الأستاذ محمد حسنين هيكل طرح «سؤال الأزمة والمستقبل» .. هل يلحق العرب بالفرصة ويغتنمون الظرف ؟
الاخبار - اخبار مصر
محاولة واحدة ونادرة يكرر فيها التاريخ نفسه بقصد أن تستفيد من دروسه أمة بعينها من الأمم، حين يقدم لها لحظة «الفيض والجلاء» وهي اللحظة المؤهلة للانطلاق واللحاق بنداء العصر والتمدن والتحديث .
لكنها أيضا حالة واحدة ونادرة تلدغ فيها أمة العرب كالعادة من جحر واحد مرتينوثلاثا وأربعا ،رغم أن أبجديات الدين التي يتنافس علي حمل رايته المتنافسون تعلمنا منسيرة نبيه أن المؤمن الحق لا يلدغ من جحر واحد مرتين!
نحن ـ العرب ـ بالذات آتتنا لحظة الفيض للمرة الخامسة كما تنبأ بمقدمها الأستاذ محمدحسنين هيكل منذ 21 سنة، دون أن تبدو حتي الآن أي بادرة للحاق بالفرصة واغتنامالظرف،
من يقرأ كتاب محمد حسنين هيكل «أزمة العرب ومستقبلهم» يظن لأول مرة أنه يتكلمعن واقعنا المعاش منذ بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين وقد عشنا عليمدي 4 سنوات في هزة عنيفة سميت «الربيع العربي» زلزلت أوطانا وهزت عروشاوفككت جيوشا وهي بقدر ما أحدثت من دوي وتهديد قدمت فرصة نادرة أمام هذه الأمة ـوفي القلب منها مصر ـ فرصة للنجاة والانطلاق بعيدا عن حالة وحافة الانتحار واليأس.
لكن الأستاذ هيكل حين اصدر هذا الكتاب عن خلاصة محاضرة ومناقشات أجراها فيباريس في ديسمبر 1995 وقدم فيه شرحا وافيا وتشخيصا دقيقا لحالنا وحال الأمة بعد انتصار أكتوبر 1973 مقارنة بأوضاع الأمة الفرنسية عند خروجها من الحرب العالميةالثانية، كأنه يوبخنا الآن أن علينا أن نتعلم من دروس التاريخ فقد واجهت فرنسا مثلنا عدوا وجبارا يملك كل أدوات العلم والمعرفة والدمار كما واجهنا هذا العدو علي مدي200 سنة اجهض كل محاولات النهوض من بداية القرن التاسع عشر حتي نهاية القرنالعشرين الفارق الوحيد أنه لم يبكن لدينا القدرة بل وقعنا اسرى للخوف من قراءة الواقعوتشخيص الحالة.
ورغم أن واقع 1995 هو نفسه واقعنا في 2015.ورغم تشابه الظرف وأن العدو كانأسبق منا في تقدمه العلمي وتنظيمه الصناعي وان الحلفاء الذين كانوا معنا تحالفواضدنا أو تركونا لمصيرنا وأنهم شركاء في تحالف دولي مهيمن ومادمنا لا نستطيعمقاومتهم، إلا أن الفرصة لدينا الآن أن نختار مستبقلنا بإرادة مستقلة ولانرضخ لهم أو نلحق بهم كما حدث فى السابق، الفارق الحاسم أن فرنسا وجدت لحظة الأزمة رجلااستطاع ان يجعل من إرادته رمزا لإرادة الوطن ومن حضوره بديلا عن غياب شعبه،وكما وصلت باريس في ظل الرجل الذي أنقذها بعد عشر سنوات فقط إلي حالة مللقرر علي أثرها ديجول أن ينسحب إلي العزلة وواصلت بلاده تقدمها، بينما الأمة العربيةوصلت ـ حين ألقى الأستاذ هيكل هذه المحاضرة ـ إلي حالة اكتئاب جماعي بعد أنصار متوسط عمر حكامها ـ عام1995 ـ بنفس الوجوه والأشخاص إلي 19 سنة.
ورغم ذلك كانت تتمني الذهاب إلي المستقبل بطريقة سلمية خالية من العنف برغمظهور بوادر علي نفاد الصبر!
...........
.. وإلى خلاصة الإبحار فىالرؤية ـ النبوءة كما جاءت فى كتاب الأستاذ هيكل «أزمة العرب ومستقبلهم»
»إن شعوبنا سئمت طول الحروب وتكاليفها الباهظة في الدم والموارد..« بدأ الاستاذ محمد حسنين هيكل شرحه لأزمة العرب وضرب مثلا لما جرى فى باريس أثناء الحرب العالمية الثانية وقال:
بين انبهار بالعدو مبالغ في غلوه، وضياع الثقة في النفس مبالغ في رخصه، كان الجومهيأ، وساعده ـ كما حدث عندنا ـ أن بعض الذين كانوا ضمن الأبطال في يوم سابقكالماريشال «بيتان»، تقدموا مبشرين بالرضوخ في يوم لاحق.
علي أن ذاكرة باريس تحكي لنا أن فرنسا وجدت لحظة الأزمة رجلا استطاع أن يجعلمن إرادته رمزاً لإرادة الوطن، ومن حضوره بديلا عن غياب شعبه، ومن تمسكه وإصرارهـ غير المعقول أحيانا ـ إنشاء جديداً لسلطة دولة غير تلك التي رضيت بالهزيمةوتعايشت معها في «فيشي»! .
سر الأزمة وأربعة مشاهد
وفي المقابل يصعب الحديث عن أزمة العرب ومستقبلهم دون فحص لدور العاملالخارجي في صنعها، ووضعه جنبا إلي جنب مع العامل الداخلي.
ففي كل تجربة إنسانية جانبان للحقيقة علي الأقل. وفي تجربة العرب الحديثة تتجليهذه الثنائية في:
} جانب أن العرب عاشوا ويعيشون في موقع جغرافي ومحيط حضاري أرادت القويالغالبة باستمرار أن تسيطر عليهما، ثم استجد عنصر الموارد الاقتصادية مما استوجبالإلحاح علي السيطرة وإلي درجة القتل إذا كان لازما.
} وجانب ثان، هو أن العرب تعاملوا مع أقدارهم علي مستوي أدني بكثير مما كان فيقدرتهم. والنتيجة أنهم بما فعلوه وبما لم يفعلوه وصلوا بأنفسهم إلي حالة وحافة الانتحار،وأحيانا دون لزوم.
وأستأذنكم أن نتوقف أمام أربعة مشاهد ـ ظهر فيها فعل العامل الخارجي ـ وهي مشاهدأحسبها فارقة في التاريخ العربي الحديث وباعتبار أن حملة «نابليون» علي مصر هيالبداية المتفق عليها لهذا التاريخ الحديث. وإذا ظهر من الانطباع الأول أن المشاهدالأربعة مصرية، فقد يرجح من نظرة ثانية ـ متأنية ـ أنها في صميمها عربية: وانتهتجميعها بقوة السلاح.
1 ـ المشهد الأول، هو مشروع «محمد علي» لبناء دولة عصرية في مصر والشام. وقدضُرب مشروع «محمد علي» بواسطة تحالف بين القوي الأوروبية الكبري المعارضةلقيام دولة عربية قادرة تحكم في مصر والشام أو تجدد شباب الخلافة في إستانبول،وهكذا جري تحطيم أسطول «محمد علي» وتمزيق جيشه بقوة السلاح، مما اضطره إليتوقيع معاهدة لندن 1840 .
2ـ المشهد الثاني، هو المشروع التنويري لعصر«إسماعيل» في مصر وقد انتهي هذاالمشروع بالغزو البريطاني سنة . 1882
3 ـ المشهد الثالث، هو التجربة شبه الليبرالية التي أعقبت ثورة سنة 1919 في مصرفإن هذه التجربة بدأ ضربها بكتيبة دبابات بريطانية أحاطت بقصر عابدين وأرغمت ملكمصر يوم 4 فبراير 1942 علي تكليف رئيس وزراء معين بتشكيل الوزارة.
ثم جاءت الضربة القاضية لهذه التجربة شبه الليبرالية عندما أقيمت دولة إسرائيل، ومنثم، أصبح التهديد الخارجي خطراً مستوطناً ومقيما وسط العالم العربي، وليس مجردأساطيل تظهر في البحر أو جيوش تغزو من البر.
4ـ أما المشهد الرابع، فهو المشروع القومي لـ «جمال عبد الناصر» بعد ثورةيوليو1952 لكن هذه المحاولة تعرضت لسبق الإصرار والترصد ثلاث مرات: فيالسويس سنة 1956 ، وفي دمشق سنة 1961 ، وتكرر سبق الإصرار والترصد مرةثالثة وبنجاح سنة 1967 . وكان الجرح غائرا.
ولنقل إن هذه كلها لم تكن مؤامرات بالمعني الدارج والشائع، لكننا لا نستطيع أن ننكرأنها كانت مصالح وإرادات وقوي تدخلت مباشرة، وبالسلاح.
وهنا نعود بالتفصيل إلي الجانب الآخر للحقيقة وهو فعل العامل الذاتي في الأزمةالعربية الراهنة:
1 ـ إن مشروع «محمد علي» مشي بقدميه إلي الحافة الخطرة حين عجز عن التنبه إليأن الدولة العصرية ليست مجرد جيش، ذلك أن الدولة تستطيع أن تقيم جيشا ولكنالجيش لا يستطيع أن يقيم دولة عصرية أن المجتمعات تعيد صياغة مستقبلها جيلا بعدجيل بوسيلتين أساسيتين هما: التعليم والتشريع.
2ـ وعصر «إسماعيل» مشي بقدميه إلي الحافة الخطرة حين غاب عنه أن الحضارة لاتجيء بالاستعارة،
دورة الرقي تربة وبذرة وريّ. ومن المفارقات أن «هوسمان» وهو المهندس الفرنسيالشهير الذي خطط شارع ريفولي وما حوله في باريس كان نفس المهندس الذي بنيشارع محمد علي في القاهرة وعلي نفس الطراز. وفي حين بقي شارع ريفولي وما حولهواجهة حضارية مضيئة، فإن الأنوار انطفأت في شارع محمد علي، وألسنة النيرانالتهمت دار الأوبرا القريبة منه وتحوّل موقعها الآن إلي كتلة صماء من الأسمنت عليشكل مبني لانتظار السيارات!
3ـ والتجربة الليبرالية في مصر مشت بقدميها إلي الحافة الخطرة حين أصبح الاستقلالالوطني فراغا والديمقراطية تجويفا،
4ـ ومشروع «جمال عبد الناصر» مشي بقدميه إلي الحافة الخطرة حين قاده الطموحإلي تصور أن مراحل التطور يمكن اختصارها والقفز فوقها. وبسبب الرغبة فيالاختصار والقفز علي مراحل التطور زاد الاعتماد علي سلطة الدولة في الداخل وعليعروض القوة في الخارج، وانكشف المشروع القومي لمخاطر جعلت محاصرته وإصابتهممكنة في صحراء سيناء سنة 1967 !
لعلي لا أتجاوز الوقائع إذا قلت أمامكم إن المشروع القومي لم يقتله الأعداء ولم ينتحربالأخطاء نتيجة لما حدث سنة 1967.
.. من قلب المحبة جاء النصر
ولم يكن ذلك مجرد شعور نبيل ألهم ـ أو ألهب ـ أمة في وقت محنة، وإنما أضيفت إليالشعور تعزيزات مدد لا يستهان به:
} بينها أن الأمة في كل ما عاشته من تجارب في العصر الحديث من مشروع «محمدعلي« إلي مشروع «جمال عبد الناصر» حصّلت وراكمت مكتسبات مهمة في مجالاتالتعليم والنمو الاقتصادي والاجتماعي والفكري، والاتصال بالعالم والعصر، وذلكأضاف إلي مواردها الإنسانية، وساند إرادتها في اختبارها مع الخطر.
} وبينها أن الأمة استطاعت أمام تحدي المصائر أن تعلو فوق خلافاتها، وأن تستعملترسانتها، من براميل البارود إلي براميل البترول.
} وبينها أن الأمة تمكنت أن تحشد معها ووراءها تحالفا دوليا وعالميا عريضا، حوّلقتالها من حرب بالسلاح إلي حق يستحيل تجاهله.
وهكذا جاء أكتوبر سنة 1973 وأثبتت الأمة في الأيام الأولي علي ضفتي قناة السويسوعلي سفوح الجولان وعند منابع النفط أنها تملك جسارة وكفاءة الفعل، وكانت تلك رسالةمن الحاضر إلي المستقبل مؤداها أن العرب قادرون علي الحرب دفاعا عن مصائرهم.. قادرون هذا اليوم، وأكثر قدرة في أيام بعده.
وبدت تلك فرصة جديدة تعطي أملا مبررا لاقتراب ممكن من علاج الأزمة العربيةوتعقيداتها الشديدة. لكن الأمل تعرض لعملية إجهاض لم يتنبه إليها أحد وسط مشهدأكتوبر الجليل، وبينما الأبصار والأعصاب مشدودة مأخوذة بصدام الجيوش ودويالمدافع وهدير الدبابات وأزيز الطائرات:
} علي ركن من الصورة ، دخلت قوي عالمية نافذة، وألقت بثقلها مصممة علي تغييرالموازين لتعود إلي ما كانت عليه قبل المعركة وقبل اختبار النار.
} وعلي ركن آخر من هذه الصورة، فإن الإدارة السياسية العربية لميادين الحرب آثرتتجنب المخاطر، بظن أنها تستطيع الخروج ببعض ما حققته جيوشها. وكان ذلك ممكنا،لكن ذلك الممكن لم يتحقق، لأسباب كثيرة: بينها الرغبة في تثبيت سلطة الأنظمة قبلعودة المقاتلين، وبينها تقديم المصالح الطبقية علي المصالح القومية، هكذا وقعت عمليةالإجهاض، وكان ذلك محزنا. لكن الأكثر منه مدعاة للحزن أن العملية أريد إخفاؤها عنكل هؤلاء الذين كان لهم الحق أن ينتظروا موعد الميلاد ووعده!
أظن أنه يجوز القول، دون تجن أو تعسف علي الوقائع، أن التحوّل الذي شهدته فترةالنصف الثاني من أكتوبر 1973 وحتي ربيع سنة 1974 ـ كان منحني واسعاً عليالطريق.
قبل هذا المنحني، كان تطور المراحل المتعاقبة في حياة الأمة خطا يتعرج ثم يستقيم،يرتفع ثم يهبط، لكن الخط بقي مرئياً طول الوقت، ظاهرا حتي وإن غطي الزحام أحياناعلي مساره.
البيتانيون العرب!
ومن سوء الحظ، أن »ديجول« لم يكن في الساحة أو بقربها. وكان علي الساحةوبقربها. أكثر من «بيتان» قامت بينهم ـ عبر عواصم عربية متعددة وعلي اختلافالدواعي ـ صحبة تحوّلت إلي عصبة. ووجد «البيتانيون» في العالم العربي عواملمساعدة، لها أسباب كامنة في التجربة العربية، مترسبة في قاعها من فضلات مراحلسابقة، وقد انتهزت هذه الأسباب فرصتها في الأيام الأخيرة من الحرب.
وعندما سكتت المدافع، وانقشع دخان الحريق، كانت السياسة العربية في مأزق صعب،وأصعب منه أنها راحت تتورط وتتدحرج خطوة بعد خطوة:
1 ـ لم يكن في مقدور أحد أن يجاهر أو يصارح أو يعترف بالتحولات الخطيرة التيطرأت علي الوضع سواء بالتقصير أو بالغواية أو بالخوف من العواقب إذا عادالمقاتلون من ميادين الحرب وفي يدهم «نصر من نوع ما»، سائلين عن الميلاد الجديدالمنتظر وعن سلامته.
وكان علي الوهم أن يعوّض الفجوة بين المتوقع والواقع.
2ـ فقد جرت عملية تكثيف الأوهام بأحلام تتسع للسلام، وتتسع للرخاء، يفرشهما منالأفق إلي الأفق ذلك الصديق الأمريكي الذي أقبل متكفلا بالضغط علي إسرائيل ـ لأنهوحده القادر عليه ـ وواعدا بنشر الرخاء ـ لأنه وحده القادر علي المساعدة ـ بمشروع«مارشال» ثان يصنع في الشرق الأوسط سنة 1975 م مثل معجزته الأولي في غربأوروبا سنة 1945.
3ـ ولأن استبقاء الأوهام والأحلام معا يلزمه لتحقيق أغراضه أن يحتفظ بسره «سرالإجهاض» لا يبوح به للناس فالخفاء في السياسة ينزل بمطالبها وبمستواها ويؤثر عليهيبتها وأهدافها.
ومع وقوع ذلك المحظور فقد انحدر التعامل مع الآخرين في الظرف الحاسم منالقاعات المضيئة إلي سراديب المخابرات، عربية ـ عربية، وعربية ـ دولية، وتحوّلتالمطالب والحقوق إلي همسات وصفقات مشكوك في قيمتها وفي نتائجها. وبدوره، فإنذلك جعل الإدارة السياسية العربية متوجسة داخل أوطانها، مرتهنة خارجها!
4ـ كانت دقة الصنعة تتطلب ظهور شواهد عملية تثير الاهتمام وظهر ما عرف بوصف«الانفتاح» يعطي أملا للكافة بأن شيئا ما واصل إليهم. وإذا كان السلام يتلكأ عنموعده، فإن الرخاء مضبوط علي دقات الساعة!
واتسعت الجسور أمام جماعات خفيفة الحركة تمكنت بسرعة من العبور إلي الفرصة.ولم يكن ظهور هذه الجماعات مطلبا للسياسة المحلية أو الإقليمية فحسب، وإنمافرضت علاقات الأشياء ـ بعد حقائقها ـ أن يصبح المطلب دوليا.
5ـ ومن المنطقي في أحوال من هذا النوع، أن تتلاقي جماعات الفرصة مع نخب الإدارةالسياسية المحلية والإقليمية وفي إطار هذه التداعيات والضرورات والمطالب نزلتإجراءات بينها الاستجابة إلي تلك الوصفة للإصلاح الاقتصادي والمالي التي أشار إليهاالبنك وصندوق النقد الدوليان، وبسببها ارتفع دعم الغذاء والكساء والتعليم عن الفقراءبدعوي التخفيف من الأعباء، وفي الوقت نفسه، وقع دعم الأغنياء بوسيلة الإعفاءاتالضريبية والجمركية بدعوي تشجيع الاستثمار!
وشهدت مدن عربية عديدة في مصر والمغرب والأردن وغيرها احتكاكات ومصادماتتحذر وتنذر.
وحدث ـ وهو غير مستغرب في مثل تلك الأجواء المتوترة والقلقة ـ أن كثيرين منالأغنياء تركوا أموالهم تهاجر إلي النظام البنكي العالمي، وأن كثيرين من الفقراء لم يتبقلهم غير الهجرة إلي الله يبحثون عنه في المساجد والزوايا الدينية، بينما كانت الطبقةالمتوسطة تنضغط وتختنق!
6 ـ إن تحالف المصالح التي قامت وتشابكت في هذه الأوضاع، كان في عجلة منأمره، يريد أن يدعم نفوذه ويوسع فرصته، وذلك أدي بدوره إلي نوع من الفساد في العالمالعربي لم يسبق له مثيل، وساعد عليه أن الثروة العربية تدفقت أموالا سائلة من عوائدالنفط.
7 ـ إن تحالف المصالح السياسية والمالية، الإقليمية والدولية، لا يستطيع أن يحتكم إليغير أدوات السلطة، وبالتالي فهو قابض عليها لأنها وسيلته لاستكمال ما تبقي منمطالبه،
والسلطة التي تريد البقاء دون أن تشق علي نفسها بسند الشرعية، لا سبيل أمامها غيرالبقاء بالقهر في مواقعها. وهكذا اتسعت وأفلتت كل هذه الصفقات التي جعلت العالمالعربي في عصر السلام أكثر سلاحا مما كان في عصر الحرب. وعلي سبيل المثال،فإن نفقات العرب علي الأسلحة في عشرين سنة من «عصر السلام»، زادت أربعمائةمرة عما كانت عليه في «عصر الحرب».
8 ـ وتوافق ذلك مع ثورة في تكنولوجيا الإعلام ملكت لنفسها القدرة علي الوصول إليكل ركن قصي وبعيد، وجعلت في مقدور الناس حيث كانوا أن يعرفوا شيئا عما يجريفي كوكبهم وكونهم.
9ـ وفي وسط هذا الزحام والتصادم بين الحقائق والأوهام، وبين الوسائل والغايات، وبينالآمال والأسلحة ـ وقع خلط شديد بين الشرعية والسلطة، وبين روح القانون وصناعةالقانون، وبين الرأسمالية المنشئة والنهب المنظم، وبين الإعلام والإعلان، وبين الدينوالدجل، وبين الإرهاب الطائش والعنف الذي يستمد وقوده من الإحساس بالظلم والعجزعن رده.
وكانت النهاية أن الأمة وقفت أمام خيار متعسف مؤداه أن الذين يعترضون علي الأمرالواقع بما فيه السلام غير المتوازن مع إسرائيل، ليس أمامهم إلاّ أن يواجهوا المستقبلالمظلم تحت حكم التطرف الديني.
انتحار المعنى
وربما كانت أدق لقطة لهذه الصورة المقبضة هي ذلك التعبير الذي صاح به شاعرمبدع «محمود درويش» حين قال: إنه «انتحار المعني» في العالم العربي! .. والتعبيرإلي جانب إلهام الشعر، نبض ضمير.
إن »انتحار المعني« أدي إلي مشاهد مأساوية:
{ خمسة عشر عاما مما سمى : «الحرب الأهلية» في لبنان.
}حرب مقدسة جهاداً في سبيل الإسلام في أفغانستان ما زالت تحتدم حتي الآن. ولمتكن الحرب يقيناً في سبيل الإسلام لأن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ليستمكلفة بالجهاد لنصرته، لكنها كانت حربا بإشراف أمريكي وتمويل عربي 10 ـ بلاييندولار، ـ وهدفها إحراج الاتحاد السوفيتي وغرس الخنجر في ظهره.
} ثم تلت ذلك عملية غزو الكويت بدعوي وحدة التراب العراقي.
وجاءت بعد ذلك حرب الخليج الثانية ـ هدفها تحرير الكويت
} وسواء أدرك العرب أو غفلوا، فإن الحرب لتحرير الكويت، أو لتدمير العراق، أنشأتتحالفا علي الأرض بين العرب وإسرائيل، وأصبح مطلوباً من الطرفين تقنين هذاالتحالف وإبرامه في تعاقد بينهما، سواء هرولوا أو تثاقلوا.
وذهب العرب إلي حيث دعوا وذريعتهم في الاستجابة أن الذي دعا ـ وألح ـ نظام عالميجديد ليس في مقدور أحد أن يعصاه أو يتردد في الاستجابة له إذا نادي وأمر.
في مدريد، وعلي مسرح مهيب شارك التاريخ والفن في تهيئة وإعداد أرضيته وخلفيته،وتولي الإعلام الدولي مهمة تلوينه وإضاءته، وتكفلت الولايات المتحدة بعملية تنظيمهوإدارته ـ كان المعني يواصل انتحاره....
إن »انتحار المعني«. علي طول الطريق من مدريد إلي أوسلو أظهر تغييراً كبيراً فيالموقف الأمريكي من الصراع العربي ـ الإسرائيلي. وبمقتضاه، فإن الولايات المتحدةالتي كانت راعية إسرائيل وسندها أصبحت راعية العرب أيضا في مدريد، وسندالفلسطينيين كذلك في أوسلو.
مبادئ نبيلة في خدمة سياسات يصعب وصفها بالنبل.
إن »انتحار المعني« وجد طريقه حتي إلي قواميس اللغة يعيد كتابة مداخلها ويعطيهامفردات يتناقض فيها اللفظ مع المعني. ولكن أن تراجعوا تعبيرات من نوع«: السلامالعادل والشامل» بغير سلام أو عدل أو شمول ـ و «الشرعية الدولية»»وهي إشارة إليالقوة دون اعتبار لقانون أو مبدأ ،و«التسوية السلمية» معني الاتصال والتفاوض طبقالحقائق فرضها السلاح ، ولم يقتصر الأمر في هذا التناقض علي ما يخص العلاقة معالآخرين، وإنما انسحب علي مفردات خطابنا مع أنفسنا بتعبيرات من نوع «إعادة جدولةالديون» »بدلا من إشهار الإفلاس و«تحريك الأسعار» »بدلا من رفعها ـ و«الثوابتالوطنية والقومية » دون ثبات علي أي مبدأ.
تبدلت معالم الطرق
والحاصل أنه حتي سنة 1974 كان يمكن أن يقال إن هناك تيارا رئيسيا عربيا يتدفقعليه تأريخ وحركة هذه الأمة في العصر الحديث، لكنه منذ ذلك الوقت تبدلت معالمالطرق وانقلبت قواعد السير فيها، وزادت حوادث التصادم.
} إقليم الخليج يتصور أن الصيغة الأمثل لخروجه من الأزمة العربية ولضمان مستقبلههي استمرار فرض المقاطعة علي العراق وتشديد الحصار الدولي علي إيران، وذلكيتكفل بأعدائه، والباقي موكول أمره إلي الولايات المتحدة تعطي الصكوك الضامنة لأمنالأنظمة وأمن الثروة وأمن الأرض.
التصور نفسه يسري في إقليم شمال إفريقيا، يظن أن حل أزمته والطريق إلي مستقبلههناك علي الشاطئ الأوروبي من البحر الأبيض. .. ويظن البعض في شبه الجزيرةالعربية وفي شمال إفريقيا أن التحالفات والصداقات الدولية ضمان واق من التهديداتالإقليمية والضغوط الداخلية، ومطالب الإصلاح الاجتماعي والسياسي، وعنف التياراتالأصولية، وكذلك من قوة الجذب ورابطة الاتصال بالقلب العربي.
والأرجح أن مثل هذه التصورات مؤدية بهذين الإقليمين إلي أزمات إضافية وليس إليحلول لأزمات أصلية. ثم إنها معطلة عن المستقبل أكثر مما هي موصلة إليه.
سوف تستكمل مشاويرها لأن التيار الرئيسي في العالم العربي كفّ ـ ولو مؤقتا ـ عنفيضانه، ولم يعد ما بقي من ماء في مجراه قادراً علي الوصول والتأثير عند الشواطئالخليجية أو المغربية!
} يجيء الدور بعد ذلك علي إقليم الهلال الخصيب، وهو الإقليم الذي أشعر بالخطرالشديد عليه، وأخشي أنه الآن مفتوح لخريطة جديدة ترسم له استعداداً للقرن الواحدوالعشرين، وفي الأغلب قبل انقضاء الربع الأول من ذلك القرن.
وأستأذنكم في أن أقول ـ وبقدر معقول من الاطمئنان إلي صحة القول بأن الإستراتيجيةالعليا في إسرائيل تطلق العنان لتصورات تحوم حول مشاريع قد يستهولها بعضناويحسبها عصية علي التنفيذ.
تبقي المنطقة الأكبر والأخطر في العالم العربي وأعني بها مصر، فهي بوزنها السكانيثلث العالم العربي، ثم هي بموقعها الجغرافي قلبه، وهي بدورها الحضاري محركهالتقليدي. وربما بسبب هذه المواصفات المصرية نفسها فإن الذين يهمهم أن تتباعدالأطراف العربية في الخليج والمغرب، والذين يعكفون علي رسم خطوط الخرائط الجديدةفي الهلال الخصيب ـ لا يريدون مصر بذاتها أو بصفاتها، ولعلهم ـ حربا أو سلاما ـيريدون لها أن تنكفئ علي نفسها، وقصاري ما يسمح لها به ضمن ترتيب جديد للمنطقةأن تتحول في مكانها لا تخرج منه ـ إلي ورشة للعمالة الرخيصة تصنع سلعا يتوليغيرها تصديرها، ثم تفتح سوقها وهي كبيرة في الحجم محدودة في قوتها الشرائية ـ لسلعقد تعرض عنها أسواق أخري. ومن التقلصات الظاهرة الآن علي سطح السياسة العربيةأن مصر تستشعر محاولة «لتحجيم دورها»، وذلك يستفز صبرها خصوصا مع اعتقادهاـ وهو صحيح ـ بأنها كانت الباب إلي الحرب، والباب إلي السلام. والآن بعد انتهاءالحرب، وحتي قبل اكتمال دائرة السلام ـ فإن هناك أطرافاً إقليمية ودولية تريد من مصرأن تتلهي بمشكلات. والمأزق أن مصر حيري بالفعل أمام مشكلاتها وضمنها مشكلاتهوية، ومشكلات تنمية اقتصادية، ومشكلات توجه سياسي واجتماعي، ومشكلات عنفتتعدد أسباب التحريض عليه.
سنة 1968 كما تذكرون كانت فرنسا تحت قيادة «ديجول» قد مشت علي الطريقالطويل من الهزيمة العسكرية أمام الألمان إلي العودة الكاملة كشريك في إدارة العالم.
ومع ذلك، فإن هذا البلد ـ حتي مع بطل وطني كبير من طراز «ديجول» ـ أحسبالحاجة إلي التغيير والتجديد. وتذكرون افتتاحية شهيرة نشرتها جريدة «الموند» سنة1968 وكان عنوانها «فرنسا تشعر بالملل «. وكانت هذه المقالة إشارة ضمن إشارات،تلقاها ديجول وردّ بمرارة: «إن فرنسا لم تعد تريدنى».
الأمة العربية ليست في «حالة ملل» مثلما كانت فرنسا سنة 1968، ولكنها ـ أسوأ منذلك ـ في حالة اكتئاب جماعي.
ولكن السلطة التي استدعت هذه الحالة في العالم العربي لا تملك حساسية «ديجول» أوكبرياءه. والمزعج أن هذه السلطة لم تمسك بالحكم عشر سنوات فقط كما كان الحال مع«ديجول»، وإنما تقول الأرقام إن متوسط عمر الأنظمة الحاكمة في العالم العربيوبنفس الأشخاص والوجوه ـ هو تسعة عشر عاما، ودون أسطورة الجنرال الكبير أوسجله.
كانت «الأمة لا تبحث عن شيء في الماضي، وإنما هي تبحث عن شيء فيالمستقبل، وهي تتمني الذهاب إلي هذا المستقبل بطريقة سلمية خالية من العنف برغمظهور بوادر علي نفاد الصبر. ومن واجب الجميع بغير استثناء أن يساعدوا علي فتحهذا الطريق السلمي إلي المستقبل.
كذلك، فنحن في حالة وعي وقدرة ما دمنا نبحث عن حل، ولعل تلك واحدة من الظواهر اللفتة علي طول العالم العربي وعرضه. ففي كل ركن منه مناقشة، وفي كل محفل فيهحوار. ومعني ذلك أن إرادة الشفاء لدينا، وكذلك إرادة الصحة، إذا استطعنا التوصل إليتشخيص سليم.
علي أن هناك مشكلة تنتظرنا وقد وصلنا إلي هذا الحد. وتلك المشكلة هي التساؤل عن«أي نوع من الأطباء يمكن أن يتصادف وجوده قرب الحالة العربية عندما يستوفيالفحص والتحليل والإحاطة والنفاذ أغراضه وتسنح فرصة لمباشرة تجربة العلاج؟» ـوأحسب أن مخاوفكم ومخاوفي أن تسنح الفرصة وليس هناك طبيب مؤهل ـ وليسمشعوذا أو مغامرا ـ قرب الحالة العربية، وهنا تقع المحظورات التي يلزم توقيها بأي ثمن:
} أولها محظور ضياع الفرصة والاستسلام لعملية نحر وتآكل لا يعرف أحد إلي أينتصل؟
} والثاني محظور الاندفاع إلي الفوضي الشاملة، ولفترة قد تطول، حتي تبرز فيالداخل قوة تقدر علي ضبط الأمور، أو تجيء من الخارج قوة تتولي هذه المهمة!
وأضيف أن هذه الفوضي الشاملة قد تسحب معها ـ وفي الغالب أنها إذا جاءت سوفتسحب ـ زلازل عنيفة علي شقوق وانفلاقات جاهزة للزلازل، وهذا هو أخطر الاحتمالاتعلي أي مستقبل عربي وسط كل الامكانيات الهائلة الزاحفة مع القرن الواحد والعشرين.
واعتقادي أن ما يليق بتأريخ وميراث الأمة وما يقتضيه مستقبلها في الوقت نفسه،يفرض أن تتصدي الهمم لكي تتخطي الظنون. والمخرج الذي يتعلق به أملي هو أنتتنبه العناصر المستنيرة في الأمة سواء في أوطانها أو مهاجرها إلي مهمة واقعة عليها ـوليس علي غيرها ـ وأن تتقدم جميعا إلي دور الفاعل، وليس دور المراقب. وإلي دورالمؤثر، وليس دور المهتم.
...............
.. وبعد هذه النبوءات بما حدث فى المنطقة ولها منذ 2011 بما فيها وصول الحاكم المشعوز وجماعته الى كرسى الطبيب وسدة الحكم .. وبعد اسعادة الثورة في 30 يونيو .. أكرر السؤال الذى بدأ به الأستاذ: هل تتبه الآن العناصر المستنيرة في الأمة سواءفي أوطانها أو مهاجرها إلي مهمة واقعة عليها ـ وليس علي غيرها ـ وأن تتقدم جميعاإلي دور الفاعل وليس دور المراقب وإلي دور المؤثر وليس دور المهتم ؟!
المصدر الاهرام
=========
تعليقات
إرسال تعليق