دليلك إلى كتب الأستاذ..من لم يقرأ لهيكل لم يقرأ بعد!..حياة عبدالناصر أعطت لهيكل وهج كتابة قصة هذا العصر..وتوترالعلاقات مع مبارك عندما قال للكاتب الكبير: إنت جامد أوى..كيف حافظ هيكل على علاقته بالجيش؟

الكلمة المكتوبة على الورق بناء صلب.. حجر أو معدن، وهكذا كل بناء، أما غيرها فهى صحيحة متغيرة وخاطفة ولامعة وبارقة، وبالنسبة لكاتب على ورق وبالحبر فإن كتاباته هى بناء عمره، وهكذا فإن كل المجموعة فى نهاية المطاف «عمر من الكاتب»!

بهذه الكلمات اختتم الكاتب المخضرم محمد حسنين هيكل مقدمة المجموعة الكاملة لأعماله، التى تضم27 كتابا، لكن ينقصها باكورة أعماله، ككتاب «إيران فوق البركان»، و«نحن وأمريكا» و«أزمة المثقفين» وعدد آخر من أوائل كتبه، كما لم تتضمن المجموعة آخر العنقود، سلسلة «مبارك وزمانه» التى تضم ثلاثة مجلدات، وعددا آخر من الكتب تتضمن مقالات أو محاضرات للأستاذ طبعتها دار «الشروق».

يمكن تقسيم كتب هيكل إلى مجموعات بعضها حددها بنفسه كرباعية «حرب الثلاثين عاما»، ورباعية «كلام فى السياسة» وثلاثيات «المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل» و«مبارك وزمانه»، وثنائية «العروش والجيوش»، وهناك مجموعات أخرى من الكتب مثل كتب المقالات وكتب الحوارات وكتب المعارك، والكتب التى تتناول وجهات نظره وتحليلاته لشؤون خارجية.

اقرأ ما ذكره أحمد بهاء الدين عنه لتعرف لماذا تفرد بالقمة وعرف قانون البقاء عليها

فى لفتة درامية مؤثرة يقول أستاذنا الكبير محمد حسنين هيكل فى كتابه «ملفات السويس - حرب الثلاثين عاما»: «اعترف أننى مدين بالكثير مما لدى من وثائق التاريخ المصرى المعاصر إلى جمال عبدالناصر، فقد أذن لى دائما أن أطلع على أوراقه، وسمح لى فى كثير من الظروف بصور منها، كان قد لاحظ مبكرا غرامى بالحرص على كل ورقة تضمها الظروف أمامى، وسألنى مرة وكنا أيام معركة السويس: «ماذا ستفعل بكل هذه الأوراق التى تحرص على جمعها؟، وقلت له: «ربما فكرنا ذات يوم بعد أن ينتهى ذلك كله، أن نكتب قصة هذا العصر كما عايشناه»، وكان رده: «سوف تفعل ذلك وحدك إذا أردت، أما أنا فلا أظننى سأكون هناك عندما ينتهى ذلك كله»، واستغربت قوله، خصوصا حين أضاف بهدوء غريب: «من يعيش مثل حياتى يحرق الشمعة من الناحيتين».. «وكأنه يقرأ الغيب». هى لفتة فيها كل الدراما وكل الحقيقة، فجمال عبدالناصر الذى حفر اسمه بحروف من نور فى تاريخ مصر والعالم لم يطل به العمر ليكتب قصته العظيمة، لكن بقى الأستاذ أطال الله فى عمره ليكتب قصة هذا العصر، وما تبعه من تحولات، من العصر الملكى إلى ثورة يوليو عام 1952 و حكم قائدها عبدالناصر حتى رحيله يوم 28 سبتمبر عام 1970، بعد مجدها فى محيطها العربى والعالم الثالث، ثم حكم السادات الذى أحدث دراما التحولات النقيضة لما فعله عبدالناصر، إلى حكم مبارك والمجلس العسكرى ثم مرسى، وأخيرا المرحلة التى نعيشها الآن، وفى كل هذه المراحل ظل هيكل حاضرا فى المشهد بقوة ولكن بتجليات مختلفة.

لم يكتب «هيكل» قصة نجاحه باعتبار أن سلطة عبدالناصر كانت تتعامل معه مثلا على أنه الصحفى الأوحد، ولو كان الأمر كذلك، فلماذا زاد تألقه فيما بعد؟ اختلف مع السادات، فخرج من رئاسة الأهرام، وبقى بعيدا عن سلطة مبارك، ومع ذلك فتحت له صحافة الدنيا ذراعيها، وتسابقت دور النشر العالمية على كتبه، والسر هنا يمكن أن تعرفه بأكثر من طريقة، لكن الطريقة المثلى تمسك بأطرافها حين تقرأ هذه القصة التى يرويها كاتبا عظيما آخر هو الراحل أحمد بهاء الدين، لتعرف منها أن هيكل شق نجاحه بجهد وعرق وإصرار، وبالمناسبة فإن ذكر هذه القصة يأتى فى توقيت تتوجه فيه الأنظار إلى سوريا، حيث دارت الوقائع على أرضها بعد الوحدة معها عام 1958.

يقول بهاء فى كتابه «محاوراتى مع السادات»: فى آخر رحلة قام بها جمال عبدالناصر إلى سوريا قبل الانفصال «1961»، وكنت شخصيا من أنصار الوحدة قبل قيامها وقبل إقناع جمال عبدالناصر بها، وكنت بالتالى أسافر إلى سوريا كثيرا وأعرف حياتها السياسية والاجتماعية جيدا، وبعد الوحدة كان أكثر ما يثير غضب جمال عبدالناصر هو أن يقرأ فى إحدى الصحف المصرية اسم مدينة سورية أو شخصية سورية وقد كتب خطأ، وفى إحدى المرات نشرت إحدى المجلات المصرية صورة واسم زعيم كبير من أقطاب الوحدة، ومن نواب رئيس وزراء الوحدة، أظن أنه «فاخر الكيالى»، على أنه صبرى العسلى رئيس الوزارة السورية التى حققت الوحدة مع مصر والعكس بالعكس، وهاج جمال عبدالناصر، وهاجم رؤساء التحرير الجالسين فى مكاتبهم المكيفة، والذين لم يفكر واحد منهم فى أن يذهب إلى سوريا، وكان على وشك السفر إليها، فأصدر تعليمات حاسمة إلى كل رؤساء التحرير بأن يسبقوه فى طائرة حربية إلى اللاذقية التى كان سيذهب إليها فى اليخت «الحرية» عن طريق البحر».

يضيف أحمد بهاء الدين: «لم تكن رحلة عادية إلى دمشق أو حلب، ولكنها كانت رحلة شاقة، قرر عبدالناصر أن يبدأ بها من ميناء اللاذقية ويطوف فيها أنحاء سوريا إلى حمص وحماة وحلب وجبل العرب «جبل الدروز» وإلى دير الزور و«الحسكة» و«البوكمال» أى واصلا أقصى الشمال السورى ملاصقا الحدود التركية، وأقصى الشرق ملاصقا الحدود العراقية، وركبنا الطائرة جميعا من اللاذقية، وعندما أدرك رؤساء التحرير بأعمارهم المختلفة وأمزجتهم المتباينة هول مشقة السفر إلى مناطق ليس فيها أى تسهيلات، بدأوا يتساقطون تدريجيا، عاد مصطفى أمين وإحسان عبدالقدوس من اللاذقية بالطائرة بعد يوم أويومين، وفى حلب استغاث كامل الشناوى بمن ينقله بالطائرة إلى دمشق حيث ينتظرنا هناك بعد أن تتم الجولة الشاقة، ولم يصمد إلا محمد حسنين هيكل وناصر الدين النشاشيبى ومصطفى المستكاوى وأنا».

يواصل بهاء الدين: «كانت حقا رحلة شاقة، كان استقبال الشعب السورى لجمال عبدالناصر كالعادة أسطوريا بل أكثر من كل مرة، فقد ذهب إلى مناطق قال لنا أهلها: إنه لم يسبق أن زارها «وكيل وزارة» من دمشق العاصمة، فى «دير الزور» مثلا كان هناك بالمصادفة مبنى جديد، لم يستعمل بعد لمكتب بريد، وبتنا جميعا فيه، بات جمال عبدالناصر فى الدور الثانى فى حجرة لعلها حجرة مدير المكتب، وفى الدور الأرضى الذى يفصله عن الشارع حاجز زجاجى فقط، غطوا الزجاج بالبطاطين ورصوا أسرة من القوات المسلحة ونمنا جميعا وزراء وجنرالات وصحفيين، وكان الناس فى مثل هذه الظروف يأتون متبرعين بالسراير والمراتب والأغطية التى سيستعملها جمال عبدالناصر وصحبه.

وفى «الحسكة» مثلا وزعونا على الشقق الصغيرة البسيطة جدا التى تسابق سكانها على التبرع بها ليبيت فيها القادمون ليلة أو ليلتين، وفى شقة ليس فيها أى وسيلة من وسائل الراحة من حجرة ومدخل، بتنا نحن الصحفيين، ناصر النشاشينى ومصطفى المستكاوى فى الحجرة، ومحمد حسنين هيكل وأنا فى المدخل». يواصل أحمد بهاء الدين: «كان برنامج الرحلة قاسيا وعنيفا بالنسبة لنا نحن المدنيين على الأقل، فقد ركبنا كل وسائل المواصلات وكان أقساها أحيانا «الهليكوبترات العسكرية الحديدية فى ذلك الوقت لا يوجد فيها شلتة واحدة، ومواعيد التحرك أغلبها فى الفجر المبكر لكى نلحق بالرحلة، وفى كل مدينة وقرية يخطب جمال عبدالناصر فى آلاف الجماهير بلا تعب، وللسوريين طريقة جميلة فى الترحيب يعلقون كل سجاجيد مساكنهم على النوافذ والشرفات فتعطى الترحيب شكلا فنيا وشخصيا فاتنا، ولا أنسى منظر دخولنا «حلب» المدينة الكبرى فائقة الجمال فى الشمال، والطريق إليها يمر بجبل رملى أحمر اللون ومفاجأتنا عندما وجدنا سفح الجبل كله مغطى بمئات السجاجيد والأكلمة، وسألنا وعرفنا لدهشتنا أن الناس جاءوا بها ووضعوها هكذا غير خائفين من ضياعها حفاوة وترحيبا، وبعد أن ينتهى عذاب اليوم ونأوى إلى فراشنا حيثما كان أملا فى بعض النوم قبل التحرك مع الصباح الباكر يأتى رسول من حيث يكون جمال عبدالناصر يأخذ هيكل ليسهر بقية الليل معه، وكان بعضنا يتندر على ما يثيره ذلك من حنق وغضب لدى كثيرين رسميين وصحفيين». هكذا كان هيكل، وهكذا ظل، لم يكن قريبا من السلطة ليأكل من ملذاتها ويكتسب بريقه من بريقها، ولم يبتعد عنها فتغرب عنه الشمس ليصبح طيا منسيا، وإنما هو عرف أن قانون النجاح يبقى فى أن يكون نفسه التى تعشق التحدى فتشق الصخر بحثا عن كل جديد، فجاء بالجديد فى مؤلفاته التى لا تستغنى عنها كل مكتبة عربية، وكل سنة وانت طيب يا أستاذ.



مبارك حاول التقرب من الأستاذ وعرض عليه الاتصال به فى أى وقت والعلاج بالخارج ولكنه رفض

عندما تولى حسنى مبارك حكم مصر قام بالإفراج عن كل المعتقلين فى عهد نظيره الراحل أنور السادات، ومن بينهم الأستاذ الذى رأى فى تصرفه هذا بداية جديدة مبشرة، بعدما دعاه إلى قصر الرئاسة ودار حديث بينهما امتد لست ساعات متواصلة، وبالفعل بدأت جسور العلاقة بين الطرفين، وأعلن هيكل عن تأييده الشخصى لمبارك فى البداية، ودعا كل المواطنين لمساندته لينجح فى أداء مهمته بنجاح.

حاول مبارك التقرب من الأستاذ أكثر من ذلك، وعقب أول لقاء جمع بينهما أعطاه صلاحية للاتصال به فى أى وقت يشاءه، ولكن هيكل لم يستخدم تلك الصلاحية حتى فى المرة التى علم فيها مبارك بسفر الأخير للعلاج فى ألمانيا، وعرض عليه العلاج على نفقه الدولة، ولكنه رفض، وكالعادة باتت محاولات مبارك فى التودد للأستاذ تبوء بالفشل مرة تلو الأخرى، خاصة بعدما قرر هيكل أن يبتعد عن الدائرة المحيطة بالرئيس الأسبق والاكتفاء بالكتابات التى كانت تزعج مبارك ورجاله فى غالبية الأحيان.

وبدأت علاقة هيكل بمبارك تتوتر بعدما ألقى الأخير محاضرة فى الجامعة الأمريكية عام 2002، قال فيها: «إن السلطة شاخت فى مواقعها، وهناك مخطط واضح لتوريث الحكم، ومهما كانت الصورة حلوة، فلابد أن نقول كفاية».. فى إشارة إلى ضرورة رحيل مبارك عن الحكم، وكان هذا الحديث كفيلا لإثارة انتباه الجميع حول مخطط التوريث الذى سعى إليه الرئيس الأسبق حسنى مبارك، فتساءل الأخير لماذا يكرهنى هيكل هكذا؟ وقد سبق هذا الموقف آخر، عندما جرى تمرير القانون 93 لسنة 1995 لنقابة الصحفيين وقتها وجه رسالته القوية للنظام، وقد كانت صفعة مدوية.. قال: «إن هذا القانون فى ظنى يعكس سلطة شاخت فى مواقعها وهى تشعر أن الحوادث قد تجاوزتها».

ويستطرد الأستاذ فى كتابه الذى قدمه بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير بعنوان: «مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان «والتى وصفها فى البداية بأنها علاقة محدودة وفاترة وفى كثير من الأحيان مشدودة ومتوترة»، متحدثا عن اللقاءات التى جمعت بينهما عن طريق المصادفة فى البداية ومنها اللقاء الذى جرى فى مكتب الفريق محمد صادق، وأثناء معارك أكتوبر عندما ذهب هيكل إلى مركز القيادة العامة للمعركة، وكان على موعد مع القائد العام الفريق أحمد إسماعيل، وهناك أقبل نحوه مبارك وسأله: كيف عرفت بتفاصيل المعركة التى جرت فوق قاعدة المنصورة؟! ونشرتها فى الأهرام مع أن المعركة لم يعرف تفاصيلها سوى الرئيس السادات فقال له هيكل: عرفناها من الرئيس نفسه وهنا رد عليه مبارك: «ياه دا انتم ناس جامدين قوى!!».. وهنا أدرك مبارك حجمه الحقيقى أمام الأستاذ، فكانت هذه الكلمات كافية بأن تبعد بين الطرفين.



بدأت علاقتهما بمناصرة السادات فى بداية حكمه وانتهت بقرار نقله من الأهرام واعتقاله

لم تسر علاقة الأستاذ بالرئيس الراحل أنور السادات على وتيرة واحدة كنظيرتها مع الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ولكنها بدأت بالاتفاق والتقارب فى وجهات النظر بين الطرفين وانتهت بالعداء بعد فترات وجيزة من حكم الأخير.

فى البداية عندما تولى الرئيس الراحل أنور السادات عام 1970، حاول الأستاذ مساندته فى الحكومة والسياسة والصحافة والسعادة فى ذلك أن الأول كان على دراية بعلاقة الأخير الحميمية بنظيره الراحل جمال عبدالناصر وشاهدا عليها، ويمكن القول بأن الجورنالجى استطاع أن يكسب معركة الصراع الحاد مع مراكز القوى، وهو ما اعترف به السادات نفسه، عندما حكى تفاصيل الفترة الأخيرة فى المعركة التى كانت مقامة على السلطة وانتهت بأحداث مايو أو ثورة التصحيح.

علاقة هيكل بالسادات اشتدت أكثر فى فترة الإعداد لحرب أكتوبر 1973 بل يمكن القول بأنه كان مشاركا فيها بشكل قوى، فيما سمى بخطة الخداع الاستراتيجى للعدو من خلال بعض الكتابات، على سبيل المثال حديثه عن الصعوبات التى تواجه أفراد الجيش المصرى لعبور قناة السويس ودخولها فى معركة ضد العدو الصهيونى، على الرغم من الانتقادات التى وجهت للأستاذ بسبب تلك الكتابات والتى لم يفهم مغزاها كثيرون فاتهموه بإشاعة الروح الانهزامية بين أفراد القوات المسلحة.

وكعادة هيكل لم تمنعه علاقاته الجيدة بأصحاب السلطة فى مصر من توجيه اللوم والعتاب لهم وانتقادهم فى حالة وقوع خطأ، وهذا ما حدث مع السادات عندما بدأ الخلاف يشب بينهما بسبب طريقة تعامل الأخير مع حرب أكتوبر والخطوات التى تم اتباعها بعد ذلك مع إسرائيل، وبلغ الخلاف أشده عندما قرر الأول نقله من مؤسسة الأهرام وتعيينه مستشارا له فى 1974 فاعتذر هيكل قائلا: فى تصريح لصحيفة «صنداى تايمز» البريطانية بعد القرار بأيام قائلا: «إننى استعملت حقى فى التعبير عن رأيى، ثم إن الرئيس السادات استعمل سلطته، وسلطة الرئيس قد تخول له أن يقول لى اترك الأهرام، لكن هذه السلطة لا تخول له أن يحدد أين أذهب بعد ذلك، القرار الأول يملكه وحده، والقرار الثانى أملكه وحدى».

وقرر الاعتكاف فى منزله والتفرغ لتأليف الكتب السياسية، وانطوت صفحات علاقتهما عندما تحدث السادات أمام الكاميرات فى عام 1981 قائلاً عن هيكل: إنه لم يعد صحفيًا بل سياسيًا، وعليه أن يترك الصحافة إلى السياسة، و«ليس من حقه كصحفى أن يناقش القرار السياسى، فتلك مسؤولية الرئاسة».

وذلك بعدما كتب هيكل عن اللا نصر واللا هزيمة وأصدر السادات فى العام نفسه قرارا باعتقال هيكل فى 1981 ضمن حركة الاعتقالات التى طالت رموز العمل السياسى والصحفى، بحجة أنه يساهم فى إشعال الفتنة بكتاباته فى البلاد وفى حقيقة الأمر كان الاعتقال متعلقا بموقفه المناهض لطريقة تعامل مصر مع إسرائيل وأمريكا، لأن السادات فى وجهة نظره كان يعطى لأمريكا دورا أكبر مما تستحقه على الرغم من الانتصار الذى حققه فى حرب أكتوبر، وكان بسلاح آتٍ من الاتحاد السوفيتى.

«تلاقينا واتفقنا واختلفنا كثيراً وظللنا أصدقاء حتى جاءت حرب أكتوبر 1973 وانتهت، ثم تباعدت زوايا الرؤية لأن الرجل وجد بعد حرب أكتوبر أنه يستطيع تأسيس شرعية مختلفة تصدر عن مرجعية مختلفة. وهناك تباعدت الطرق، وكان طبيعياً أن تتباعد وإلا نزلت العلاقة بين السياسى والصحفى من مستوى الصداقة لفكرة أو لمشروع إلى مستوى التبعية لرجل أو لسلطة!».

هكذا كتب الأستاذ فى كتابه «أكتوبر 73: السلاح والسياسة»، الذى يتحدث فيه عن موقفه من الرئيس الراحل أنور السادات بسبب طريقة تعامله فيما بعد حرب أكتوبر مع أمريكا وإسرائيل ورغبته فى إبرام اتفاقية السلام مع الأخيرة مستشهدا بالرسالة التى بعث بها السادات لوزير الخارجية الأمريكية هنرى كيسنجر آنذاك فى اليوم التالى لحرب أكتوبر، بعدما حققت القوات المصرية انتصارات ساحقة وقال فيها السادات: إن مصر لا تعتزم تعميق مدى الاشتباكات أو توسيع مدى المواجهة، فعلق هيكل على ذلك فى كتابه بأنها المرة الأولى فى التاريخ يصارح فيها طرف محارب خصمه بخطته كاملة.

ولم يكن هذا هو الكتاب الوحيد الذى تحدث فيه الأستاذ عن طريقة تعامل ومعالجة السادات للحرب منتقدا إياه ولكن أيضا هناك كتاب خريف الغضب والذى يسرد فيه هيكل الأسباب التى أدت إلى موت السادات على هذا النحو، ولكن يقال فى بعض الشهادات الصحفية: إن هيكل سرعان ما هدأ من وطأة هجومه على السادات فى الثمانين من عمره وأثنى عليه فى استرداده لأرض سيناء فى الوقت الذى مازالت سوريا وفلسطين تدفعان الثمن فيه.

وتتجه الأقاويل والشهادات التى وثقت لتلك المرحلة إلى وجود أسباب بعينها أدت إلى نشوب حالة العداء هذه ما بين هيكل والسادات أولها الخلاف حول الطريقة التى عالج بها مظاهرات الطلبة أواخر 1971؛ إذ كان يرى أن العنف ليس وسيلة الحوار مع الشباب، معالجة السادات لموضوع الفتنة الطائفية؛ مسألة الوحدة مع ليبيا، وكان يناصرها هيكل بقوة ويراها مختلفة عن تجربة الوحدة مع سوريا بسبب عنصر الاتصال الجغرافى والسكانى إلى جانب تكامل ثروة ليبيا السائلة مع الإمكانيات البشرية والطاقة الإنتاجية المصرية وطريقة السادات فى إجراء اتصالات خفية مع أمريكا عن طريق قناة اتصال خاصة.



فريدة الشوباشى: قيادات الجيش وثقت به لوطنيته الشديدة.. وسكينة فؤاد: فصل هيكل لفكره عن توجهه كان وسيلة تقربه من المؤسسة العسكرية

وثق هيكل علاقته بقيادات الجيش منذ دخوله عالم الصحافة فى عام 1924 بداية من محمد حيدر باشا، وزير الحربية فى عهد الملك فاروق الذى حصل منه على «يوميات حرب فلسطين».

كما اقترب هيكل بقوة من تنظيم الضباط الأحرار خاصة جمال عبدالناصر الصديق الأقرب له والمشير عبدالحكيم عامر، لدرجة وصلت إلى أن الكاتب سمير عطا الله وصفه فى أحد مقالاته بأنه المدنى الوحيد فى حركة «الضباط الأحرار».

تولى الرئيس السادات - أحد قيادات تنظيم الضباط الأحرار - ورغم توتر العلاقة بينه وبين السادات أحيانا فإنه استطاع أن يحافظ على علاقته القوية ببعض قيادات الجيش، خاصة الفريق سعد الدين الشاذلى.

ورغم ابتعاد هيكل إلى حد ما عن دائرة السياسة خلال حكم مبارك واكتفائه بتحليل الأحداث من بعيد، فإن علاقته لم تختلف كثيرا بقيادات الجيش خلال هذه الفترة ولم يحدث بينه وبين القيادات أى صدام خلال هذه الفترة.

وفى عهد الرئيس المعزول محمد مرسى تعامل هيكل مع قيادات الجيش بنفس المنطق، وبقيت هذه العلاقة بعيدة عن خلافه مع الرئيس.

وحتى بعد عزل مرسى استمرت هذه العلاقة كما هى حتى أن الفريق أول عبدالفتاح السيسى أحد من طالبوا بلقاء هيكل قبل وصوله حتى إلى منصب وزير الدفاع، حيث التقى به للمرة الأولى فى مارس 2011.

وقال هيكل إنه التقى أنه تلقى دعوة لمقابلة أحد قيادات المجلس العسكرى لم يعرف اسمه ورحب بذلك.

وتقول سكينة فؤاد الكاتبة ومستشار رئيس الجمهورية لشؤون المرأة، إن القيمة الفكرية لدى الكاتب هى الأساس فى تحديد علاقاته بأفراد السلطة بالنظام، وهذا ما نجح به هيكل رغم ما شاب علاقاته مع قيادات الجيش من صعود وهبوط، لكنه نجح فى فصل فكره عن توجهه السياسى.

وتابعت فؤاد: «يؤكد هذا على ما يمتلكه هيكل من قيمة فكرية ورؤية جيدة للأمور والتعامل معها بموضوعية بعيدا عن الانحياز السياسى».

وأكدت فؤاد أن العصر الوحيد الذى مال فيه هيكل تجاه النظام كان عصر الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بحكم علاقته به، مما حمله مسؤولية كبيرة بين الفصل بين كونه مفكرا وأنه واحد من أفراد النظام.

وأشارت فؤاد إلى أن عدم انصهار هيكل بعد ذلك فى أى نظام وتمسكه بكونه مفكرا فقط، هو ما حافظ على علاقته بقيادات الجيش.

وقال حلمى النمنم، رئيس مجلس إدارة دار الهلال الصحفية، إن علاقة هيكل بالجيش تمتد إلى ما قبل نظام عبدالناصر، عندما كان ضابطا للجيش وتعرف على ناصر، وكان صديقه الوفى، واستمرت هذه العلاقة بشكل جيد بعد وفاة ناصر وبقى هيكل على صلة وطيدة بقيادات المؤسسة العسكرية.

ويرى النمنم أن هذه العلاقة بنيت على فهم ووعى بأهمية الجيش المصرى ودوره المميز فى بناء الوعى القومى والدفاع عن المصالح الوطنية، طوال العصور الماضية، بعيدا عن أى خلاف سياسى بين الطرفين.

وأوضح النمنم أن المؤسسة العسكرية أيضا أدركت دور هيكل ككاتب ومفكر استراتيجى بعيدا عن انتمائه السياسى، ومن هنا جاء حرصه الدائم على التواصل مع المؤسسة التى نجحت فى الحفاظ على التوازن داخل المجتمع.

وقالت الكاتبة فريدة الشوباشى إن علاقات هيكل كانت جيدة بقيادات الجيش على مر التاريخ لأنه كان يفكر بموضوعية، وكان يضع حبه للوطن فى مرتبته الأولى.
وأضافت الشوباشى أن موضوعية هيكل وعدم إخفائه للحقائق ساعده على الفصل بين عمله الصحفى والسياسى مما وطد علاقاته بقيادات الجيش.

واعتبرت الشوباشى أنه من الطبيعى أن الوطنيين الذين فى الجيش يكونون على صلة وثيقة بالأستاذ هيكل قائلة أن هيكل بوصلته الرئيسية مصر وبخبرته واستقامته الوطنية استطاع أن يكسب هذه القيادات لأن كل آرائه غالبا ما تكون صحيحة، ولذلك تثق فيه هذه القيادات.

وأوضحت الشوباشى أن قيادات الجيش فى عهد رؤساء مصر منذ فترة حكم عبدالناصر هم قيادات وطنية فى المقام الأول كما أن لهم جيشا وطنيا ولاؤه للوطن فقط، لذا كانوا على صلة وثيقة بهيكل الذى كان ولاؤه للوطن فقط، والتى نجح من خلالها أن يكسب صلة القيادات ويتقرب منها.





المصدر اليوم السابع


تعليقات

المشاركات الشائعة