الورقة الفاصلة!
بريد الجمعة يكتبه:احمد البرى
أكتب إليك هذه الرسالة بالنيابة عن أختى التى قاست الأمرين فى حياتها، وعانت الظلم والحرمان، وضاقت بها السبل، فلم تجد من يقف إلى جانبها، وقد هدانى تفكيرى إلى أن أبعث لك بمأساتها، وكلنا أمل فى أن نجد لديك ما يزيح عنها الكابوس الجاثم فوق صدرها.
وتبدأ قصة أختى عندما تقدم لها شاب فى الثامنة والعشرين من العمر، ويقطن بقرية مجاورة لقريتنا فى إحدى محافظات الدلتا، وتبدو على وجهه علامات «الصلاح»، ويشعر من يجلس معه بأنه شاب وقور وملتزم، وقد أسر أختى بطيبته وهدوئه من أول جلسة جمعتهما معا، فوافقت عليه بلا تردد، وعندما حدثها عن رغبته فى سرعة إتمام الزواج وقفت فى صفه، وتغاضت عن أشياء كثيرة من مستلزمات العروس، وماهى إلا أسابيع قليلة حتى انتقلت إلى بيته، وأقبلت على الحياة معه بكل حب وارتياح، لكن ظنها به لم يكن فى محله، إذ اكتشفت أن كل ما قاله لها مجرد تمثيل وافتعال وأنه يضمر فى نفسه عكس ما يظهره لها، وللآخرين، فكشر عن أنيابه، وأذاقها كل ألوان العذاب، ومنها بخله الشديد منذ اليوم الأول للزواج حيث تركها بلا مصروف للبيت، ولم يشتر أيا من مستلزمات المنزل، وجعل إقامته فى شقة أبيه بالطابق الثانى للمنزل، حيث يقضى بها معظم وقته، ويتناول الوجبات الثلاث: الإفطار والغداء والعشاء بصحبة أسرته فى الوقت الذى تقبع فيه وحيدة، ولا يسأل عنها أحد، ولما فاض بها الكيل، وهى عروس لم تفرح بشهر العسل مثل كل صديقاتها، فاتحته فى أمرها، ورجته أن يحسن معاملتها كما تظن فيه، فإذا به يتحول إلى وحش كاسر، فتعمد اظلام الشقة بقطع الكهرباء عنها، وتركها تعيش على ضوء الشمع، بينما هو غارق فى الضحك والسخرية منها وسط أسرته فى الطابق العلوي، وأحيانا يذهب إلى شقة أخيه بلا سبب واضح فتنخرط أختى فى بكاء مرير، وتعد الثوانى إلى حين عودته، وتحاول أن تجد مبررا لسلوكه معها، فلا تصل إلى نتيجة، وتنهار باكية وتزرف الدموع بغزارة، وتدهورت حالتها الصحية والنفسية بدرجة كبيرة.
وأعادت أختى عليه السؤال: لماذا تزوجتني؟ وهل تتصور أن هناك من ترضى بهذه الحياة الذليلة؟ فرد عليها: الحكاية كلها أننى أريدك أن تعيشى كما أريد، وليس مثلما ترغبين، متجاهلا المشاعر الانسانية، والعلاقة الواجب أن تربط كل زوجين يؤسسان بيتا مستقرا، فكتمت أحزانها، ولم تنبس ببنت شفة لأحد من أهلها، متعشمة أن تتحسن طباعه بمرور الأيام، لكنه ازداد سوءا، وشعرت ذات يوم ببعض التعب، فزارت الطبيب بصحبة والدتنا فأخبرها بأنها حامل، ولم يفرح لهذا الخبر أحد، بل أخذ الكل ينظرون إلى بعضهم، وفى ذاكرتهم علاقتها السيئة مع زوجها وأهله، وتساءلوا فى صمت: وماذا تخبئ لها الأيام؟!
وزارها أبي فى أحد الأيام، وكانت كالعادة بمفردها فى الشقة، بينما هو بين أهله، وعلم بوجود أبى فى بيته، فلم يكلف نفسه عناء لقائه لكى يسلم عليه ويرحب به، ولو من باب أنه زائر له، وليس حماه! وعندما سألته أختى عن سبب تجاهله أباها، لطمها على وجهها مرتين، وتركها تنعى سوء بختها، ثم جاء يوم «الخيانة الكبري» وفى الصباح استعد للذهاب إلى عمله، وكانت هى شبه نائمة، فدخل عليها، واخرج بعض الأوراق من دولاب غرفة النوم، وسحب يدها اليمني، ووضع الإبهام على «ختامة» لكى يبصمها على شيء مجهول وأوراق لا تعلم عنها شيئا، ولما أحس بحركتها، وأدرك أنها سوف تفيق من النوم، وتكشف حقيقة ما يفعله معها، لملم أوراقه وأعادها من حيث جاء بها، ومن شدة الرعب الذى انتابها، استمرت فى فراشها إلى أن غادر الشقة، وكان القلق باديا عليه، لأنه يعد لأمر ما لا تعرفه، وبعد أن تأكدت من خروجه إلى العمل فتشت فى الدولاب عن الأوراق التى حاول أن يضع بصمتها عليها، فوجدتها تحت«مشمع» فى درج خاص بأوراقه بدولاب الملابس، وقرأتها سريعا، وعرفت أن زوجها كان يحاول أخذ بصمتها على أوراق تفيد بتنازلها عن جميع حقوقها ونفقتها بإرادتها، وأنها فى كامل قواها العقلية!!
ومر يوم كئيب كغيره من الأيام التى لم تذق فيها ساعة حلوة، وعلمنا بما حدث لها، فذهب والداى إليها، وواجها زوجها بما فعله، فأنكر التهمة، وقال إن هذه الأوراق لا تخصه، وإنها تخص واحدا من أصحابه، واستند فى حجته إلى أنه لا توجد أسماء فى هذه الأوراق، فلقد ترك مكانها خاليا، ولم يفسر ما فعله بسحب يدها إلى «الختامة»وقال إنها هواجس وكوابيس لا وجود لها!
ولكى تمضى الأمور تغاضت أختى عن هذه الواقعة، واعتبرتها كأن لم تكن، لكن هيهات أن يتغير إلى الأحسن، فلقد ضاعف شجاراته، إلى حد أن الأمور تفاقمت تماما بينهما، وتركت البيت مكرهة، وذهبت إلى أبويها، وهى حامل فى الشهر السابع، ومر شهران وضعت بعدهما ابنها «يوسف» الطفل الجميل الذى أحبه كل من رآه، وتمنى من الله أن يرزقه بمثله، إلا أباه الذى لم يسأل عنه، أو يطلب رؤيته أو حتى يرسل نفقة له، وتكفل أبى بكل مصاريفه منذ ولادته، وانقضى عام كامل على هذه الحال، وتعجب الجيران والمعارف من سلوك زوجها، وتدخل بعضهم لإصلاح ما أفسده من أجل الطفل، وبعد جلسات صلح عديدة، عادت أختى إليه، فوجدته هذه المرة مختلفا، إذ تصرف معها لأول مرة بما كانت ترغب فيه من معاملة حسنة، ونقاش هادئ، واستغربنا هذا التغير الكبير الذى طرأ عليه، لكننا تعاملنا معه على أساس أن ما مضى فات، ولن يعود، وسلمت له أختى «ورقة الخيانة» التى ادعى أنها لا تخصه، وأيضا حكم النفقة الذى حصلت عليه من محكمة الأسرة خلال فترة غضبها لدى أبوي، وما هى إلا ثلاثة أشهر وبعد أن اطمأن إلى أن ما يخشاه أصبح بحوزته، حتى كشف عن وجهه الحقيقي، فقال لها بكل بجاحة «لا أريدك.. اخرجى من هنا»، واستعان بإخوته الثلاثة الرجال فى طردها، وأخذوا منها الطفل الرضيع لكى يحرقوا قلبها عليه، ونعتوها بأحط الألفاظ، دون أن ترتكب ذنبا ولا جريرة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
لقد مر على هذه الواقعة أربعة أشهر تقريبا، ونحن لا نعلم عن ابن أختى شيئا ، حيث انهارت حالتها النفسية إلى درجة الصفر، ونخشى أن تتدهور إلى ماهو أسوأ من ذلك، ونحاول أن نعيد إليها ابنها، لكننا كلما ذهبنا إلى بيت زوجها لا نجده فيه، ولا نعرف إلى طفلها طريقا، ولم نجد مفرا من أن نعود إلى محكمة الأسرة، فحكمت لها بضمه إلى حضانتها، ولكن أين هو؟ وكيف نصل إليه؟
إننا نخشى أن يكون قد حدث له مكروه؟ وتنتابنا حالة هلع كلما تخيلنا أنه قد لا يعود إليها؟ ونحن من خلال بابك الإنسانى والاجتماعى نناشد الجهة المسئولة فى الدولة أن تهب لمساعدة أختى للخلاص من هذا الزوج الظالم، والحفاظ على حقوقها لديه، واستعادة ابنها منه... وأخيرا فإننى اسألك: كيف السبيل إلى كشف شخصية الرجال المرضى من هذا النوع قبل أن تقع الفأس فى الرأس، كما يقولون؟!
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
استوقفنى تعبير «ورقة الخيانة» الذى وصفت به تصرف زوج أختك الطائش للسيطرة التامة عليها، واخضاعها له، فتنفذ ما يطلبه منها، وهى كسيرة، لا حول لها ولا قوة، وذلك عندما حاول أن يأخذ بصمتها على أوراق تفيد بأنها تنازلت عن كل حقوقها، وحضانتها لطفلها، ففعلته الشنعاء هذه تدخل فى باب الخيانة، وهى «الورقة الفاصلة»فى حياتهما الزوجية، ولم يكن ممكنا أن يواصلاها بعد هذه الواقعة التى تسبب فيها شحه وبخله، ولقد فاته أو أنه تجاهل أن البخل صفة مذمومة فى التعامل مع الآخرين، فما بالنا عندما يكون المرء بخيلا على أهله، ولو لم ينطق القرآن الكريم فى ذم البخل إلا بقوله تعالى «ولا يحسبن الذين يبخلون بما أتاهم الله من فضله هو خيرا لهم، بل هو شر لهم، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة»، لكان أبلغ البلاغ، وأنهى النهى فالجواد حبيب إلى الناس، والبخيل بغيض إلى أهله.
نعم يا سيدتى، فزوج أختك لم يدرك بعد فداحة ما ارتكبه فى حق نفسه وابنه من حماقات، ولا أدرى ما الذى كان يمكن أن يكسبه، لو أنها تنازلت له عن النفقة، والمؤخر، وكل شىء طواعية، وليس عن طريق «ورقة الخيانة» التى حاول أن يأخذ بصمتها عليها... والله لو أمعن قليلا فيما أقدم عليه، لأدرك سوء تصرفه، وتفاهة تفكيره، فالجنيهات التى سيوفرها بهذه «الطريقة المخزية» لن تنفعه، وسوف يعض أصابع الندم فى وقت سيصعب فيه علاج الموقف، وسيكرر فعلته مع زوجة ثانية وثالثة، ولن تستقر له زيجة، وسيجد نفسه فى النهاية اسيرا للمرض والاكتئاب، بعد أن يكون قد شرد ابناءه هنا وهناك.
وانى اسأله : أترضى أن تدعو عليك الملائكة مع اشراقة كل صباح؟ فعن أبى هريرة رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال :«ما من يوم يصبح فيه العباد، إلا وملكان ينزلان فيقول احدهما : اللهم اعط منفقا خلفا، ويقول الآخر، اللهم اعط ممسكا تلفا» متفق عليه، فحرى بك أن تستعيذ بالله من البخل، وأن تسأله أن يشفيك منه، فأى داء أدوى من البخل كما قال أيضا رسول الله صلي الله عليه وسلم.
ويخالف الزوج البخيل شرع الله، إذ إنه لا يكون بخيلا فى المال وحده، وإنما أيضا فى العواطف والمشاعر الإنسانية، وهناك فرق بين البخل والحرص، إذ إنه من الممكن قبول الحرص، فأحيانا تكون الزوجة مسرفة، ويرى زوجها أنها لا تملك القدرة على إدارة البيت، فيتعامل معها بنوع من التوازن والحرص، ويحاول أن يوفق امكاناته حتى يتماشى مع أحواله، أو يكون الزوج من متوسطى الحال، فترى الزوجة نتيجة تبذيرها، واسرافها ان ذلك بخل مع أنه فى الحقيقة حرص مقبول... أما البخيل فهو الزوج الذى يملك المال ويستطيع الانفاق، ولكنه لا يصرف على أولاده، وبيته إلا القليل، وقد يكون الإنسان بخيلا بالفطرة فيكره العطاء، ومن الوارد أن يكون البخل نتيجة الحرمان الذى تعرض له فى الصغر، وهنا يجب التعامل معه بواقعية، كاصطحابه إلى السوق لكى يشترى ما تريده الأسرة بنفسه، ويتابع الاسعار، ويعيش الواقع الذى يجهله أو يتجاهله.
لقد تناسي زوج أختك أن العزلة التى يفرضها الرجل على زوجته أشد إيلاما وضررا من الاستبداد والتوحش العنيف، ولم يدرك أن المرأة لزوجها، ما أرادها أن تكون له ـ على حد تعبير بلزاك ـ فلقد كان باستطاعته أن يحتويها بتصرفات بسيطة، وكلمات رقيقة، لكن أسلوب الاستهتار الذى يتعامل به معها، هو الذى يدفعها إلى رفض الحياة معه، على هذا النحو الذى لا يطيقه أحد، ومن مظاهر «الاستهتار» تجاهله زيارة حماه إلى بيته، وعدم استقباله والترحيب به، فتسبب بسلوكه هذا فى تعميق الفجوة بينهما، ولو أنه التقاه ، وناقش معه فى هدوء الملاحظات السلبية التى رآها على زوجته، وبحثا سبل تلافيها، لما تفاقمت الأمور إلى هذا الحد.
وبعد كل ما جرى، لا أرى أن عودتهما للحياة الزوجية ستكون فى مصلحتهما، إلا فى حالة واحدة، هى أن يقر الطرفان باخطائهما، وتجاوزهما فى حق بعضهما، فهناك بالتأكيد اخطاء وقعت فيها أختك، حتى وإن كان هو البادئ بالتجاوزات، وأن يسطرا معا صفحة جديدة تطوى صفحة الماضى بكل ما فيه من آلام، وإذا تحقق هذا الحل فسوف تظلل السعادة الزوجية عشهما من جديد، ومن يدرى فلعل الله يجمع الشتيتين بعدما يظنان كل الظن أنهما لن يتلاقيا، وبهذه الطريقة يقتلعان ازمتهما من جذورها... أما إذا أصر على الاستمرار فى هذا المنهج الخاطئ، فليكن التسريح بمعروف، وليطلق أختك، ويعطيها حضانة ابنها التى كفلها لها قانون الأحوال الشخصية، وإذا تهرب من العدالة يوما، فلن يتمكن من الهروب إلى الابد، وسيجد نفسه وراء القضبان جزاء ما اقترف فى حق نفسه وابنه وزوجته التى مازالت فى عصمته، ولم يطلقها بعد.
وفى كلتا الحالتين يجب أن تخرج أختك من الدائرة الضيقة التى وضعت نفسها فيها، فلقد جربت الحزن فما نفعها، وعليها بالدعاء الحار إلى الله أن يثبتها على الحق، ويرشدها إلى الصواب، وهو وحده المستعان.
المصدر الاهرام
تعليقات
إرسال تعليق