اللي بناها كان حلواني أزمة ذوق في مصر

لا يحتاج الإنسان لبذل مجهود كبير ليدرك كم أصبح مجتمعنا يعاني أزمة ذوق وإتيكيت ورقي‏..‏ أزمة سلوكية شاملة من فوق لتحت أخلاقياتنا أبعد ما تكون عن التحضر ونبدو كما لو أن الزمان قد عاد بنا إلي القرون الوسطي‏..‏


الصراع في مصر حاليا, ورغم أنه سياسي جدا, إلا أنه أيضا صراع عن التحضر, عن الشخصية المتحضرة, التي تجيد التعامل مع الآخرين, الشخصية التي تمتلك عقلا جميلا يجعل علاقاتها بالآخرين تتسم بالسلوك الراقي والتهذيب والنظافة والجمال شكلا ومضمونا.. الشخصية المنفتحة علي العالم المستعدة لتقبل المتغيرات والتعامل معها.. الشخصية التي لا تدين أحدا لأنه فقط يعارضها, الشخصية التي لا تكفر من يختلف معها ولا تهدد وتتوعد وتعتقد أنها وحدها الصواب والآخرون علي خطأ.
المتحضرون هم المنظمون الذين يجدون طريقة للتعايش في ظل السلم الاجتماعي.. المتحضر هو من يقبل الآخر.. المتحضر هو من يتذوق الفن, تطربه الأغاني, يقرأ الكتب ويبحث فيها, المتحضر هو المستنير, هو الذي يتذوق الجمال ويحترم أذواق الآخرين فلا يفرض ذوقه بقلة ذوق.
الشخص المتحضر هو الشخص الذي يعرف ويحدد مساحته الخاصة ومساحات الآخرين الخاصة فيحترمها ولا يتجاوزها.. هو الشخص الذي يسيطر علي غضبه ويضبط انفعالاته مع الآخرين.
هو العقلاني الذي يفكر قبل ان يتصرف, لا يستجيب وفقا لغرائزه بل وفقا لأفكاره التي كونها بمجهوده.. هو صاحب السلوك الراقي الذي يتعامل مع الآخرين بأدب وتهذيب وذوق ولا يتدخل فيما لا يعنيه دون ادعاء أو تمثيل.
زمان_مش زمان قوي_ كانت مصر لا تقل روعة وبهاء عن مدن أوروبا وكانت لغة الحوار بين الناس راقية ومهذبة, كان كل شئ جميلا ومصر كانت فعلا بهية.. كما يشهد د.هاني السبكي رئيس الجمعية المصرية للطب النفسي, فقد كانت الطبقات المتعلمة والراقية تفرض ذوقها علي الطبقات الأقل في الترتيب الاجتماعي والاقتصادي, اليوم أصبح الهرم مقلوبا, المتعلمون يتبارون في الكلام بطريقة فيلم اللمبي.. علاقات الناس اليوم متوترة وعنيفة, أغلبنا فقد البوصلة التي تحركه اجتماعيا ولم نعد نعرف الطريقة التي يفترض أن نتصرف بها مع الآخرين.. الإعلام والدراما يتحمل- من وجهة نظر أستاذ الطب النفسي- جانبا كبيرا من الأزمة التي نعيشها, فالرسائل التي تصل للمشاهد منه تترك أثرا لا ينمحي, أنه التلويث الوجداني الكامل.. عندما يختلط الجمال بالقبح ويعلو صوت الفجاجة والسوقية.. إنها أزمة ذوق عامة أو أزمة عدم تحضر.. حالة من القبح العام تواجه الأبصار في شوارع العاصمة القاهرة, بداية من اختفاء الطابع المعماري المميز ومرورا بلوحات الإعلانات والملصقات وعمليات ترقيع الميادين بصورة عشوائية, وانتهاء بالحالة المتردية بسبب إهمال النظافة أسفل الكباري وفي الشوارع.
من الإعلام تصلنا رسائل ضمنية تؤثر فينا حتي لو رفضناها.. بفعل الإلحاح نعتاد حتي الصوت القبيح والمسلسل القبيح والمذيع القبيح!
كيف يمكن للإنسان في هذا المناخ أن يكتسب الشخصية المتحضرة؟ كيف يمكن أن يتعامل برقي أو يربي أطفالا في مناخ راق؟
نحن لا نولد متحضرين وشخصية الإنسان لا يولد بها بل يكتسبها من حصيلة تجاربه ومن تنشئته ومن البيئة المحيطة والمجتمع الذي يعيش فيه, لا أحد يولد مهذبا أو متحضرا بل يتعلم أن يصبح كذلك, فكيف نكون متحضرين في مجتمع ينحدر كل يوم ويسقط إلي القاع أكثر؟
والسؤال الآن لماذا أصبحنا بهذه الفظاظة؟!
البعض يقول إنها أخلاقيات الزحام, ففيه يفقد الإنسان خصوصيته ويصبح أنانيا عنيفا, مع نقص الموارد يتحول الأمر إلي غابة بشرية كل واحد فيها يبحث عن مصلحته, والشعار اخطف واجري..
لكن هذا التفسير ليس مقبولا علي علاته ودون مراجعة, فالصين تعدادها أكثر من6 مليارات, لديها أمراضها بالتأكيد, لكنها لا تعاني الأمراض الاجتماعية التي نعانيها.
البعض الآخر يقول إنها النظم الاستبدادية التي قهرت الإنسان ودمرت فرديته,
وآخرون يميلون إلي نظرية التفسيرات الجينية والقابلية للاستعباد والتخلف الفكري..
بعض التفسيرات تحدثت عن سيكولوجية القهر وتنظر لما حدث في مصر علي أنه خروج الشعب المقهور للحرية فكانت الفوضي..
هذا لا يفسر لماذا كنا نعاني نفس الأمراض قبل ثورة25 يناير لم يكن مجتمعنا يوتوبيا بل كانت نفس الأزمة..
في أفلام الأبيض والأسود لا تبهرنا فقط الفساتين والأناقة البادية والنظافة لكن تبهرنا أيضا لغة الحوار الراقية واحترام الأصول وتقدير الإنسان.. في ذلك الزمان كان المصريون يتحدثون لبعضهم البعض بطريقة مؤدبة ومهذبة رصدتها د.هدي زكريا أستاذ علم الاجتماع بجامعة الزقازيق في دراستها أصول الدبلوماسية الشعبية فكتبت تقول: لأن الذي بناها كان في الأصل حلواني, فقد جاء استخدام المصريين للغة الحوار والتواصل مع الناس إبداعا متجددا لم يرتق لمستواه شعب آخر, فتحول الكلام علي ألسنتهم إلي كائن حي يتنفسنبلا ورقة ويغذيه عقلا جمعيا بشهد الألفاظ النقية المقطرة والموزونة بميزان الذهب.
ولقد اعتاد المصريون أن يمارسوا إبداعهم اللغوي في أثناء ممارستهم للأعمال الشاقة, في مراكب الصيد والزراعة في الحقول, وفي أثناء صهر الحديد بالورش الصغيرة, والمقايضة بالأسواق, وحمل أحجار البناء علي الكتف المجهد, فأفرزت مشقتهم شهد التعبير وسلمته الذاكرة الجمعية لنساء مصر اللاتي أرضعنها للأجيال مع اللبن وحب الوطن.
فعند الدعوة للزيارة يقال إمتي تنورونا في البيت ويرد المدعونيجي نبارك في الفرح والهنا, وعند زيارة الأحبة للمنزل خطوة عزيزة وإن لم تحملهم الأرض تشيلهم عنينا وهم يردون علي الترحيب الحار بكلمات أكثر رقة, تسبقها الدعوات الطيبة والبسملة بسم الله ماشاء الله ويرد المضيف داعيا للضيف تسمي علي الكعبة كناية عن تحقيق أمنية الحج لبيت الله الحرام.
ويقدم المصريون الحب قبل الطعام بمنطق من حبنا حبيناه وصار متاعنا متاعه, ويدعون لآكل طعامهم بالهناء والشفاء مطرح ما يسري يمري, ويدعو لهم الضيف بأن يدوم العز والخير كما يتمني لمضيفه أن يكون طعامه للمناسبات المبهجة عقبال ما ناكل يوم فرح ولدك أو عند رجوعك من الحج أونجاح ابنتك. ولأن أجواء الحوار تكون غاية في الحساسية والنقاء فلا يذكر فيها إسم عزيز إلا وقد سبقته دعوات تحفظه من كل سوء فيقولون الدلعدي فلانة أو( الدعا برة فلان) وهي تعبيرات شديدة التعقيد تهدف للتحوط من أن يتزامن نطق الاسم مع انطلاق دعوة بسوء علي شخص آخر, فيخشي الناطق بالاسم من النطق بالاسم مجردا, لذا يحرص علي تغليف الاسم العزيز بدعوات تدفع عنه الدعوة الشريرة, ويقال لتمييز الاسم العزيز اسم الله علي الأسامي فلان.
وإذا كان الحوار سيتناول الشكوي من الهموم التي يبثها المتحدث لسامعه, يبدي حرصه البالغ علي ألا يتأثر السامع بأجواء الكآبة التي تسود حديث الشاكي, فيقول بعيد عنكم الشر عندي مشكلة كبيرة.
ويصل الأمر بالمصري إلي ابتكار( فلتر) للكلمات السيئة والتي لاسبيل إلي تفادي النطق بها, كالإبلاغ عن حوادث المرض والموت والكوارث بصفة عامة, فعند الإبلاغ عن مرض ألم بصديق يكني عن كلمة المرض بعكسها فيقال( فلان بعافية شوية) وعند الإبلاغ بالموت يقال فلان تعيش أنت..
أين ذهب كل ذلك؟ وكيف نرتقي بالإنسان ليعود متحضرا راقيا جميلا كما كان؟
أساتذة الجمال يقولون إن أزمة الإنسان المصري بدأت منذ أن فقد تذوقه الفن ووعيه بالجمال, وأن العين عندما تعتاد القبح ولا تري فيه عيبا فإن النفس تصبح غير مبدعة, عدائية, تتصرف مثل الآخرين بلا ابتكار, بلا تجويد, بلا رغبة في تحسين البيئة المحيطة بها.
وبالنسبة للدكتور حسين علي أستاذ فلسفة الجمال بجامعة عين شمس, فقد حان الوقت لنكون أكثر صراحة مع أنفسنا, ويجب ألا نغالط أنفسنا أكثر من اللازم كما تعودنا علي ذلك, يجب أن نعرف منذ البداية أن تدهور الذوق والسلوك العام لدينا أصبح ظاهرة مؤسفة تلوكها ألسنتنا وتترجمها حركاتنا, والأكيد أن تدهور الذوق والسلوك العام مرتبط بهبوط تذوق آخر أكمل وأشمل وهو التذوق الفني في حياتنا, وأذواق الناس تعرف من خلال ما يشاهدون ويسمعون ويقرأون من الفنون.
التذوق الفني معناه الإحساس بالجمال وبالتالي الإحساس بالإنسان والإحساس بالراحة النفسية التي يمكن ألا تعرف مصدرها ولكن تحس بها.
هذا الإحساس ينعكس علي كل تصرفاتنا وأقوالنا وأفعالنا لتزيدها بدورها دلائل الجمال, والتناغم من حولنا ينعكس مرة أخري علي إحساسنا أكثر شدة وأشد جذبا وأبعد عمقا.



المصدر الاهرام



تعليقات

المشاركات الشائعة