نحن نكذب علي أنفسنا!
أحمد عبد المعطي حجازي
نكذب علي أنفسنا لأننا ننكر ما يحدث أمام أبصارنا, ويتفجر تحت أقدامنا, فلا نلتفت إلا ريثما تهدأ الضجة, وتنفض اللمة وتخلو الساحة من آثار الحادث المروع ثم نعود إلي ما كنا فيه كأن شيئا لم يحدث, أو كأنه حادثة عادية أو ظاهرة عابرة نخفف من وقعها ونعالجها بالعبارات المحفوظة والاحضان الكاذبة والابتسامات اللزجة حتي يقع حادث جديد يكرر الحوادث السابقة, ونكرر نحن فيه ما صنعناه من قبل, وقد نفاجأ ـ وهي ليست مفاجأة ـ حين نري أن بعض الذين يشاركون في إطفاء النار هم من يحرضون علي إشعالها!
هؤلاء الخارجون علي كل القيم الوطنية والإنسانية المتباهون بوجوههم الصحراوية ونظراتهم الشريرة المراوغة الذين أصبحت لهم في آخر الزمن أسماء وصور وألقاب وصفات وصفحات علي الفيس بوك يحللون فيها ويحرمون, ويمنعون من تهنئة( النصاري) ويسمحون.. هؤلاء هم الذين يحرضون المسلمين علي المسيحيين. وهم أيضا من يتصدرون المجالس العرفية التي تصالح بين الطرفين اللذين اشتبكا في غير ذي موضوع إلا أن أحد الطرفين أكثرية في الحي أو في القرية والطرف الآخر أقلية, فلابد من قهره بأي صورة من الصور, لأن العلاقات الاجتماعية في مصر الآن ليست قائمة علي الحق, وإنما هي قائمة علي القوة, والمناخ السائد في مصر منذ عدة عقود لا ينظر لصاحب الحق, وإنما ينظر لصاحب الجاه, لا الجاه المستمد من زعامة تاريخية أو موهبة عبقرية, أو بطولة نادرة أو تضحية غالية, بل المستمد من القدرة علي البطش وإيقاع الأذي بالآخرين فالحاكم دائما علي حق في مقابل المحكوم, والغني دائما علي حق في مقابل الفقير, والأكثرية دائما علي حق ولو كانت ظالمة والأقلية لاحق لها.
المناخ السائد في مصر منذ عدة عقود هو مناخ الغابة التي يحتكم فيها الناس للقوة وحدها, وما دام الأمر كذلك فكل شيء مباح, والشرط الوحيد هو أن تنتمي للأقوياء.
يستطيع أي صبي طائش في هذه الحالة أن يملي إرادته علي الطرف الضعيف, فإن اعترضه معترض اشتعلت النار, وعندئذ لا يكون الاحتكام للقانون, بل للعرف, فما الذي يعنيه العرف؟ الذي يعنيه العرف هو الموروث الذي كان سائدا في العصور الوسطي قبل أن تكون لنا دولة وطنية, وقبل أن تكون لنا قوانين مدنية, ورجال أمن, ومحاكم وقضاة.
العرف هو أننا لسنا جماعة وطنية ننتمي لوطن واحد ونحتكم فيه لمبدأ المواطنة, ونخضع لدستور وضعناه لأنفسنا وقوانين تسري علي الجميع, وإنما نحن جماعتان أو أمتان أمة قاهرة, وأخري صاغرة, أكثرية مسلمة وأقلية ذمية, وفي هذه الحالة يكون الاحتكام لما ورثناه من أيام المماليك والعثمانيين.
صحيح أن المسيحيين المصريين لم يعودوا ملزمين بلبس اللون الازرق, ولم يعودوا يدفعون الجزية, وأنهم يستطيعون الآن أن يركبوا الخيل والبغال التي لم يكن مسموحا لهم بركوبها! لكنهم لايزالون ممنوعين من استحداث الكنائس عملا بالخط الهمايوني, وهو القانون العثماني الذي صدر عام6581 عندما كانت مصر ولاية عثمانية, وبه لا يحق للمسيحيين أن يبنوا كنيسة جديدة أو يجددوا كنيسة قديمة أو يصلحوا فيها شيئا إلا بقرار من السلطان الذي حل محله رئيس الجمهورية!.
لقد تحررت مصر بفضل الحركة الوطنية من تبعيتها للعثمانيين وخضوعها للبريطانيين, وأصبحت مملكة مستقلة ثم صارت جمهورية مدنية ينص دستورها علي أن حرية الاعتقاد مطلقة, لكن الخط الهمايوني لايزال قيدا يمنع المسيحيين المصريين من بناء كنائسهم, في الوقت الذي يستطيع فيه أي متاجر بالدين أن يضع يده علي ما شاء من اراضي الدولة, ليبني عليها زاوية ويركب علي الزاوية أربعة مكبرات للصوت, ويصبح بذلك فاعل خير وينضم للحزب الحاكم ويرشح نفسه في الانتخابات دون أن يقع تحت طائلة أي خط لا الهمايوني ولا غير الهمايوني!.
ومع أن المسيحية دخلت مصر منذ القرن الأول الميلادي واعتنقها المصريون, وأصبحت ديانة الغالبية ألف عام, ولاتزال حتي اليوم ديانة الملايين من المصريين فهي مع هذا كله تراث مجهول منسي في مؤسساتنا التعليمية, الحضارة القبطية لامكان لها في مناهج التاريخ, واللغة القبطية لا وجود لها في أقسام اللغات, والاقباط أنفسهم ممنوعون أو يكادون من الوجود في وطنهم ووطن آبائهم وأمهاتهم وأجدادهم وجداتهم, لأن المناخ الذي حول المصريين من أمة إلي طائفتين, أكثرية يحتكر بعض أبنائها السلطة, وأقلية لا سلطة لها ـ هذا المناخ أصبح مناخا طاردا للمسيحيين الذين حصلوا علي بعض حقوقهم في النصف الأول من القرن الماضي ثم فقدوها بعد أن فقدوا صفتهم كمواطنين, وعادوا بفعل الثقافة التي أشاعتها جماعات الإسلام السياسي وتبناها نظام يوليو الذي كان إحياء للنظام المملوكي القديم لكن بملابس عصرية, كأن المماليك عادوا من مذبحة القلعة ينتقمون لأنفسهم من الدولة الحديثة التي قامت علي أنقاض دولتهم البائدة!
لقد فقدنا في هذا النظام المملوكي الجديد وحدتنا الوطنية, ونظمنا الديمقراطية, ودستورنا العلماني, وثقافتنا العقلانية, وعدنا من جديد مسلمين وذميين نبيع أصواتنا بالزيت والسكر. وبوعود بمقاعد محجوزة لنا في الجنة! فمن الطبيعي ألا يكون للمسيحيين مكان معنا, لا في هذا العالم ولا في العالم الآخر, ومن الطبيعي أن يتعرضوا لما تعرضوا له منذ سبعينيات القرن الماضي إلي اليوم كنائسهم تهدم ومنازلهم تحرق, ومحلاتهم تسرق, وابناؤهم وبناتهم يخطفون, والسلطة متواطئة لاتحميهم لانها لاتحمي إلا نفسها فلابد أن تتواطأ مع من يهددونها وهم الذين يشنون الحرب علي المسيحيين. وليس أمام المسيحيين في هذه الحالة إلا المجالس العرفية, وهي محاكمة عجيبة لأن القضاة فيها هم انفسهم الخصوم, امثال صفوت حجازي, والحويني, وحسان, أما الشهود فهم رجال الأمن الذين لايحضرون هذه المجالس ليفرضوا علي المتخاصمين سلطة القانون بل ليقنعوا المسيحيين بالرحيل, وإلا فالبقاء هو ما حدث لهم في الخانكة, والزاوية الحمراء, والاسكندرية, ودلجا,, ونزلة عبد المسيح ونزلة عببيد.. إلي آخره.. إلي آخره!
هل تخلصنا بهذا من المشكلة الطائفية؟ لا وإنما هي تتفاقم وتحتد وتتفجر. فهل هناك أمل في أن نتخلص منها؟ نعم, حين نتخلص من العصور الوسطي, ومن تقاليدها البالية, ونظمها المستبدة, ومجالسها العرفية, ونستأنف نهضتنا الحديثة من جديد!
المصدر الاهرام
تعليقات
إرسال تعليق