ليفربول.. مدينة أنقذتها كرة القدم

المصدر الأهرام اليومي . ahram.org.eg . أخبار الرياضة

لم ينج أحد فى بريطانيا من تداعيات فوز فريق ليفربول على برشلونة فى الدور قبل النهائى لأبطال أوروبا. زعيم حزب العمال جيرمى كوربن استشهد بالفوز الكبير لانتقاد أداء رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماى، قائلاً فى جلسة فى البرلمان: «فى ضوء الأداء الرائع لفريق ليفربول ربما يجب على رئيسة الوزراء، تيريزا ماى، أن تأخذ بعض النصائح من يورجن كلوب، مدرب ليفربول، حول كيف تحقق نتائج جيدة فى أوروبا».

قوبلت ملاحظة كوربن بضحك شديد فى البرلمان، حتى ماى نفسها لم تتمالك نفسها من الضحك، لكنها ردت على كوربن باستخدام فوز ليفربول لمصلحتها بالقول إنها يمكنها «استخدام أسلوب ليفربول» لتأمين صفقة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى. وأوضحت:«عندما ننظر إلى فوز ليفربول على برشلونة، فهو يوضح لنا أنه عندما يقول لك الجميع إن كل شىء انتهى. وأن منافسك الأوروبى هزمك بالفعل. وأن الوقت مضى، وحان آوان الاعتراف بالهزيمة، يمكنك تحقيق النجاح إذا ما اتحد الجميع».
طبعاً لم يفت البعض فى وسائل التواصل الاجتماعى ملاحظة المفارقة الموجعة. فالنجاح الذى تريد ماى تحقيقه يعنى «خروج» بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، فيما نجاح ليفربول يعنى «بقاء» الفرقة فى المنافسة الأوروبية العريقة.
الممثل الكوميدى البريطانى ديفيد شنايدر، غرد على حسابه على «توتير»: قائلاً: «لا بأس أن تقارن تيريزا ماى نفسها بفريق ليفربول طالما أنها تتذكر أن ليفربول مستمر فى أوروبا».
مغرد آخر، وهو برادى هاران الذى لديه موقع تعليمى على «يوتيوب» قال: «ليفربول فعل المستحيل من أجل البقاء فى أوروبا. لست واثقاً من أن تشبيه ماى نفسها بالفريق يخدم قضيتها».
آخرون أشاروا إلى أن يورجن كلوب، وهو مدرب ألمانى سيحتاج مثله مثل آلاف اللاعبين والمدربين الأجانب إلى «تصريح عمل» و«تأشيرة» بعد البريكست.
جارى لينكر، هداف انجلترا التاريخى الذى يقدم برنامجا كرويا أسبوعى على «بى بى سى» علق على ماى بسخرية قاسية «نعم. هذه الفرقة التى تتكون من أعراق مختلفة، بمدربهم الألمانى، الذين يناضلون من أجل البقاء فى أوروبا.... تشبيه مثالى». ومعروف ان لينكر ناشط فى حملة إجراء استفتاء شعبى على البريكست. شخص آخر غرد:«تيريزا ماى قارنت نفسها مع ليفربول... النادى الذى أُسس على يد شخص اشتراكى. وفريقه الأول يديره مدير كروى يريد البقاء فى أوروبا. فى مدينة صوتت بقوة للبقاء فى أوروبا»، فى إشارة إلى أن ليفربول صوتت فى استفتاء 2016 لصالح البقاء فى الاتحاد الأوروبى بنسبة 58%.
وفى ضوء عاصفة الانتقادات، تساءل ألستر كامبل، المستشار الصحفى السابق لرئيس الوزراء الأسبق تونى بلير، بسخرية لاذعة عن الشخص المسئول فى «دواننج ستريت» الذى اقترح على ماى تشبيه نفسها بيورجن كلوب وبفريق ليفربول.
قدم فى النهر... وقدم فى اليابسة
لكن أسوأ استقبال لتشبيه ماى نفسها بفريق ليفربول واستلهام فوزه على برشلونة كنموذج لكيفية تحقيقها انتصاراً فى مفاوضات البريكست، سيكون فى ليفربول نفسها، المدينة العمالية التى لديها علاقة صعبة ومركبة مع حزب المحافظين خاصة خلال سنوات مارجريت ثاتشر بين 1979 و1990.
تقف مدينة ليفربول الأنجليزية العريقة، بقدمين: قدم فى اليابسة... وقدم فى النهر الذى يشقها ويمر عبرها مانحاً إياها تلك الميزة الطبيعية وهى كونها «شريانا تجاريا» لانتقال البشر والبضائع. هذه القدم فى النهر سر مكانتها التاريخية. فحركة الملاحة والإمبراطورية البريطانية فى مجدها، جعلت المدينة مركزا عالميا للتجارة. ومن الأرباح الوفيرة بُنيت أجمل مبانيها على الطراز الجورجى والفيكتورى تقف بكبرياء تهيمن على الأفق.
لكن المدينة شحبت مع الزمن وتراجعت مكانتها مع غروب شمس الامبراطورية البريطانية.
ففى الستينيات والسبعينيات تحولت ليفربول تدريجياً لمدينة يهجرها سكانها للعمل فى لندن أو دول أوروبية أو امريكا. وفى الثمانينيات استيقظ السكان على اختفاء الموانئ وكل الاعمال المرتبطة بها. لم تختف الموانئ فجأة طبعاً بل على مدار عقدين. لكن صدمة خسارتها وتأثير ذلك الاقتصادى شعر به سكان المدينة فى الثمانينيات تحديداً. فبحلول ذلك العقد كانت المدينة قد خسرت 50% من الوظائف فى موانئ الشحن والصناعة.
وساهم فى تراجع المدينة «شخصيتها الثورية» وعلاقاتها الصعبة والمعقدة مع نخبة الحكم فى لندن، خاصة خلال سنوات حكم حزب المحافظين. فهى مدينة عمالية بإمتياز، ديناميكية، متمردة، مليئة بالآراء والأفكار، مبدعة، فمنها خرجت فرقة «البيتلز» الموسيقية التى ما زالت أشهر منتج فنى بريطانى، ومنها خرج أشهر الروائيين وكتاب المسرح. لكن سياسات التقشف والاستقطاعات من المجالس المحلية التى طبقتها حكومات المحافظين سارعت من تدهور المدينة التى كانت يوماً عظيمة. ولم يجد السكان رداً سوى بالتظاهرات الحاشدة، التى عادة ما كانت تتحول لأعمال عنف وشغب. وبسبب قوة النقابات العمالية فى المدينة، كان رأى ثاتشر أن هزيمة نقابات ليفربول مدخل ضرورى لهزيمة النقابات العمالية فى كل انجلترا. أما الإعلام البريطانى فى مركزه فى لندن، فكان يصور المدينة على أنها بؤرة قاتمة ومحبطة للبطالة والجريمة. وتصدرت ليفربول قائمة «الأماكن التى لا يجب زيارتها». بإختصار وفى رأى اللورد مايكل هيزلتين الذى كان وزير التنمية المحلية فى حكومة مارجريت تاتشر ومسئول عن تطوير ليفربول، فإن الصورة عن ليفربول كانت «أنها مدينة فردية من الصعب حكمها».
بحثاً عن بطل
وخلال المواجهة مع ثاتشر والفقر ومساكن الصفيح كانت ليفربول كالعادة تبحث عن بطل سياسى، رياضى، فنى، موسيقى وإلى جانب الموسيقى، كانت كرة القدم القلب النابض لليفربول. فمن قلب المدينة المكسور، خرج ليفربول وايفرتون وأصبحا أفضل فريقين فى انجلترا. وخلال الإضطرابات الاجتماعية والاقتصادية فى الثمانينيات كانت المدينة تضع متاعبها على باب ملعب فريقى ليفربول وايفرتون.
وكان تشجيع كرة القدم نوعا من حب السكان للمدينة. وبينما المدينة تمر بأسوأ أوضاعها، كان عقد الثمانينيات العقد الذهبى للفريقين. فخلال ذلك العقد فاز ليفربول أو إيفرتون بلقب الدورى المحلى ثمانى مرات خلال عشر سنوات، حيث فاز ليفربول بالدورى 7 مرات خلال عشر سنوات، كما فاز بالكأس المحلى وكأس رابطة الأندية 6 مرات، وبكأس أوروبا مرتين. كما فاز ايفرتون بالدورى المحلى، والكأس وكأس الرابطة، والبطولة الأوروبية.ومن قلب كرة القدم جاءت الذاكرة الجماعية والشعور بالانتماء للمدينة.
بيروت انجلترا
بهجة ونشوة الفوز أعطت الجميع انطباع أن كل شىء يمكن أن يكون على ما يرام فى المدينة. لكنه طبعاً لم يكن كل شىء على ما يرام. فالوضع الاقتصادى كان يزداد تدهوراً بمرور السنين.
لكن كرة القدم لعبت دوراً أساسياً للحفاظ على «السلامة العقلية» للمدينة، لأنها ابقت تحت السيطرة القوى القلقة المتمردة التى لم تجد ملجأ سوى فى اللعبة الجميلة للهروب من أوضاع اقتصادية لا تتحسن وتراجع فى الدخول وتنامى فى معدلات البطالة. وبينما عانت مدن انجليزية نفس التراجع الأقتصادى، إلا انه كان لديها بدائل اخرى، مثل صناعات بديلة أو الزراعة أو الصيد.
ليفربول لم يكن لديها بدائل. ويقول اللاعب مارك لاورينسون لاعب ليفربول بين 1981 و1988 :«كانت ليفربول مكانا تعسا خلال تلك الفترة. محال فارغة. مساكن فارغة ومظلمة وكئيبة». وخلال سنوات خسرت ليفربول أكثر من نصف سكانها وتُركت مساكنها مهجورة وخاوية ومهملة، بينما 1 من 4 من سكان المدينة يعيشون تحت خط الفقر، فيما مناطق أطلق عليها السكان اسم «بيروت»، فى إشارة إلى العاصمة اللبنانية بيروت خلال الحرب الأهلية، وبحلول عام 1984 كانت نسبة البطالة بين شباب ليفربول 90%. مئات المبانى الخاوية والمهددة بالسقوط تحولت لأماكن لإيواء الكلاب والقطط الضالة، ومركز للعب الأطفال «لعبة الاستغماية». وتقول الناشطة شيرول فارلى إن أطفال الستينيات الذين كانوا يلعبون وسط المبانى المنهارة باتوا شباباً فى الثمانينيات، وتحول لعبهم إلى غضب وتمرد على وضع المدينة وقلة الفرص والبطالة وشروط الحياة.
دفن المدينة
وبينما تحتفل بريطانيا فى 1981 بزواج تشارلز وديانا، انفجرت احتجاجات غاضبة فى ليفربول وهرع الصحفيون يغطون أسوأ اعمال عنف تشهدها المدينة فى تاريخها، حيث امتدت من عدة أحياء لكل المدينة. وبعد تسع ليال متتالية من العنف الذى بدأ فى 3 يوليو 1981 وأسفر عن مقتل شخص، واصابة واعتقال أكثر من 1000 شخص، أجبرت ثاتشر على المجيء بنفسها لزيارة المدينة. لكنها جاءت فى سيارة مصفحة مضادة للرصاص ومرت مثل البرق من وسط المدينة ثم ذهبت فى نفس اليوم.
وفى ملاحظات كتبتها ثاتشر بعد الزيارة وكشف عنها عام 2011، بموجب قانون كشف الوثائق الحكومية كل 30 عاماً، فإن وزير الخزانة آنذاك جيفرى هاو اقترح للخلاص من «معضلة ليفربول»، ترك المدينة «تتآكل اقتصاديا» و«تتهاوى وتتراجع بشكل منظم» عبر إهمالها وعدم دعمها بالتمويل الحكومى حتى يتم إخلاؤها من السكان، موضحاً إن ليفربول يجب اخضاعها و«انها ستكون صعبة مثل حبة بندق صعبة الكسر».
طبعاً رفض اللورد هيزلتين هذه الأفكار، ودافع بضراوة عن المدينة وحاول إقناع ثاتشر أن أفضل طريقة للتعامل مع المدينة هو تنميتها بإستثمارات خاصة وعدم تركها للموت البطئ. وتكشف الأوراق الحكومية أن حكومة ثاتشر لم تستطع التعامل مع فوضى ما بعد التراجع الصناعى فى شمال انجلترا، خاصة ليفربول. ومع أنها فى نهاية المطاف لم تستطع دعم مقترح جيفرى هاو، إلا أنها أيضا لم تدعم المدينة بشكل كبير. ولم يحدث تغيير حقيقى فى حظوظ المدينة للأفضل وتطوير صناعات واقتصادات بديلة فيها إلا بعد مغادرة ثاتشر التى لم ينجح مرشح واحد من حزب المحافظين خلال زعامتها فى ان ينتخب فى المدينة خلال اعمالها.
فى ليفربول لطالما ارتبطت السياسة بكرة القدم بالموسيقى. وقد انقذت كرة القدم ليفربول وسكانها، من الانتحار، من الامراض النفسية والاكتئاب. وكان تشجيع، فريقى المدينة، ليفربول أو ايفرتون، والسفر معهما ليس فقط المتعة الوحيدة للطبقة العاملة فى ليفربول، بل الطقس الذى ساهم فى صنع الهوية الجماعية لهذه المدينة الفريدة. ويقول دريك هاتون، النائب العمالى البارز فى المجلس المحلى للمدينة خلال الثمانينيات والذى دخل فى مسارات تصادمية مع حزب المحافظين حول ميزانية المدينة: «محاولة وصف ليفربول صعبة جداً جداً. الحقيقة الواضحة أننا مختلفون عن كل انجلترا...إنها قصة اختلطت فيها السياسة بكرة القدم بالموسيقى... فى مدينة واحدة إستثنائية».

تعليقات

المشاركات الشائعة