الدامية، فالشوارع الرئيسية خاوية على عروشها، والحواري تعج بالمواطنين، وفي مدخل أحد الشوارع الضيقة يقف "هـ.ث"، يتحدث عن ظهوره في أحد الفيديوهات التي نشرتها القنوات الفضائية عن المذبحة، يروى عن المصادفة التي قادته للظهور في الفيديو الذي وضعه بين المتهمين.. يؤكد أن القرية تعيش في عزلة، بعد فرض عليها طوق من اللجان الشعبية والتي تتربص بأهل "كرداسة"، مشيرا إلى أنه تعرض لمحاولة اغتيال من قبل اللجان الشعبية التي ساقه حظه العثر إليها.
بوجه المشوه بالإصابات، ولغة لم تخلُ من الألفاظ النابية اشترى "ت.أ" أحد طلقات الخرطوش التي يتبادلونها الصبية في شارع القرية الريفية، وما تبقى من رصاصات حية جراء ما حصلوا عليه من غنائم اقتحام القسم، ليلة المذبحة.


"ت" يعمل كأحد سائقى الميكروباصات إلى القرى، يشير إلى حصار القرية وعزلتها عن القرى التي حولها، وظهر جليا في إجبار سائقى المواصلات لسلك طرقا أشد وعورة، هربا من اللجان الشعبية والشرطة، ويقول "ت.أ": "لو ضابط عند قسم بولاق ولا لجنة شعبية قابلتني وأنا جاي من كرداسة قول علينا يا رحمن يا رحيم، ولو معانا ملتحى ولا منقبة بيضرب ويتحلقله دقنه، ولو ست تقلع نقابها وتمشى من غيره.. كرداسة نقطة سودا في حياتنا".


المصدر الوطن


تعليقات

المشاركات الشائعة