عمار الشريعي.. آخر حراس «الربع تون»
الراديو صديقه لم يعد يخبره بالحقيقة، يعشق عمار الراديو منذ الطفولة، كان ينبئه في هذا اليوم، عن قتلى، مصريون ضد مصريين.
الراديو لم يتبدل، الفضائيات ظلت بالنسبة له صوتا بلا صورة: «حرب أهلية؟ هل تلك هي الحقيقة؟».. خفيف الظل، البسيط، عاشق الحياة، ابن البلد، ابن النكتة، لم يضحك في هذا اليوم.
كان يرى النور، يقول عمار الشريعي، لكن في 7 ديسمبر 2012، كان بلده يتجه بأكمله نحو الظلام، يقتله الخوف من الانقسام، من الديكتاتور الذي ارتدى لحية، وبدل لجنة السياسات بمكتب الإرشاد، القتلى على الطريق، الشهداء ملونون بهوية، يصرخ أحدهم في مليونية «قتلاهم في الجنة، وقتلانا في النار»، ولا أحد يعلم من قتلى من، تقول النيابة واحد من «الإخوان» من ضمن 6، ويقول رئيس مكتب الإرشاد إن الـ6 من الإخوان، ويقول الموت: سأظل موتا لا أنظر في البطاقة الشخصية، لا أفتش عن كارنيهات الهوية في القلوب.
مات الشريعي، لعله كان سابعهم.
تقول زوجته مرفت القصاص: لم يتحمل قلبه مشهد قتل المصريين لبعضهم البعض.
64 عاما خالصة للموسيقى، التي كانت تواجه مأزقا، واجهه عمار عندما احترف العمل بها عام 1970، لينتهي في نهاية 2012 محاربا وحيدا، لزمن لا يرحم أحدا في تقلباته، قبلها بـ6 أشهر: كان يشعر بالعجز عن الفهم، كانت آماله في الثورة تخفت يرى سرابها، ليس ذلك ما صرخ من أجله، ما سبق به وأيده وهي محاصرة ومرمية بتهم التآمر، التخوين من إعلام مبارك، فبعد عامين فقط، يتهم الثوار بأنهم فلول ومتآمرون وخونة.
لا أحد يرى، كان يأمل، لكن البصيرة صارت ضريرة، عاجزة، تجر الوطن من الأمل إلى القسوة، ومن الشهادة إلى القتل، ومن الصحوة إلى الاحتضار، ومن الخيال إلى فقر الفكرة، ومن دين نعرفه إلى ديون لا نعرف لمن يجب أن ندفع ثمنها.
طه حسين يبدأ من شارع الهرم
في اليوم التالي لآخر امتحان لعمار الشريعي بآداب عين شمس، احترف العمل عازفا محترفا للأكورديون في رمسيس الهرم.
لم تكن والدته التي كان طريقها الواضح لابنها أن يكون طه حسين لترضى.
الاثنان من المنيا، طه عميد الأدب العربي وعمار الشريعي آخر حراس الموسيقى الشرقية تحديا عجز البصر وعجز المجتمع عن الاعتراف بالكفيف كمبصر يملك البصيرة والأمل في أن يكتشف بموهبته مكانا يضىء طريقا للمبصرين.
فمغاغة بمحافظة المنيا مسقط رأس طه حسين، لا تبتعد عن سمالوط مسقط رأس الشريعي، لكن «العزف وراء راقصة» لم يبد لوالدة «الشريعي» بداية موفقة لتكرار طه حسين.
ثارت، عقدت له محاكمات عائلية لإثنائه عن قراره، لكنه كان ببساطة يعلم، يرى الضوء الكامن في نهاية الطريق.
أصر على موقفه، قاطعته أمه 5 سنوات، لكنه لم يضعف، ترك المنزل وبدأ حياته كما أراد لها أن تكون، كيف يترك الموسيقى وهو الذي كان يعزف بإصبع واحد وهو في الثالثة من عمره على البيانو كوبليه: «يا دنيا إجري بينا»، من أغنية ليلى مراد: «إتمخطري واتمايلي يا خيل»، وفقا لرواية والدته نفسها.
لم تكن الأم رافضة شغف عمار علي إبراهيم الشريعي للموسيقى، فهي نفسها كانت رافده الأهم في صغره، مخزن الفلكلور الشعبي للغناء المصري، كما يسميها.
على حجرها، ميزت ابتهاجه لأغاني الأفراح قبل أن يعي معناها، ضحكات مشفوعة بطلب أن تكرر غناءها، من صوتها الذي كان مميزا ولم يكن جميلا، عرفت أنه يدرك أي حزن يقبع في العدودة، وبكاؤه معها بأذن ذكية وفطرة حادة البصر.
تحفظ أغاني عبدالوهاب، كما أصدرها، لا زيادة ولا نقصان، الغناء وعبدالوهاب، سر جمع بين عمار وأمه عدة مرات، ففي ثانوي، كان مزاجها أن يغني لها عمار أغاني عبدالوهاب على العود، كانت تكره منه أن يجود على «الأستاذ»، ما إن يفعل حتى توقفه قائلة: «ما قالش كده»، فيسألها كيف يقولها، فتغني له كما قال نصا.
5 سنوات كعازف أكورديون مغضوب عليه، لم يعرف الضعف سوى في لحظة واحدة، عندما أغضبته الراقصة عزة شريف، فترك العمل عندها، كان يظن أنه سيجد عملا خلال فترة بسيطة، لكنه لم يجد، كاد يعود إلى منزل أمه، لحظة الشك في الطريق لولا إشارة رآها عمار من الله «وجدت طريقك فلا تضيعه»، عندما طلب لأن يحيي سهرة في منزل رجل ثري، عازفا على الأكورديون، طلب 500 جنيه، في وقت لم يكن أكبر عازف أكورديون يجرؤ أن يطلب أكثر من 5 جنيهات، كان يجازف بطلب الرقم الذي كان يدين به، تعجب الوسيط من طلبه، وتعجب أكثر عندما وافق أصحاب الحفل، قائلا لعمار مندهشا: «وافقوا رزق الهبل على المجانين».
الإشارة أنقذته من أن يكسر عناده الذي يميز 64 عاما من رحلته في العالم، أن يعود إلى أمه خائبا بلا دليل على صدق حدسه «كان طريقي».
كل شىء كان يقول إنه خلق ليصير موسيقيا، الموسيقى جعلته نجم الجامعة الأول بعد شهور، لم يكن له سوى صديق واحد كفيف، ولم يكن أحد يحاول حتى إلقاء السلام عليه.
صغيرا، عندما أجاد قراءة وكتابة النوتة الموسيقية، وهو في الصف الرابع الابتدائي، عندما بشر كامل الشناوي، صديق والده بموهبته القادمة بعد أن ناقشه في إحدى أغنيات فيلم الخطايا، وعندما حضر كمال الطويل امتحانه في الموسيقى في المرحلة الابتدائية بناء على مساعدة من والده، ليخبر الطويل والده: «ابنك زي طالب متخرج من معهد الموسيقى من سنين».
يتذكر فترة بعد الظهيرة في مدرسة النقطة الرابعة التي تحول اسمها إلى المركز النموذجي لرعاية المكفوفين، ثم تحول مرة أخرى إلى مدرسة طه حسين، عندما كان أستاذه سيد حسنين، يترك له مفاتيح غرفة الموسيقى، بعد انتهاء الدراسة، ليتمرن على عزف البيانو والأكورديون، ويواصل تعليمه لنفسه العزف على آلة العود.
يتذكر وقتها عندما راسل إحدى مدارس المكفوفين في أمريكا لتعلم التأليف الموسيقي.
لم تكن إشارات خاطئة، كانت طريقا سينتهي بأن يحفر اسمه في وجدان الذاكرة المصرية والعربية.
«بيشوف ياشوشو»
يصرخ المخرج حسين كمال موجها كلماته «بيشوف يا شوشو» للمونتيرة رشيدة عبدالسلام مدهوشا من توافق موسيقى عمار مع مشهد يحتاج إلى دقة في فيلم «أرجوك أعطني هذا الدواء».
قبل 9 أعوام من الفيلم الذي أنتج عام 1984، كان السينمائيون يرفضون أن يضع عمار الكفيف موسيقى لأفلامهم ظنا منه أنه سيعتمد على الصوت أكثر من الصورة.
في 4 يوليو 1975، في عيد ميلاد إذاعة صوت العرب التي انطلقت في عام 1954، وميلاد عمار الذي يقدم أول لحن ناجح له: «امسكوا الخشب» لمها صبري، تنجح نجاحا باهرا.
كان ينتظر المجد، لهاث المطربين على ألحانه، لكن لا شيء يحدث.
يطلبه نور الدمرداش مخرج مسلسل «بنت الأيام»، تحاول شادية أن تجره إلى السينما، لكن صناعها واصلوا الرفض، حتى عام 1979، عندما وضع الموسيقى التصويرية وألحان أغنياتها «الشك يا حبيبي» للمخرج هنري بركات، ونجحت معها أغنية أقوى من الزمن، نجاحا «كسر الدنيا» بمقاييس وقت إطلاق الأغنية.
في العام نفسه، كان على موعد مع النقلة الكبرى التي قلبت موازين موسيقى الدراما العربية، مسلسل الأيام، الذي كاد يرفضه، فكر أن مخرجه يحيى العلمي، قد استعان به لأنه كفيف، للتعبير عن بطل والدته المفضل «طه حسين»، لكن الشاعر الغنائي سيد حجاب أقنعه بأن اختياره للعمل بسبب موهبته، لا عجزه.
الراديو صديقه لم يعد يخبره بالحقيقة، يعشق عمار الراديو منذ الطفولة، كان ينبئه في هذا اليوم، عن قتلى، مصريون ضد مصريين.
الراديو لم يتبدل، الفضائيات ظلت بالنسبة له صوتا بلا صورة: «حرب أهلية؟ هل تلك هي الحقيقة؟».. خفيف الظل، البسيط، عاشق الحياة، ابن البلد، ابن النكتة، لم يضحك في هذا اليوم.
كان يرى النور، يقول عمار الشريعي، لكن في 7 ديسمبر 2012، كان بلده يتجه بأكمله نحو الظلام، يقتله الخوف من الانقسام، من الديكتاتور الذي ارتدى لحية، وبدل لجنة السياسات بمكتب الإرشاد، القتلى على الطريق، الشهداء ملونون بهوية، يصرخ أحدهم في مليونية «قتلاهم في الجنة، وقتلانا في النار»، ولا أحد يعلم من قتلى من، تقول النيابة واحد من «الإخوان» من ضمن 6، ويقول رئيس مكتب الإرشاد إن الـ6 من الإخوان، ويقول الموت: سأظل موتا لا أنظر في البطاقة الشخصية، لا أفتش عن كارنيهات الهوية في القلوب.
مات الشريعي، لعله كان سابعهم.
تقول زوجته مرفت القصاص: لم يتحمل قلبه مشهد قتل المصريين لبعضهم البعض.
64 عاما خالصة للموسيقى، التي كانت تواجه مأزقا، واجهه عمار عندما احترف العمل بها عام 1970، لينتهي في نهاية 2012 محاربا وحيدا، لزمن لا يرحم أحدا في تقلباته، قبلها بـ6 أشهر: كان يشعر بالعجز عن الفهم، كانت آماله في الثورة تخفت يرى سرابها، ليس ذلك ما صرخ من أجله، ما سبق به وأيده وهي محاصرة ومرمية بتهم التآمر، التخوين من إعلام مبارك، فبعد عامين فقط، يتهم الثوار بأنهم فلول ومتآمرون وخونة.
لا أحد يرى، كان يأمل، لكن البصيرة صارت ضريرة، عاجزة، تجر الوطن من الأمل إلى القسوة، ومن الشهادة إلى القتل، ومن الصحوة إلى الاحتضار، ومن الخيال إلى فقر الفكرة، ومن دين نعرفه إلى ديون لا نعرف لمن يجب أن ندفع ثمنها.
طه حسين يبدأ من شارع الهرم
في اليوم التالي لآخر امتحان لعمار الشريعي بآداب عين شمس، احترف العمل عازفا محترفا للأكورديون في رمسيس الهرم.
لم تكن والدته التي كان طريقها الواضح لابنها أن يكون طه حسين لترضى.
الاثنان من المنيا، طه عميد الأدب العربي وعمار الشريعي آخر حراس الموسيقى الشرقية تحديا عجز البصر وعجز المجتمع عن الاعتراف بالكفيف كمبصر يملك البصيرة والأمل في أن يكتشف بموهبته مكانا يضىء طريقا للمبصرين.
فمغاغة بمحافظة المنيا مسقط رأس طه حسين، لا تبتعد عن سمالوط مسقط رأس الشريعي، لكن «العزف وراء راقصة» لم يبد لوالدة «الشريعي» بداية موفقة لتكرار طه حسين.
ثارت، عقدت له محاكمات عائلية لإثنائه عن قراره، لكنه كان ببساطة يعلم، يرى الضوء الكامن في نهاية الطريق.
أصر على موقفه، قاطعته أمه 5 سنوات، لكنه لم يضعف، ترك المنزل وبدأ حياته كما أراد لها أن تكون، كيف يترك الموسيقى وهو الذي كان يعزف بإصبع واحد وهو في الثالثة من عمره على البيانو كوبليه: «يا دنيا إجري بينا»، من أغنية ليلى مراد: «إتمخطري واتمايلي يا خيل»، وفقا لرواية والدته نفسها.
لم تكن الأم رافضة شغف عمار علي إبراهيم الشريعي للموسيقى، فهي نفسها كانت رافده الأهم في صغره، مخزن الفلكلور الشعبي للغناء المصري، كما يسميها.
على حجرها، ميزت ابتهاجه لأغاني الأفراح قبل أن يعي معناها، ضحكات مشفوعة بطلب أن تكرر غناءها، من صوتها الذي كان مميزا ولم يكن جميلا، عرفت أنه يدرك أي حزن يقبع في العدودة، وبكاؤه معها بأذن ذكية وفطرة حادة البصر.
تحفظ أغاني عبدالوهاب، كما أصدرها، لا زيادة ولا نقصان، الغناء وعبدالوهاب، سر جمع بين عمار وأمه عدة مرات، ففي ثانوي، كان مزاجها أن يغني لها عمار أغاني عبدالوهاب على العود، كانت تكره منه أن يجود على «الأستاذ»، ما إن يفعل حتى توقفه قائلة: «ما قالش كده»، فيسألها كيف يقولها، فتغني له كما قال نصا.
5 سنوات كعازف أكورديون مغضوب عليه، لم يعرف الضعف سوى في لحظة واحدة، عندما أغضبته الراقصة عزة شريف، فترك العمل عندها، كان يظن أنه سيجد عملا خلال فترة بسيطة، لكنه لم يجد، كاد يعود إلى منزل أمه، لحظة الشك في الطريق لولا إشارة رآها عمار من الله «وجدت طريقك فلا تضيعه»، عندما طلب لأن يحيي سهرة في منزل رجل ثري، عازفا على الأكورديون، طلب 500 جنيه، في وقت لم يكن أكبر عازف أكورديون يجرؤ أن يطلب أكثر من 5 جنيهات، كان يجازف بطلب الرقم الذي كان يدين به، تعجب الوسيط من طلبه، وتعجب أكثر عندما وافق أصحاب الحفل، قائلا لعمار مندهشا: «وافقوا رزق الهبل على المجانين».
الإشارة أنقذته من أن يكسر عناده الذي يميز 64 عاما من رحلته في العالم، أن يعود إلى أمه خائبا بلا دليل على صدق حدسه «كان طريقي».
كل شىء كان يقول إنه خلق ليصير موسيقيا، الموسيقى جعلته نجم الجامعة الأول بعد شهور، لم يكن له سوى صديق واحد كفيف، ولم يكن أحد يحاول حتى إلقاء السلام عليه.
صغيرا، عندما أجاد قراءة وكتابة النوتة الموسيقية، وهو في الصف الرابع الابتدائي، عندما بشر كامل الشناوي، صديق والده بموهبته القادمة بعد أن ناقشه في إحدى أغنيات فيلم الخطايا، وعندما حضر كمال الطويل امتحانه في الموسيقى في المرحلة الابتدائية بناء على مساعدة من والده، ليخبر الطويل والده: «ابنك زي طالب متخرج من معهد الموسيقى من سنين».
يتذكر فترة بعد الظهيرة في مدرسة النقطة الرابعة التي تحول اسمها إلى المركز النموذجي لرعاية المكفوفين، ثم تحول مرة أخرى إلى مدرسة طه حسين، عندما كان أستاذه سيد حسنين، يترك له مفاتيح غرفة الموسيقى، بعد انتهاء الدراسة، ليتمرن على عزف البيانو والأكورديون، ويواصل تعليمه لنفسه العزف على آلة العود.
يتذكر وقتها عندما راسل إحدى مدارس المكفوفين في أمريكا لتعلم التأليف الموسيقي.
لم تكن إشارات خاطئة، كانت طريقا سينتهي بأن يحفر اسمه في وجدان الذاكرة المصرية والعربية.
«بيشوف ياشوشو»
يصرخ المخرج حسين كمال موجها كلماته «بيشوف يا شوشو» للمونتيرة رشيدة عبدالسلام مدهوشا من توافق موسيقى عمار مع مشهد يحتاج إلى دقة في فيلم «أرجوك أعطني هذا الدواء».
قبل 9 أعوام من الفيلم الذي أنتج عام 1984، كان السينمائيون يرفضون أن يضع عمار الكفيف موسيقى لأفلامهم ظنا منه أنه سيعتمد على الصوت أكثر من الصورة.
في 4 يوليو 1975، في عيد ميلاد إذاعة صوت العرب التي انطلقت في عام 1954، وميلاد عمار الذي يقدم أول لحن ناجح له: «امسكوا الخشب» لمها صبري، تنجح نجاحا باهرا.
كان ينتظر المجد، لهاث المطربين على ألحانه، لكن لا شيء يحدث.
يطلبه نور الدمرداش مخرج مسلسل «بنت الأيام»، تحاول شادية أن تجره إلى السينما، لكن صناعها واصلوا الرفض، حتى عام 1979، عندما وضع الموسيقى التصويرية وألحان أغنياتها «الشك يا حبيبي» للمخرج هنري بركات، ونجحت معها أغنية أقوى من الزمن، نجاحا «كسر الدنيا» بمقاييس وقت إطلاق الأغنية.
في العام نفسه، كان على موعد مع النقلة الكبرى التي قلبت موازين موسيقى الدراما العربية، مسلسل الأيام، الذي كاد يرفضه، فكر أن مخرجه يحيى العلمي، قد استعان به لأنه كفيف، للتعبير عن بطل والدته المفضل «طه حسين»، لكن الشاعر الغنائي سيد حجاب أقنعه بأن اختياره للعمل بسبب موهبته، لا عجزه.
اقرأ أيضًا
«عمار» كان يرغب في أن يعبر عن مشاعره هو، لقد تعرض لما سماه «الرزالات» التي تعرض لها طه حسين بسبب إعاقته البصرية، «زفير كبير زلزل الأمة العربية» كما وصف «عمار» الأمر في حواره مع عمرو الليثي، عندما صرخ بلحنه على كلمات سيد حجاب «أنا مش أعمى يا خلق هووه /يا خلق يا عميانيين/ده أنا قلبى مافيه أخوه/لكن زماني ضنين /أنا لا عاجز بصير/ولا كل من شاف بصير/ والله يا عمى القلوب/لأخط بإيدي المصير».
قال ما بصدره، وأثلج صدر أمه، بتعبيره عن بطلها، كانت قد صالحته بعد 5 سنوات، من مقاطعتها، عندما دخلت بنكا لتصرف شيكا، فوجدوا في نهاية اسمها «الشريعي»، فوالد عمار الذي رحل مبكرا ووالدته كانا أبناء عمومة، سألها الموظف: هل هناك قرابة بينك وبين عمار الشريعي، فأجابته بسخرية: «قرابة بسيطة.. أنا يدوبك أمه. فانقلب لها البنك»، وصعدوا بها إلى غرفة المدير حتى تنتهي إجراءات صرف الشيك.
علمت الأم يومها أن ولدها «لم يخب»، في المساء هاتفت عمار، كأن شيئا لم يكن، وطلبت منه 500 جنيه، لم تكن ترغب في المبلغ، كانت فقط تريد أن توصل الرسالة إليه: «فلوسك ليست حرام، وسآكل منها وأشرب دون قلق».
عندما عاد عمار إلى بيت أمه، وعرفت محبة «محمد عبدالوهاب» الذي قال له: «أنا وإنت روح واحدة في جسدين»، فقد أدرك عبد الوهاب أن الشريعي قد يكون آخر حراس الثقافة الموسيقية المعاصرة التي شارك في نهضتها استكمالا لمسيرة سيد درويش، وتلاهما بليغ حمدي.
كانت السبعينيات تحمل جوا مشحونا باليأس، ولمراجعة كل شيء، كل قيم الحداثة التي تشكلت منذ حكم محمد علي: النكسة التي جبرها عبور أكتوبر، أعقبه لغز آخر بمعاهدة السلام مع إسرائيل، الانفتاح يجرف دولة ناصر، الشعارات البراقة تتحول من أحلام إلى كوابيس تكشف تداعيها وانهيارها.
كل شيء مر بالشك الأدب، الموسيقى، السينما، السياسة، بدأت فرق موسيقية كالجيتس والمصريين لهاني شنودة والفور إم، تنفر من المقامات الشرقية والآلات الموسيقية الشرقية، متمردة على المقدمات الموسيقية الطويلة وكلمات الأغاني التي تدور حول نفسها وتكرس لتكرار المعنى وخوائه.
لكن كان لابن سمالوط رأي آخر: فسمالوط كانت حافلة باتجاهات مختلفة للغناء والموسيقى بطابعها الشرقي، فعمار الذي تعلم القرآن على يد الشيخ محمد أبو سمرة، وتربى على الإنشاد الديني لمشايخ كالشيخ محمد أبواسماعيل، ومحمد عبد القادر، وعشق الغناء الشعبي في الموالد، وعرف محمد عبدالوهاب، لم يكن ليرضى بنغمة التغريب التي سادت في فرق السبعنييات المتمردة في الأساس على أوضاع مرتبكة.
لذا أنشأ عمار فرقة الأصدقاء مع صديقيه الشاعرين: عمر بطيشة وسيد حجاب، مؤمنا بأن بالإمكان جعل الموسيقى الشرقية أكثر معاصرة، وأنها صالحة للبقاء، استمرت الفرقة سنتين، وغنى لها منى عبدالغني وعلاء عبدالخالق وحنان، أنتجت 34 أغنية في 3 ألبومات، نجح بها عمار، لكنها أثارت حقد زملاء المهنة، فشاعر وملحن كتبا تقريرا لرئاسة الجمهورية: «أنها فرقة شيوعية، تدس السم فى العسل».
لم يكن لعمار أي نشاط سياسي، أو انتماءات حزبية، فقط اختار لأغاني الفرقة أن تعبر عن مشاكل مصر وقتها من تناقضات، فأغنية الموضات كانت تسخر من النزعة الاستهلاكية التي مست سلوك الشعب المصري وقتها عقب انفتاح عشوائي، وأغنية الحدود الشهيرة التي مست قلوب المصريين وقتها والتي تحدثت عن اضطرار المصريين للاغتراب خارج أوطانهم للعمل، طارحا معهم ألم الوقوع تحت سيف «أسئلة مالهاش ردود».
بعد سنتين من حصوله على جائزة فينسيا، يواصل عمار مشروعه في التأكيد على كنوز الموسيقى الشرقية عبر برنامجه الإذاعي الذي أذيعت أولى حلقاته عام 1988، غواص في بحر النغم، والذي استطاع من خلاله كشف الكثير من الأسرار الموسيقية لمستمع الراديو، صديقه الأول، بعدها يواصل في قناة دريم نفس فكرة البرنامج بعنوان «سهرة شريعى».
في قلب ثورة يناير
كان التليفزيون المصري يواصل تضليله عبر أكاذيب عن متآمرين وإسرائيليين في ميدان التحرير، ويحذر من كرات لهب قد تقذف على الميدان ويطالبهم بإخلائه، مستضيفا مكالمات فضائحية من فنانين طالب أحدهم بحرق المتظاهرين أحياء، فضلا عن مكالمات مدفوعة الأجر تدعي أنها كانت شهود عيان على الخيانة، بينما الكاميرا تطل على مشهد هادئ على النيل وتتجاهل الغليان في التحرير.
كان عمار الشريعي، الذي لحن الأوبريت الأشهر اخترناه عام 1990، مرحبا باتصاله بكل تأكيد، لكنه فاجأ المذيع والجماهير التي ترغب في تصديق أن لا شيء في التحرير، بوقفة ثابتة مع الثورة، كشف بمداخلته تهاوي منطق إعلام أنس الفقي في ماسبيرو.
في 1991، كانت حرب دولة مبارك ضد الإرهاب هي حرب المصريين أيضا وكان التطرف الدينى والعمليات المسلحة قد بلغت مداها، يقول في حواره مع عمرو الليثي 2009: لم أكن لأقبل بتلحين الأوبريت لولا أني كنت أرى أن مساندة مبارك في تلك اللحظة كانت مساندة للوطن، نجح الشريعي وقتها في أن يجعل من الأغنية شعبية وأن يجعل المصريين يغنون لمبارك.
كان قد لعب دورا مماثلا عندما لحن موسيقى وأغاني مسلسل العائلة الموجه ضد التطرف الديني والإرهاب حتى إنه تحمل عصبية صديقه وحيد حامد عندما رفض أن يبدأ مسلسل «ضد الإرهاب باسم الدين» بأغنية :«وحدوه واعبدوه».
لكنه استمر حتى 2003 في تعهد حفلات أكتوبر، وأصبح فرضا أن يقدم أغنية للرئيس كل عام، لكنه امتنع عنها، كان مشروع التوريث والحركات الاحتجاجية ضد مبارك وسياساته قد بلغت بمصر حالة من الاحتقان لم تشهدها من قبل.
لكن في مكالمة تالية مع منى الشاذلي لحظة أن ظهر عناد مبارك وإصراره على عدم الرحيل قال باكيا: «يا ريس أنا بحبك وأنا اللي غنيتلك اخترناك، وأنا برضه دلوقتي اللى بقولك أرجوك ارحل، ارحم ولادك وارحمنا وارحل، الولاد اللى في التحرير ورونا ان احنا جيل خايب وطلعوا أحسن من جيلنا».
دموع تطهرية؟
ربما، لكنها أبكت ملايين، وأثرت بقوة على المترددين والمستسلمين لدعاية إعلام الحرب الذي شنه أنس الفقي، وزير الإعلام وقتها، على الثوار.
لم تكن دموع الشريعي وحدها هي ما تسللت إلى قلب الميدان، وجعلته في قلب الثوار، حتى إنه سقط في إغماءة مرهقا من خطبة قالها في الميدان بدمه وأعصابه، لكن أيضا أغانيه التي قدمها عبر 40 عاما، خاصة أغانى فيلمي البريء وكتيبة إعدام.
ففى فيلم البرىء الذي قدم فيه أغنيات يا قبضتي، محبوس يا طير الحق، الدم اللي في إيديا، وفى فيلم كتيبة إعدام: حبيبتى من ضفايرها طل القمر.
لم يكن الشريعي يحب نفسه مغنيا، لكن عندما استمع المخرج عاطف الطيب إلى أغانى فيلم البريء، الذي حذفت الرقابة فيما بعد أغنية النهاية فيه، قال له: لا يوجد كورال يستطيع أن يغني هذا اللحن، غناه عمار بصوته ليمنح الفيلم دفئا وصدقا، وأغنياته شجنا وقوة.
تصلح أغنية ملعون في كل كتاب يا عار الخيانة التي أداها بصوته مع ابنته في الفن هدى عمار، لكل عصر، لكل مستبد، لكل سارق شعب، لقتلة الأحلام، وقنبلة شريفة في وجه الطغاة، يهدي أغنية: محبوس يا طير الحق للناشط علاء عبدالفتاح أثناء فترة اعتقاله من قبل المجلس العسكري.
كان يحلم مثلنا، حلما تجسد أمامه، الحلم الذي وصفه الشاعر المصري الراحل فؤاد حداد: من ألف عام وأنا عايش في الزمن الجاي، الزمن الذى لم يجئ أبدا.
فيلسوف البياتي
قبل 7 ديسمبر 2012، لم يفت عمار الشريعي أن يوصل رسالته إلى آفاق عالمية، فقد نجح بالتعاون مع شركة ياماها اليابانية في استنباط ثلاثة أرباع التون من الآلات الإلكترونية، ليصبغها بشرقية منحته لقب فيلسوف البياتي، وساهم مع مؤسسة دانسينج دوتس الأمريكية في إنتاج برنامج جود فيل الذي يقدم نوتة موسيقية بطريقة برايل للمكفوفين.
في المكالمة التي وصفها صديقه الشاعر عبدالرحمن الأبنودي قبل 3 أيام من رحيله بأنها مكالمة وداع بامتياز: تذكر فيها رحلته معه، ربما تذكر جمال عبدالناصر، عندما قدم إلى مدرسة النقطة الرابعة للمكفوفين بسمالوط، ووافق على طبع كتاب فلسفة الثورة بطريقة برايل، بعد أن أضاف إليه مقدمة كتب فيها :«كل ميسر لما خلق الله، الثورة لا تعرف العجز».
العبارة التي ألهمته ثنائية «قهر العجز» و«التمرد » على بغض الواقع.
الحب أيضا الذي كان أيضا يرى فيه قدرا من التقييد للحرية لاشتراطه المصلحة والفائدة، حتى أتت لمسة من يدي ابنه مراد الصغيرتين قائلا له بتلقائية: «أنا بحبك أوي يا بابا» منحته القوة ليؤمن أن الحب بلا شروط مطلقة ممكن، الحب بلا شروط مطلقة قد يتحول إلى أغنيات مزلزلة، تبقى فى الوجدان، وتقهر الزمن، كما قهر الظلام وحوله إلى بستان من الموسيقى.
المصرى اليوم
المصرى اليوم
- الحصول على الرابط
- X
- بريد إلكتروني
- التطبيقات الأخرى
تعليقات
إرسال تعليق