«أوركيديا».. مباراة ساخنة في الأداء الصعب !

المصدر الاهرام . بر مصر
من خلال متابعتي الجدية للدراما السورية في فعلها الحركي الدءوب نحو تحدي البقاء، وبعد ما باتت مثقلة بالجراح جراء حالة الاستقطاب السياسي الحاد التي أدت بالضرورة إلى نزوح أعداد كبيرة من صناع العمل الدرامي إلى خارج سوريا، ألحظ أنها لاتزال تقوى على امتصاص الصدمات المتلاحقة والاستمرارعلى درب الكتابة العذبة، ودهشة الصورة في بصرية فاتنة لا تضاهى،
وهذا ليس بغرض تسجيل نوع من الحضور فحسب، بل المنافسة بقوة على صدارة المشهد الدرامي السوري خاصة، والعربي بشكل عام، تماما كما جاء مسلسل «أوركيديا» ليتصدر رأس الأعمال الدرامية ذات الإنتاج الضخم، وهو يمثل عودة قوية للمخرج «حاتم علي» الذي قدم من قبل العديد من الأعمال الدرامية ذات الصبغة «الفانتازية» مثل «الجوارح - الكواسر - الفوارس» بكتابة هاني السعدي، والتاريخية مثل «ملوك الطوائف - ربيع قرطبة - صقر قريش - صلاح الدين الأيوبي» وغيرها من أعمال لوليد سيف، وروائعه الملحمية التي لم يقترب من سناها مخرج عربي مثل «التغريبة الفلسطينية» و «الزير سالم» للراحل الكبير ممدوح عدوان.
.................................................................

وإذا كان «حاتم» هذه المرة جاء بتوليفة تاريخية مغايرة، ربما تختلف إلى حد ما عما قدمه من قبل من أعمال اعتمدت في الغالب على أحداث وشخصيات ووقائع بعينها، إلا أننا هنا أمام مسلسل ينتمي إلى نوعية الفانتازيا التاريخية أو بحسب يرى مؤلفه «عدنان العودة» ينتمي إلى «الخيال التاريخي»، حيث يعتمد على أحداث خيالية ذات طابع تاريخي تروي وقائع الصراع بين ثلاث ممالك، وهي «أوركيديا وسمارا وأشوريا»، في سياق لايبدو مشابها للمسلسل الأمريكي الشهير «لعبة العروش» كما يعتقد البعض، وهو ما أكده «العودة» قاطعا الشك باليقين بقوله إنه لم يشاهد «لعبة العروش» من الأصل ، ولكن صاحب «فنجان الدم» يميل بطبعه إلى المشاريع التي يكون صانعاً فيها، وبحكم «مراسه البدوي» اختار عنوان «أوركيديا» التي لقّبها الفيلسوف الصيني «كونفوشيوس» بـ «زهرة عطر الملوك»، ليستعيد منطق «حكايا الجدّات القائمة على التشويق وحمل الرسائل» في سياق معالجته القصص التي تتضمن حروب الممالك وأطماع الحكم والنفوذ والثأر والاجتياح والهروب، داخل وخارج قصور وقلاع لاتخلو من الكر والفر في مفاصل السلطة، ومؤامرات أروقتها وشخوصها والنزاعات مع الداخل والخارج، إضافة إلى سؤال دائم حول اليد العليا في علاقة القدر والإنسان.



جمال سليمان

ولأن الحبكة الرئيسية في «أوركيديا» واضحة ومثيرة جدا للاهتمام، والحبكات الفرعية كلها غير مقحمة، بل هى أيضا مثيرة للاهتمام، على مستوى السيناريو والحوار والإخراج، فقد جاء أداء كل فريق العمل جماعيا منسجما وبدرجات متقاربة، فقد جسد النجم الكبير «جمال سليمان» دور الملك «أنمار» ببراعة مطلقة، حيث استطاع ان يمزج بين صفات الملك المثالية من الحزم والقوة والثبات وحب الناس له وبين «أنمار» الملك والانسان العاشق، إنه أفضل ممثل بالنسبة لي، وبأداء جميل جدا يذكرنا ببطولته الرائعة في تلك النوعية من أعمال «الفانتازيا والخيال التاريخي»، فكعادته امتلك «جمال» زمام الشخصية، وظل قابضا على مفاتيحها ولم يفقد أي درجة من بريق أدائه طوال الوقت، على قدر التحولات الرومانسية الكبرى في مسار حياة «أنمار» وصراعات السلطة المقيدة، إلا انه لم يكن يوليها من الاهتمام بقدر ما استحقته الحرفية الخارجية منه، اذ أكد بشكل رئيسي على أهمية التناول الظاهري في التشديد على استخدامات الجسد والصوت والإيماءة والنبرة والمحافظة على التقاليد والأساليب الحرفية، ويبدو أن دافعه في ذلك كله يكمن وراء تحقيق مايطلق عليه (وحدة الأداء) انطلاقا من تقليد (النموذج المثالي) الذي يصل إليه الممثل، بعد ما يكونه في خياله كشكل خارجي كامل من خلال التمارين والذاكرة، وبلاشك عامل الخبرة هنا مكن «سليمان من الوصول للإحساس الصادق، وترجمة العلامات الخارجية للاحساس ترجمة أمينة دقيقة كما يؤكد «ديدرو» ويضيف ( ان الممثل ليس مرادفا للشخصية، إنه يؤدي دورها ويحسن أداءه بحيث تظنون انه الشخصية ذاتها من أجلكم أنتم، أما هو فيعلم تماما إنه والشخصية اثنان لا واحد ).



سالوم وعابد

وفي ذات الاتجاه يأتي أداء «سالوم حداد» بدور «براء الخطيب» ليشير إلى أن الخبرة والثقافة مهمة بالنسبة للممثل، حيث يكون ملما بأغلب المشاعر والأحاسيس وقوة التخيل، وكلها عوامل جعلته يصل إلى قمة الأداء، خاصة في علاقة الإذعان بينه وبين «سيف العز»، والذي جسده ببراعته المعهودة «عابد فهد» والذي يمتاز بعقل وجسم نشيط، ففي هذا العقل والجسم النشيط تكمن قوته الديناميكية لتكوين الشخصية، فضلا عما يتوافر لديه من الإحساس و قوة التركيز وقوة التذكر للحركة الجسمانية، لذا استطاع «فهد» أن يعيش في الدور ويتسلل تحت جلد الشخصية، وأن تكون له المقدرة على إيجاد العلاقات الذهنية و منطقية الإحساس و القدرة على التحليل النفسي، وهذا يعني أن هنالك معينا لاينضب في داخله يستطيع أن يخرج منه هذه الأشياء عند قيامه بأحد الأدوار، وأن يعيش في مجتمع الدور بإحساس صادق، و أن يحاول الوصول إلى أكبر درجة من الإتقان.. تلك هى الموهبة التي تحدد قوة الممثل الذي يدرك الحياة حق الإدراك، و يضعها في خدمة الدور على جناح الشعور و الإحساس.



باسل خياط

وشيئا من هذا الأداء الاحترافي الصعب تلمحه عند «باسل خياط» بدور «عتبة بن الأكثم» والذي أراه الآن في حالة من النضج المخيف في أداء مختلف الأدوار، حين حلق في عوالم إبداعية مغايرة، تشير إلى تركيزه الشديد في الإلمام بكل جوانب الشخصية من الناحية النفسية والاجتماعية، وهو محق في أن التركيز شيئً مهم للممثل، حيث منحه الفرصة في أن يكون قادرًا على زج نفسه في مواقف خيالية لحجب جميع المؤثرات الخارجية عنه، موهمًا نفسه بأنه لا يمثل بل يقوم بدور حقيقي ، لذا تجده قد بدأ دوره بوتيرة عاطفية ناعمة، في وقت يحتفظ فيه بقدر من الصرامة والإصرار على تحقيق حلم استرداد عرش أبيه، وظل يمشي على مهل حتى تسنى له أن يُكسب قدرته التمثيلية قوة وتشويقًا تامشيًا مع متطلبات النص المكتوب بالحركة والإشارة معتمدا على فهم هدف كل دافع عاطفي وراء كل حركة تقوم بها الشخصية.

سامر وقيس

أما «سامر المصري» بشخصية «الملك الجنابي» فقد عزف على أوتار جسده الذي يتميز بقدرة هائلة على تقديم كل معقد من المعاني والرموز، ومن ثم فإن قدرته التعبيرية كممثل تكمن في توظيفه للطبيعة التشكيلية في جسده، مؤمنًا بقدرة هذا الجسد الإنساني على التعبير عن أدق المشاعر والأحاسيس الإنسانية، وأيضًا عن العلاقات بين البشر بعضهم وبعض، فضلا عن اكتسابه القدرة على تطويع الصوت بشكل كبير يسمح له بالتحدث بصوت مرتفع أو منخفض، أو بشكل حاد أو ناعم، الأمر الذي يشير في النهاية إلى إنه واحد من أولئك الممثلين المحترفين دائمي التدرب على تحسين قدراتهم الصوتية ومرونة أجسادهم طوال مدة ممارستهم لموهبة التمثيل، وهو نفس ماجاء به «قيس شيخ نجيب» بشخصية «نامق»، -في إخلاصه للدور الذي يؤديه ، حيث عاش في مجتمع الدور بإحساس صادق، ما أمكنه الوصول إلى أكبر درجة من الإتقان، ليثبت لنا إنه كلما أحب الممثل دوره و أخلص له ظهرت الشخصية، وتبلورت أمامنا بشكل أفضل، فأي ممثل ناجح هو صاحب نبرة الصوت المميزة والحضور القوي، وهو الشخص الذي يستطيع أن يمسك بخيوط كل المواضيع، وأن يطوعها ليعبر عن وجهات نظره، و«قيس» هنا يعرف كيف يتحكم في مختلف المواقف، وكيف يسيطر على الحديث بدون أن يشعر الآخرون بالضيق أو الملل بأدائه السلسل الذي يصل إلى حد السهل الممتنع.

يارا وسلافة

وعلى مستوى الأداء النسائي، أجادت يارا صبري في أداء دور الملكة «الفارعة»، وسلافة معمار في دور الملكة «الخاتون» ، ومي سكاف في دور العرافة «الكاف»، وقد حالفهن الحظ جميعا في تجسيده واستشعار للدور الذي يقمن على تأديته، والذي اعتمد في أحد أوجهه على بلاغة الحوار والبناء الروائي أو ما يسمى الفن الدرامي. وفي هذا الجانب بدين متمتعات بسلامة النطق للغة الأدبية التي كتب بها النص، كما تمتعن بوضوح مخارج الحروف والقدرة اللغوية على التعبير بشكل فني بديع وهو إن لم يكن هذا هو العامل الوحيد لنجاح العمل الفني بشكل عام غير أنه يبقى عاملا مهما.

حبكة جيدة

المسلسل في جله يتمتع بقدر هائل من الثراء، من حيث الشخصيات الكثيرة التي لها وزن وحضور، وبفضل المباراة الساخنة في الأداء الصعب بين كل النجوم من أبطال العمل، وتستطيع أن تلمس التناقضات التي تجعل هذه الشخصيات جميعا مثيرة للاهتمام، حيث هنالك شخصيات خيرة وأخرى شريرة، وفي نفس الوقت ليس هناك ملائكة وشياطين، حتى أن الشخصيات الخيرة ليست معصومة تماما من الرغبة والنزوة وحب التملك ، والشريرة أيضا ليست مجردة من نزعات الحب والتسامح والضعف، ولذلك تأتي خطوط الأحداث في حبكة درامية جيدة للغاية، والمصادفات دورها ضعيف، كما لاتوجد مبالغات محسوسة، في ظل أجواء تصوير تخيلية مجردة من الزمان والمكان مابين «رومانيا وتونس»، لكنها تستند إلى حوار مضمونه رائع، يشد من أزره الالتزام باللغة العربية الفصحى في الإلقاء، وهو ما يمنحنا تعايشا جيدا جدا مع أجواء الأحداث، كما أنه يمنح الشخصيات درجة من درجات الرقي والفخامة، وبفضل الإدارة الاحترافية للمخرج «حاتم علي» انتهينا إلى صناعة دهشة بصرية رائعة، على مستوى الصورة الجميلة والمميزة وغير المتكلفة.

من الملاحظ منذ بداية الحلقات وحتى النهاية أن ما يحرك الأحداث هو قرارات معلنة من جانب الشخصيات ، وهى تبدو واضحة، وتم التحضير لها بشكل جيد ، وفي غالبيتها تحقق النجاح المطلوب ، فليس هناك موت مهم كما أنه ليس هناك صدام كبير، كما لم تفشل أي مخططات، أو نوع من التهديد الذي يثير التوتر، وربما كانت هذه نقطة الضعف الكبرى في أحداث المسلسل في الحلقات الأولى حتى تكون أحداث المسلسل في جملتها مثيرة للترقب، أو تكون محفزة للمشاهد لينتظر الحلقة القادمة، صحيح أن الأحداث كانت تبدو دافئة لكنها افتقدت للفوران والغليان الذي يجبرك على المتابعة بلهفة لحلقة بعد الأخرى كما تحقق ذلك في سياق أحداث الحلقات العشر الوسطى، والتي انتقلنا معها من صراع الممالك والسلطة في أجواء ملحمية مع بعض اللمسات الرومانسية، حيث الأمير عتبة يكمل خططه ويضع استراتيجية في إطار استعادة عرشه المفقود، وحيث اتضح من إرسال «خولة» لأشوريا هو محاولة استدراج «الحكيم براء»، وقد نجحت في ذلك، والغرض من فريقه الذي يشبه النينجا الذي يكونه هو اقتحام سيف العز وقد نجح في ذلك أيضا.

تشويق درامي

وما يزيد من حالة التشويق الدرامي وسط هذه المخططات أن تخطف الأميرة «رملة» دون الكشف عن هوية خاطفها حتى نكتشف في النهاية من الذي دبر خطفها، ومحاولات الإيقاع بالملك «أنمار» في حرب ضد الملك «الجناني»، وبشارة الأخير بأن زوجته حامل بولي العهد أو الوريث الذي تمناه كثيرا، والذي لايعرفه أن زوجته حامل في الحرام من «نامق» بعد تدهور حالته على فور علمه باستغلال الملكة له بعد تأكدها من أن الملك عاقر، ثم خطط «سيف العز» طويلة الأمد للاحتفاظ بالعرش بمحاولة إجهاض الملكة «خاتون» ، لكن تسارع الأحداث يحول دون ذلك وصولا إلى الوقت الذي يتم فيه تتويج عتبة على عرش أوركيديا، وهنالك خطوط جانبية تزيد من التشويق في مثلث الحب بين «رشيد ووائل وبراءة»، وقصة العرافة «الكاف»، فضلا عن خطوط جانبية أخرى لها صلة بالخط الرئيس تظهر مع مرور الحلقات.

الأمر المؤكد أن مسلسل «أوركيديا» يعد واحدا من المسلسلات التي كسرت القاعدة، سواء بتقديم تحولات لتغيير مسار القصة بالكامل، من حيث كفاءة اختيار الوقت المناسب لطرح منشطات في القصة بدون خلق تحولات كبيرة في مسارها، مثل حمل خط الملكة «الخاتون» لعدد من المفاجآت من الأسباب أهمها على الإطلاق أننا حتى الحلقة الثامنة كنا ننظر إلى هذه الشخصية على أنها حمل وديع وسط غابة الأشرار، ولكن المسلسل احترم رؤيته لشخصياته، لأنه ليس من بينهم ملائكة وشياطين ، وظل أنقى ملاك في الأحداث يلجأ لأسوأ حل حتى يحافظ على مكانته.

وما لفت نظرى على المستوى الإخراجي، فإن حاتم على لا يشغل باله كثيرا بعمليات تصميم الإنتاج الرائعة خارج إطار أهميتها للقصة والشخصيات، فلا يوجد هنالك لقطات طويلة وزوايا واسعة يستعرض فيها البذخ والرفاهية الموجودة في القصور، وهناك بعض الخلفيات التي تبدو تركيبها بطريقة بدائية ومكشوفة جدا، لكنه لا يبالي بذلك كثيرا، لأنه ليس له آثار سلبية على تجربة المشاهدة، فأغلب المشاهد تبدو هادئة وتقوم على الحوار في الأساس، لذا أظهر «على» إبداعا جميلا في تلك المشاهد واختيار الزوايا وانتقال الكاميرا بعمل «فوكس» تزامنا مع ايقاع موسيقى إياد الريماوي الذي أكمل ببراعة الصورة الدرامية لكل مشهد بامتياز، ما عدا تتري المقدمة والنهاية اللذين يقتربان جدا من تتري مسلسله السابق «العراب – نادي الشرق» مع حاتم على أيضا.. وتلك ربما تكون الخطيئة الكبرى في المسلسل على ما شهده من مباراة جادة وحقيقية في الأداء الصعب لكل فريق العمل.

تعليقات

المشاركات الشائعة