«سفيرة النجوم» تعبر بوابة الثمانين على مقام الدهشة الإبداعية فيروز ملاك الغناء الثائر

إذن إنه صوت دافئ قادر على صنع النشوة التى لاتنتهى ، شجى ومغرد فيه من لبنان الأخضر ربيعه وجماله، وبه عذوبة وبكارة ونضارة ، على إيقاع خطى القرية، ورقصة الفرح، وشعاعات القمر السكرى فى قلب الليل،
 يتهادى إليك فى خيلاء، عذبا، رخيما، معبرا، ذكيا، ومرنا وجذابا وطبيعيا ، وعلى جناح ذلك الذكاء الحاد تقدر فيروز على استعمال صوتها لتفسر به الأحاسيس والعواطف ، فضلا عن نجاحها فى كل ألوان الغناء العربى قديمه وحديثه ، إلى جانب الموشحات والقصائد والأغانى الحديثة الراقصة.
كما أن صوت فيروز ينقل للقلب صور الفرح والسعادة والحزن واللوعة والحنان والأسى، والسحر، تماما كما يفجر فى القلب الحنان والعاطفة ، و فى الوقت ذاته يثير فى الإنسان الخشوع ، ويتعامل مع منطقة راقية من إحساس الإنسان ، لكنه لايثير فى الإنسان نفسه الإحساس بالجنس، كما لايذكره بالرغبات البشرية الأرضية، كالجوع إلى الطعام أو اللحم ، بل يمزج الحب بالعاطفة .. بالصداقة .. بالخير .. بالكلمة الحلوة .. بالشكر .. بالموسيقى بصورة جميلة رآها .. بمشهد ما أعجبه .. بعبارة غرام رائعة .. بعينين جميلتين .. بوردة حمراء .. بالقمر بدرا بعد غياب طويل.

تعالوا معى نغوص فى قلب هذا العالم السحرى الآسر لفنانة لبنان الأكثر بريقا "فيروز"، وهى تعبر من بوابة الثمانين فى عمرها فى "زمن التيه الموسيقي" من حياة العرب ، ونرصد كيف أنه رغم سنوات البعد عن خشبات مسرحها الخجول، يظل ألقها وبريقها قادرا على خطف أسماع بنى أمتها وإحداث متعة لا تضاهى.

اكتشاف محمد فليفل

نهاد حداد، وهو اسم فيروز الأصلي، ولدت لأسرة متواضعة فى إحدى القرى اللبنانية عام 1935، وانتقلت وهى طفلة مع أسرتها إلى بيروت، لتلتحق بالمدرسة حيث مارست أداء التراتيل والغناء فى المناسبات المدرسية من خلال الأغانى المصرية التى ذاعت فى ذلك الوقت، خاصة لليلى مراد وأسمهان، وفى أواخر الأربعينات اكتشفها الفنان الموسيقى محمد فليفل، وهو أحد مؤسسى "معهد الكونسرفتوار اللبناني" حين كان يجوب المدارس بحثا عن مواهب يقدمها لكورس الإذاعة اللبنانية، والذى تعهدها بالعناية والتدريب، ودعاها للغناء عبر الإذاعة مع مجموعة من الصغار، ثم عمل على إلحاقها بمعهد الموسيقى الكونسرفتوار؟

كان محمد فليفل يؤمن بقوة المدرسة التدريبية المصرية التى أفرزت مواهب مثل "عبد الوهاب وأم كلثوم"، وهى تلاوة وتجويد القرآن الكريم فعلمها كيفيات النطق والتجويد والمقامات، فاكتسبت فيروز مهارات ساعدتها بعد ذلك على تذوق اللغة العربية، وأداء القصائد والموشحات وتمكنت من المقامات الشرقية، وربما كان ذلك من أهم ما مهد لصعود فيروز إلى قمة الغناء فى العالم العربي.



أول أغانيها

كانت أول أغنياتها، من ألحان رئيس القسم الموسيقى فى ذاك الزمان الملحن ـ المطرب حليم الرومي، وهو الذى منحها اسمها الفني، قبل أن يقدمها إلى الفنان "الشاب" عاصى الرحبانى الذى أطلقها إلى عالم النجومية عام 1952، حيث كانت الأغانى التى غنتها فى ذلك الوقت تجد طريقها سريعا إلى إذاعتى سوريا ولبنان، حيث انتشر اسمها، واسم الأخوين عاصى ومنصور الرحباني، كالنار فى الهشيم، عبر ألوان موسيقاهم الجديدة، وفى عام 1955، تزوجت فيروز من عاصي، وأنجبت منه "زياد" عام 1956، ثم"هالي" 1958 ، وهو مقعد ـ ثم "ليال" 1960 (توفيت عام 1988) وأخيرا "ريما"1965.

مع الأخوين "عاصى ومنصور" ، قدمت "فيروز" مئات من الأغانى التى أحدثت ثورة فى الموسيقى العربية، لتميزها بقصر المدة الزمنية والتصاقها بقوة المضمون، على عكس الأغانى العربية التى كانت سائدة فى ذاك الزمان، والتى كانت تفاخر بطولها، إضافة إلى أن "الغناء الجديد" آنذاك ـ إذا جاز التعبير ـ كان نشيطاً فى تعبيره، وفى عمق الفكرة الموسيقية، مع التنوع فى المواضيع التى تناولها، حيث تضمن توجه هذا الغناء للحب، وللأطفال، وللوطنية (خصوصا لفلسطين) وللحزن، والفرح، والأم، والوطن، وعدد كبير من هذا التوجه الغنائى قدم ضمن الكثير من المسرحيات التى ألفها ولحنها الأخوان رحباني، ووصل عددها الى أكثر من (15) عملا مسرحيا تنوعت مواضيعها بين النقد السياسى والاجتماعي، وتمجيد الشعب والبطولة والتاريخ العريق، والحب على تنوعه.



الخمسينيات .. بداية الحلم

لمع نجم فيروز، قى بداية الخمسينيات من القرن الماضي، وارتفعت الأصوات تطالبها بالخروج من استوديوات الاذاعة الى خشبات المسارح، لكن الفنانة الصبية، ظلت "نجمة الاذاعات" كما وصفتها مجلة "الاثنين" المصرية عام 1953، بحيث لم تغن أمام الجمهور، سوى عبر إطلالات خجولة، لا يعرف الجيل السابق عنها الكثير!

وعن أول لقاء للرحابنية مع فيروز، قال عاصي، فى حديث صحفى له مع مجلة "أهل الفن" اللبنانية (تموز/ يوليو 1955) : كنت أقوم باعداد برامج موسيقية ـ غنائية للإذاعة اللبنانية، وذات يوم دعانى زميلى الفنان حليم الرومي، وكان يشغل مركز رئيس القسم الموسيقى بالوكالة، للاستماع إلى صوت جديد، فرأيت فتاة صغيرة تحمل كتابا ومعها والدها، كما استمعت إلى صوتها الذى وصفته بـ"لا بأس"، إلا أننى آمنت أن هذه الصبية تصلح للغناء، بينما رأى أخى "منصور" كان مخالفا لرأيي، وهو عبر عنه بالقول "لا تصلح على الإطلاق للغناء الراقص"! ورغم ذلك بدأت أعلمها، فكانت فى المحصلة أحسن من غنى هذا اللون (الغناء الراقص).

وبحسب هذه الرواية، فإن أول أغنية رحبانية لفيروز كانت بعنوان "غروب"، وهى قصيدة للشاعر "قبلان مكرزل"، وتبعتها سلسلة طويلة من الاغانى واللوحات الغنائية توزعت على ثلاث إذاعات: "اللبنانية، والشرق الادنى، والسورية".

ومما يروى، أيضا فى هذا الصدد، أن المطرب المصرى عبد العزيز محمود - كان ذائع الصيت ونجما سينمائيا مرغوبا - مرّ فى بيروت، وعرض على فيروز العمل فى السينما، فاعتذرت قائلة : "بعدين لما أكبر"، ومن المفارقات أيضا أن نجم الشاشة المصرية الأول فى ذاك الزمان "أنور وجدي" جاء إلى بيروت بحثا عن فيروز، لكن المطربة الصبية الخجولة كانت منشغلة بدروسها، وبالتالي، لم تتح لها فرصة لقاء النجم ـ المنتج المغامر!



لبنان يا أخضر حلو

خرجت فيروز من استوديوات الاذاعة إلى فضاء الغناء المسرحى الحي، فى صيف 1957، يوم وقفت، لأول مرة، على أدراج بعلبك من فوق خشبة مسرح "جيوبتر" ، وغنت"لبنان يا أخضر حلو" التى تقول فيها :

أنا شمعة على دراجك

أنا نقطة زيت بسراجك

كان ذلك فى مهرجان الفن الشعبى اللبنانى الأول الذى أسس فيما بعد، لمهرجانات بعلبك الدولية، غير أن السنوات التى سبقت هذا الظهور المسرحى للمطربة فيروز تكشف عن إطلالات قليلة ونادرة سابقة باتت اليوم شبه منسية ومجهولة، وهو ما يؤكده المؤرخ  الفنى السورى الكبير "جان الكسان" فى كتابه "الرحبانيون وفيروز، نقلا عن مدير إذاعة دمشق فى ذاك الزمان "أحمد عسة" الذى كان له دور كبير فى احتضان فن الأخوين عاصى ومنصور وإطلاقه من الاذاعة السورية.

ويضيف الكسان: كانت الصبية فيروز صوتا من غير صورة، تتهيب الظهور أمام الناس، ولو فى غرفة مقفلة، وترتجف كورقة عريش فى مهب الريح، ولأن موجة الشباب فى سوريا قد أنست لصوتها، وأحبته، قمنا - والحديث على لسان مدير إذاعة دمشق أحمد عسة - بمحاولة لإظهارها على المسرح للمرة الأولى، وكم كانت المحاولة شاقة، هناك حفل لطالبات "دوحة الأدب" تخصصت فى تبنى "رقصة السماح" فى نادى الضباط، وكان هناك إصرار على ظهور فيروز، المطربة الخجولة، لكننا تغلبنا على كل المصاعب، بعدما افهمناها أنها "ستحافظ على شخصيتها" وستحاط بمجموعة من بنات العائلات، وستكون جزءا من كل، لا وحيدة وسط الأضواء، وفى هذا الجو المدرسى وبـ"التنورة والبلوزة" اللتين أصرت على ارتدائهما فى تلك الحفلة والاستغناء عن أى فستان آخر، ولدت "فيروز المسرح" بعد "فيروز الميكروفون".

الاسكتش لون جديد

بعد انتكاسة المسرح الغنائى بعد موت سيد درويش لم يعد هناك فى الوطن العربى سوى الأغنية لتعبر عن طاقات الإنسان الصوتية وانفعالاته ومشاعره ، وفى لبنان كان الأمر كذلك، وفى البداية فكر الرحبنيان فى ابتداع شكل تعبيرى موسيقى غنائى جديد أسمياه الاسكتش ، بمعنى أن هناك موضوعا دراميا متكاملا له عقدة وبداية ونهاية وصراع وحل يقع فى حوالى نصف ساعة ، فى ذات الوقت الذى اهتما فيه بتطوير الغناء البلدى ، أى الغناء الذى يسرى بين طوائف الشعب ، ولقيا فى ذلك نجاحا ملحوظا .

بل لقد وضع الرحابنة بأسلوبهم اللحنى الفريد ألوانا من الموسيقى التى ميزت بلاشك طريقة الرقص اللبناني، بحيث تتماشى مع الدبكة اللبنانية الرقصة المشهورة، وغنت فيروز ألحانا قريبة من ذلك النوع ، ولكن لايمكن أن توصف بأنها راقصة فحسب، بل يمكن أن توصف بأنها رحبانية تستخدم الأسلوب العلمى فى التأليف والتوزيع وتؤدى عليها فيروز بصوتها الكلمات التى كتبها الأخوان رحباني، والشعراء " سعيد عقل  عبد الله الخورى  ميشيل طراد  نزار قبانى  بدوى الجبل  قبلان مكرزل  عمر أبو ريشة  صلاح لبكى  إلياس أبو شبكة  أسعد سابا  بولس سلامة - ميخائيل نعيمة  جبران خليل جبران  إيليا أبو ماضى  هارون هاشم رشيد ، والشاعر الغنائى المصرى مرسى جميل عزيز"، كما غنت فيروز أيضا من شعر الشعراء القدامى مثل " ابن دريق البغدادى وابن جبير".



الاهتمام بالتراث العربي

وفى إطار الاهتمام من جانب الأخوين رحبانى بالتراث العربى عامة واللبنانى خاصة، هذا الاهتمام الذى يتضح فى بعث وإحياء جزء كبير من الموشحات الأندلسية وإعادة توزيع موسيقاها العربية توزيعا جديدا مثل "يامن يحن إليك فؤادى ، لملمت ذكرى لقاء الأمس بالهدب" وأيضا إعادة توزيع موسيقى  خالد الذكر  سيد درويش " زورونى كل سنة مرة و طلعت يا محلا نورها" ، وكذلك إعادة توزيع وغناء ألحان محمد عبد الوهاب " ياجارة الوادى  خايف أقول اللى فى قلبي" ، ولعل هذا الاهتمام بتجديد شباب هذه الألحان هو نوع من وصل للجديد بالقديم ، وتطوير للقديم بإضافات ثرية ، وتخيل عصرى لهذه الألحان والأعمال الموسيقية صاحبة الأثر الأكبر فى نفوس الجماهير العربية، وفى هذا اللون ظلت فيروز تغني، حتى إنها كانت عندما تغنى يقف الجبل وينور فى كل مكان صوتها، حيث يرتدى أثوابا من الشفافية والخيال والحب يصنعها هذا الصوت الواصل مابين الأرض والسماء ، بينما يعيش الناس فى صوتها أحلاما حلوة وأوقاتا جميلة ويسبحون فى عالم من الأحلام السعيدة الناعمة ، وفوق كل ذلك يبقى لصوت فيروز القدرة على أن يغسل الأحزان.



زياد طور ألحانها

بعد رحيل الزوج عاصى فى العام 1986، خاضت فيروز تجارب عديدة مع مجموعة من الملحنين والشعراء من أبرزهم: فيلمون وهبى وزكى ناصيف، إلا أنها عملت بشكل أساسى مع ابنها الفنان زياد الرحبانى الذى منحها مجموعة كبيرة من الأعمال الغنائية المتطورة لحنا وكلاما وتوزيعا موسيقيا، أبرزت موهبته وقدرته على خلق نمط موسيقى خاص به ويرتكز فى الوقت ذاته، على الأصول الموسيقية العربية والعالمية، وبدورها أعطت للمطربة فيروز دفعا شبابيا متجددا، أخرجها من "روتين" غناء استمرت تقدمه على مدى سنوات، وإن كان ناجحا!، وقد أصدرت فى المرحلة التى تلت رحيل الزوج الفنان الكبير، العديد من الألبومات، من أبرزها: "فيروز فى بيت الدين 2000" (كان تسجيلا حيا من مجموعة حفلات أقامتها فيروز بمصاحبة زياد، وأوركسترا تضم عازفين محليين وعالميين، وألبوم "كيفك انت"، وهذا من الألبومان شكلا البداية لسلسلة حفلات محلية وعربية وغربية حظيت بنجاح كبير، لما احتوته من جديد على صعيد التنوّع، والتوزيع الموسيقي، ومن تقديم لفن غنائى معروف، وآخر حديث متطور.

أنوثة راقية ونظيفة

إن المتتبع لفن الغناء المصرى حين يرهف السمع يلمح وجوه شبه كثيرة بين الكلمات والألحان، وحتى طريقة الأداء الفنى عند كثير من المغنيين والأصوات فيما عدا أم كلثوم التى تتميز بحلاوة صوتها وقوته وطول نفسها وقدرتها على الغناء ساعات متواصلة ، إلا أنه عندما يرهف السمع فى لبنان سوف يجد شيئا خاصا ومميزا ومختلفا عن كثير مما سمع من قبل، ذلك الشىء هو الأغنية الفيروزية الرحبانية التى تتحدد أهم ملامحها فيما يلى :

إذا عرفنا أن الأغنية، أية أغنية ليست أكثر من كلمات ولحن يكسو هذه الكلمات، وصوت ينقل الكلمات واللحن بنغم خاص إلى آذان الناس ، وتتبعنا العناصر الثلاثة فى أغنية " فيروز- رحباني" لوجدنا أن فيروز كصوت هى بالدرجة الأولى نبع صاف ملىء بالإحساس..الإحساس بالموسيقى .. الإحساس بالكلمة المؤداة .. تغطيها كثير من الألوان والظلال ..تشدو لتضعها فى قلب الناس من الأذن والقلب والعقل والضمير والوجدان، وهنا يذهب إلى أن صوت فيروز ذو أعماق تضرب فى التاريخ الإنساني، صوت له مذاق خاص، جماله المتميز يكمن فى أنوثته الراقية النظيفة والملائكية، صوت فيروز يؤدى كل الألحان فى يسر وسهولة ولين وغنى.

والملمح الثانى فى أغنية "فيروز  رحباني" بحسب "فؤاد بدوي" ، هو الألحان، والسمة الأولى فى موسيقى رحبانى هى البساطة الشديدة والاتساق والتناسق والتناغم واتباع الأسلوب العلمى ، هى إذا سهولة ممتنعة ، النغمة تعمق وتؤدى بكثير من الآلات وتوزع بينها، وأحيانا صوت فيروز يبدو لك كآلة موسيقية فريدة لتحدث أثرها المرجو والكبير والخطير فى النفس، موسيقى شجية ورقراقة ، تروى أعماق النفس.

وقد استطاع "الأخوان رحباني" اللذان ورثا موهبة واستعدادا فطريا كبيرا، ومرا بمراحل دراسية فنية تعرفا فيها على أنغام العصر والموسيقى العالمية والموسيقى الشرقية بعد أن تشربا بموسيقى الكنيسة، استطاعا أن يحدثا ذلك التزاوج العجيب بين النغمة الشرقية الحقيقية "الفلكلور أو المؤلفة" وبين أحدث شكل للتوزيع الموسيقى فى العالم ,



الإنسان فى أغانيها

دوما أغنيات "فيروز ورحباني" تبدو كاللوحة ، كالصورة الأنيقة ، تبين كوعاء أنيق ملىء بالموسيقى ، مشحون بالفن والعاطفة ، نابض بالشعر والإحساس والخيال، والأغنية موقف، ولعل أغنية "ياريت" ، وهى أجمل وأروع وأقصر أغنية حب ، ولها موقف كبير ، أغنية لا تأخذ أكثر من دقيقتين ونصف من الزمن ، ومع ذلك تنقل للإنسان فى هذا الوقت القصير حبا كبيرا ودفئا ونورا ورغبة ، بحسب قول فؤاد بدوي.

لكنى ألمح هنا من خلال تعرضى بالسماع والتحليل للعديد من أغنيات الرائعة فيروز، أن الإنسان هو حجر الزاوية فى أغانى فيروز ، فكلمات أغنياتها تحب الإنسان ، وتوقظ الإنسان ولا تخدره ، تدفع الإنسان للأمام وإلى العلا وتحييه وتحيى العمل والنضال كما فى " الزراعيين اللى بيعطوا.." و "عائدون " ، كما أن هذه الكلمات المليئة بالإنسانية والشعر ورهافة الحس والخيال، هى عارفة أيضا بالفرح وتعبر عنه، وتعكس طبيعة لبنان الأخضر الرائعة.

ثمة شئ آخر أضيفه إلى ملامح أغنيات فيروز رحبانى ، ذلك الاهتمام الكبير إلى جوار تقديم أغنيات فردية نادرة ممتازة ، الاهتمام بتقديم الصورة الغنائية التى يشترك فى أدائها وتصويرها عديد من الأصوات ، فيروز وغيرها من الأصوات النسائية ، ووديع الصافى أو نصرى شمس الدين، وغيرهما من أصوات الرجال.

هذه الصورة الغنائية يحس فيها الرائى والمستمع بالجماعة ، ويرى القصة ، الدراما، التطور، الموسيقى التى تعبر ، وليست ألحانا خفيفة لأغنيات فردية، بل موسيقى تصور تعبر بصدق وواقعية ، وهذا فى الحقيقة يجعلنا واثقين من أن الأغنية الفردية التى تألقت فى مصر على يد أساطين الطرب " ألمظ  عبده الحامولى  محمد عثمان  منيرة المهدية" كانت قد تطورت إلى لبنات فى المسرح الغنائى الذى رفع لواءه سلامة حجازي، والذى سار به إلى الأمام سيد درويش العظيم ، الذى حمل الراية وسار يبعث من قلبه فى موسيقاه ألحانا تحيا فى قلوب الناس فى مصر وفى لبنان وفى المنطقة العربية بأثرها، يسمعه الرحبانى الكبير ويغنى ألحانه ، ثم يعرف "عاصى ومنصور" أهمية أن يكتبا للناس مسرحا غنائيا، فتكون اسكتشات " الليل والقنديل  جسر القمر  بياع الخواتم  أيام فخر الدين ، وغيرهم.

ومن هنا أستطيع أن أؤكد أن الرحبانيين، شاعرون وموسيقيون يخطوان بالأغنية إلى المسرح الغنائى منطلقين من سيد درويش موسيقى وأفكارا ، مستفيدين فى الطريق بكل فنون الفنون ، من الشعر والدراما والتصوير والموسيقى العالمية ، وحتما من صوت فيروز القادر على التصوير والتجسيد الحي، كما غنت بعد ذلك لمكة .. للبنان .. لحلب .. لربع فلسطين .. لشط الاسكندرية .. لورد الربيع .. لنيسان .. للود ... للمشمش .. للطير .. وللعاصفير .. للنسيم .. لأسطح الدور .. للفجر والسهر والشمس والريح والصخرة والانتظار ، والضيعة هى دنيا المعيشة والحب والليل والسهر تدعو لها بالعز فهى أرض اللوز والتفاح وهى تلال الصنوبر وهى نهر كوثر، وهى قناطر مرمر ، وهى الخيمة والأرض ، والموعد والمواويل التى تنشدها فيروز أحيانا فى بدء أغنياتها قصائد قصيرة مكتوبة بالعامية اللبنانية الآسرة والأخاذة ترسم بسرعة ماهرة موقفا محددا مشحونا ومثيرا. لحال البشر والأرض والشجر.

أجمل ماغنت

من قمم الكلمات الرحبانية التى شدت بها فيروز من وجهة نظرى ثلاث ، أولاها " غنيت مكة" ، والثانية "آلام السيد المسيح ، والثالثة " الجمعة الحزينة"، ولعلها فى الأولى عندما تصحبك بحنو بالغ وروحانية شفافة إلى مقطع :

ياقارئ القرآن صلى له

أهلى هنا وطيب البيدا

لو رماله هتفت لمبدعها

شجوا .. لكنت لشجوها عودا

حتما ستشعر معى بصفاء روحى منقطع النظير، مع ارتعاشات صوت طالما اتسم بالخشوع، والخضوع للملكوت الأعلى، وعلى أنها لم تذهب إلى مكة المكرمة بجسدها، إلا جمال صوتها العذب وقدرتها الفائقة على التعبير عن تلك الأجواء الروحانية، فهى تقدر أن تطوف بك سبعة أشواط حول الكعبة، بينما تنتابك قشعريرة وتلهمك سكينة وهدوء لم تعهده من قبل بين ثنايا الموسيقى.

وفى الثانية والثالثة معا يأتيك صوتها الأسطورى حاملا سحرا يبدو أنه لا أرق ولا أحن ولا أعمق تأثيرا فى النفس إلا آلام السيد المسيح، والجمعة الحزينة ، هذه الترتيلة التى تعيد للذهن كل روعة موسيقى الكنيسة والعالم الروحانى العالى ، يعيش فى القلب مع هذ الأنغام والكلمات ، خاصة عندما يعلو صوتها الملائكى بنغماته الحزينة مرددة :

يا أبتاه لماذا تركتنى بوجعي

خنقتنى الحسرات وتمزقت أضلعى

وللأرض المعطاء وللشمس تغنى فيروز للزيتون غصن سلام ومحصول ، وللقمح سنبلات وغذاء ، للمزارع ، للكروم ، للقطن الذى تصفه الكلمات بأنه ثلج من صنع الأيدى البشرية القوية ، والذى يشبه أيضا الحمامات البيضاء ، وبماذا يقابل الريح ؟ بالرقص القوى والأغنية المليحة لأن الريح سوف تحمل السحاب الذى يزيح المطر فتزيد الخيرات، وبعدما يمضى المطر يلعب البنات والأولاد بنور الربيع وتجميد العناقيد، هى إذن صورة كاملة للقرية ، العمل والمرح والجنى والحصاد كما فى "عم بتضوى الشمس"



جبران حالة خاصة

ربما كان صوت فيروز هو الوحيد الأقدر على التعبير عما يجيش بصدر الشاعر الرقيق جبران خليل جبران ، فعلى تنوع أغراض الشعر فى أعماله الكبرى، فقد جاءت الألحان مختلفة باختلاف المدرسة الموسيقية التى يمثلها عدد من الملحنين الكبار، ولذا اختلفت طريقة أداء كل أغنية عن غيرها، كما عبر عن ذلك "على كمونة" فى كتابه "فيروز وقوميتنا الموسيقية" لكن يبدو أداء فيروز على وتيرة واحدة فى تجسيد معاناة الشعر، جراء ذلك التشابه بين فيروز وجبران فى نواح متعددة جعلتها خير ناطق بأشعاره، نظرا لأن كليهما ينتمى لريف لبنان، ويتغنى بالطبيعة والحنين للوطن ، ومن ثم يغلب الأسى والحزن على معظم أعمالهما، كما كان الخجل والانطواء سمتين أساسيتين فى شخصية كل منهما مما انعكس على أعمالهما الفنية.

ولقد أسرف كل من فيروز وجبران فى الرومانسية حتى بلغ الغاية ، وفاضت حنجرتهما بالشجن المحبب، كما سالت دموعه بين سطوره ، واتصف كل منهما بالتسامح ، مما بدا جليا فى أعمال كل منهما حتى نالت فيروز جائزة دولية فى " التسامح " ، وقد قالت يوما فى حديث صحفى : السؤال الذى لا أجد له إجابة هو : "ليش الشر موجود"

ومن هذا المنطلق ظل كل من فيروز وجبران يدعوان بفنهما الجميل إلى الحب الطاهر العفيف ، ولعل فى قصيدة (فى ظلام الليل) تتجلى قيمة جبران كمصلح اجتماعى وواعظ فلم يكن شاعرا وأديبا ورساما غنت له فيروز هذه القصيدة التى تفيض بتلك المعانى الإنسانية الوطنية ونبذ الطائفية كما جاءت بلحن لزكى ناصيف بلغ القمة، وكأن جبران يرى ما يحدث للبنان الآن ، وهو الذى شهد وطنه أحداثا طائفية دامية فى أربعينيات وخمسينيات القرن التاسع عشر، قبل مولده بسنوات " ولد 1883" ، لذا جاءت القصيدة تعبيرا عن موقف فيروز من الطائفية طوال سنوات الحرب ، وهو ذات موقف الرحبانية الذى انتقده البعض  فهى مع ما يوحد ويجمع ، لا مع من يفرق ، لذا غنت لجبران:

الويل لأمة كثرت فيها طوائفها وقل فيها الدين

والويل لأمة تلبس مما لاتنسج وتشرب مما لا تعصر

والويل لأمة مقسمة وكل ينادى أنا أمة

الويل الويل لها

يابنى أمى الحق الحق أقول لكم :

وطنى يأبى السلاسل / وطنى أرض السنابل

وطنى الفلاحون / وطنى الكرامون

وطنى البناؤون / والغار والزيتون

وطنى هو الإنسان / وطنى لبنان

وعلى قدر شفافية جبران وصوت فيروز تبدو القصيدة صالحة لكل بلد عربى فى هذا الوقت العصيب ، أليس كذلك؟



رمز وطنى للبنان

على أية حال، طوال العقود الماضية، استطاعت فيروز بفنها الراقى أن توحد اللبنانيين حولها فى ذروة انقساماتهم الطائفية، وصراعاتهم المذهبية، لكن حب السيدة فيروز للسيد حسن نصر الله ربما أسقطها - بعض الوقت - فى وحول السياسة اللبنانية، عبر تعرّضها  للأسف - لحملات تخوين بلغت حد إعلان وفاتها كرمز وطنى للبنان، إلا أن حب اللبنانيين لفيروز يفوق كرههم لبعضهم البعض فى السياسة، مما جعلهم جميعاً يشاركونها العام الماضى فى إطفاء شمعتها الـ78، واليوم يرقبونها عن كثب وهى تخطو نحو عتبة الثمانين بذات المذاق الغض الندى وعلى مقام الدهشة لأغانيها التى تسكن الذاكرة العربية كلها، بمزيج من الحب والحزن والحنين، مرفوعة الرأس فى سعيها نحو آفاق الحرية، فى لحظة جديدة فارقة من عمر وطنها لبنان وأمتها العربية التى دبت فيه من جديد نيران الفرقة والانقسام، رغم ما اعتراها من ثورات الربيع العربى المستمدة على أغلب الظن - من صفاء سريرة جبران وفيروز، التى ظلت وستظل ذلك الملاك الثائر على جناج الروح والحب والحرية.


المصدر الاهرام

تعليقات

المشاركات الشائعة